Tafsir Mizan
تفسير الميزان - العلامة الطباطبائي
Géneros
وهذا يحتمل وجهين: أحدهما أن يتوسل تعالى إليه من غير سبب مادي وعلة طبيعية بل بمجرد الإرادة وحدها، وثانيهما أن يكون هناك سبب طبيعي مستور عن علمنا يحيط به الله سبحانه ويبلغ ما يريده من طريقه إلا أن الجملة التالية من الآية المعللة لما قبلها أعني قوله تعالى، قد جعل الله لكل شيء قدرا تدل على ثاني الوجهين فإنها تدل على أن كل شيء من المسببات أعم مما تقتضيه الأسباب العادية أو لا تقتضيه فإن له قدرا قدره الله سبحانه عليه، وارتباطات مع غيره من الموجودات، واتصالات وجودية مع ما سواه، لله سبحانه أن يتوسل منها إليه وإن كانت الأسباب العادية مقطوعة عنه غير مرتبطة به إلا أن هذه الاتصالات والارتباطات ليست مملوكة للأشياء أنفسها حتى تطيع في حال وتعصي في أخرى بل مجعولة بجعله تعالى مطيعة منقادة له.
فالآية تدل على أنه تعالى جعل بين الأشياء جميعها ارتباطات واتصالات له أن يبلغ إلى كل ما يريد من أي وجه شاء وليس هذا نفيا للعلية والسببية بين الأشياء بل إثبات أنها بيد الله سبحانه يحولها كيف شاء وأراد، ففي الوجود عليه وارتباط حقيقي بين كل موجود وما تقدمه من الموجودات المنتظمة غير أنها ليست على ما نجده بين ظواهر الموجودات بحسب العادة ولذلك نجد الفرضيات العلمية الموجودة قاصرة عن تعليل جميع الحوادث الوجودية بل على ما يعلمه الله تعالى وينظمه.
وهذه الحقيقة هي التي تدل عليها آيات القدر كقوله تعالى: "وإن من شيء إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم": الحجر - 21، وقوله تعالى: "إنا كل شيء خلقناه بقدر": القمر - 49، وقوله تعالى: "وخلق كل شيء فقدره تقديرا": الفرقان - 2، وقوله تعالى: "الذي خلق فسوى والذي قدر فهدى": الأعلى - 3.
وكذا قوله تعالى: "ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها": الحديد - 22، وقوله تعالى: "ما أصاب من مصيبة إلا بإذن الله ومن يؤمن بالله يهد قلبه والله بكل شيء عليم": التغابن - 11.
فإن الآية الأولى وكذا بقية الآيات تدل على أن الأشياء تنزل من ساحة الإطلاق إلى مرحلة التعين والتشخص بتقدير منه تعالى وتحديد يتقدم على الشيء ويصاحبه، ولا معنى لكون الشيء محدودا مقدرا في وجوده إلا أن يتحدد ويتعين بجميع روابطه التي مع سائر الموجودات والموجود المادي مرتبط بمجموعة من الموجودات المادية الأخرى التي هي كالقالب الذي يقلب به الشيء ويعين وجوده ويحدده ويقدره فما من موجود مادي إلا وهو متقدر مرتبط بجميع الموجودات المادية التي تتقدمه وتصاحبه فهو معلول لآخر مثله لا محالة.
ويمكن أن يستدل أيضا على ما مر بقوله تعالى: "ذلكم الله ربكم خالق كل شيء": المؤمن - 62، وقوله تعالى: "ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها إن ربي على صراط مستقيم": هود - 56.
فإن الآيتين بانضمام ما مرت الإشارة إليه من أن الآيات القرآنية تصدق قانون العلية العام تنتج المطلوب.
وذلك أن الآية الأولى تعمم الخلقة لكل شيء فما من شيء إلا وهو مخلوق لله عز شأنه، والآية الثانية تنطق بكون الخلقة والإيجاد على وتيرة واحدة ونسق منتظم من غير اختلاف يؤدي إلى الهرج والجزاف.
والقرآن كما عرفت يصدق قانون العلية العام في ما بين الموجودات المادية، ينتج أن نظام الوجود في الموجودات المادية سواء كانت على جري العادة أو خارقة لها على صراط مستقيم غير متخلف ووتيرة واحدة في إستناد كل حادث فيه إلى العلة المتقدمة عليه الموجبة له.
ومن هنا يستنتج أن الأسباب العادية التي ربما يقع التخلف بينها وبين مسبباتها ليست بأسباب حقيقية بل هناك أسباب حقيقية مطردة غير متخلفة الأحكام والخواص كما ربما يؤيده التجارب العلمي في جراثيم الحياة وفي خوارق العادة كما مر.
3 - القرآن يسند ما أسند إلى العلة المادية إلى الله تعالى
ثم إن القرآن كما يثبت بين الأشياء العلية والمعلولية ويصدق سببية البعض للبعض كذلك يسند الأمر في الكل إلى الله سبحانه فيستنتج منه أن الأسباب الوجودية غير مستقلة في التأثير والمؤثر الحقيقي بتمام معنى الكلمة ليس إلا الله عز سلطانه.
Página 41