Tafsir Mizan
تفسير الميزان - العلامة الطباطبائي
Géneros
ثم إنه يختار مكانه كل تعب وعناء ومكروه وألم بالميل إلى حياة فانية، وجيفة منتنة دانية، ثم إنه لو رجع بعد ذلك إلى ربه لأعاده إلى دار كرامته وسعادته ولو لم يرجع إليه وأخلد إلى الأرض واتبع هواه فقد بدل نعمة الله كفرا وأحل بنفسه دار البوار، جهنم يصلاها وبئس القرار.
قوله تعالى: "فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه"، التلقي هو التلقن، وهو أخذ الكلام مع فهم وفقه وهذا التلقي كان هو الطريق المسهل لآدم (عليه السلام) توبته.
ومن ذلك يظهر أن التوبة توبتان: توبة من الله تعالى وهي الرجوع إلى العبد بالرحمة، وتوبة من العبد وهي الرجوع إلى الله بالاستغفار والانقلاع من المعصية.
وتوبة العبد، محفوفة بتوبتين من الله تعالى، فإن العبد لا يستغني عن ربه في حال من الأحوال، فرجوعه عن المعصية إليه يحتاج إلى توفيقه تعالى وإعانته ورحمته حتى يتحقق منه التوبة، ثم تمس الحاجة إلى قبوله تعالى وعنايته ورحمته، فتوبة العبد إذا قبلت كانت بين توبتين من الله كما يدل عليه قوله تعالى: "ثم تاب عليهم ليتوبوا : التوبة - 119.
وقراءة نصب آدم ورفع كلمات تناسب هذه النكتة، وإن كانت القراءة الأخرى وهي قراءة رفع آدم ونصب كلمات لا تنافيه أيضا.
وأما أن هذه الكلمات ما هي؟ فربما يحتمل أنها هي ما يحكيه الله تعالى عنهما في سورة الأعراف بقوله: "قالا ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين": الأعراف - 23، إلا أن وقوع هذه الكلمات أعني قوله: "قالا ربنا ظلمنا" الآية قبل قوله: "قلنا اهبطوا" في سورة الأعراف ووقوع قوله "فتلقى آدم" الآية بعد قوله: قلنا اهبطوا، في هذه السورة لا يساعد عليه.
لكن هاهنا شيء: وهو أنك عرفت في صدر القصة أن الله تعالى حيث قال: "إني جاعل في الأرض خليفة"، قالت الملائكة: "أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك" الآية وهو تعالى لم يرد عليهم دعواهم على الخليفة الأرضي بما رموه به ولم يجب عنه بشيء إلا أنه علم آدم الأسماء كلها.
ولو لا أنه كان فيما صنعه تعالى من تعليم الأسماء ما يسد باب اعتراضهم ذلك لم ينقطع كلامهم ولا تمت الحجة عليهم قطعا.
ففي جملة ما علمه الله تعالى آدم من الأسماء أمر ينفع العاصي إذا عصى والمذنب إذا أذنب، فلعل تلقيه من ربه كان متعلقا بشيء من تلك الأسماء فافهم ذلك.
واعلم أن آدم (عليه السلام) وإن ظلم نفسه في إلقائها إلى شفا جرف الهلكة ومنشعب طريقي السعادة والشقاوة أعني الدنيا، فلو وقف في مهبطه فقد هلك، ولو رجع إلى سعادته الأولى فقد أتعب نفسه وظلمها، فهو (عليه السلام) ظالم لنفسه على كل تقدير، إلا أنه (عليه السلام) هيأ لنفسه بنزوله درجة من السعادة ومنزلة من الكمال ما كان ينالها لو لم ينزل وكذلك ما كان ينالها لو نزل من غير خطيئة.
فمتى كان يمكنه أن يشاهد ما لنفسه من الفقر والمذلة والمسكنة والحاجة والقصور وله في كل ما يصيبه من التعب والعناء والكد روح وراحة في حظيرة القدس وجوار رب العالمين، فلله تعالى صفات من عفو ومغفرة وتوبة وستر وفضل ورأفة ورحمة لا ينالها إلا المذنبون، وله في أيام الدهر نفحات لا يرتاح بها إلا المتعرضون.
فهذه التوبة هي التي استدعت تشريع الطريق الذي يتوقع سلوكه وتنظيف المنزل الذي يرجى سكونه، فوراءها تشريع الدين وتقويم الملة.
ويدل على ذلك ما تراه أن الله تعالى يكرر في كلامه تقدم التوبة على الإيمان.
قال تعالى: "فاستقم كما أمرت ومن تاب معك": هود - 112، وقال: "وإني لغفار لمن تاب وآمن": طه - 82، إلى غير ذلك من الآيات.
قوله تعالى: قلنا اهبطوا منها جميعا فإما يأتينكم مني هدى.
وهذا أول ما شرع من الدين لآدم (عليه السلام) وذريته، أوجز الدين كله في جملتين لا يزاد عليه شيء إلى يوم القيامة.
وأنت إذا تدبرت هذه القصة قصة الجنة وخاصة ما وقع في سورة طه وجدت أن المستفاد منها أن جريان القصة أوجب قضاءين منه تعالى في آدم وذريته، فأكل الشجرة أوجب حكمه تعالى وقضاءه بالهبوط والاستقرار في الأرض والحياة فيها تلك الحياة الشقية التي حذرا منها حين نهيا عن اقتراب الشجرة هذا.
Página 75