قال جالينوس: قد اتفق جل من فسر هذا الكتاب على أن هذا القول فصلا واحدا كان أو فصلين فهو صدر لهذا الكتاب كله، لكنه يعسر أن * يعلم (1) ما الذي أراده أبقراط باتسعماله هذا الصدر. ولعلنا نقف على ذلك أن نحن * تقدمنا (2) * وبحثنا (3) عن جميع ما في هذا القول شيئا * شيئا (4) . وقد اتفق جميع من فسر هذا الكتاب * أن (5) أبقراط إنما قال إن * «العمر (6) قصير» لما قاسه إلى طول صناعة الطب. فأما الصناعة فأرى أنه إنما قال إنها طويلة، لأن الوقت الذي يفعل فيه كل واحد من * جل (7) أفعالها الجزئية يسير ضيق ولذلك يعسر الوقوف عليه حتى يحتاج الذي يريد تعرفه إلى رياضة طويلة ودربة * بالغة (8) ، ولأن استخراج * جميع (9) ما يستخرج في الصناعة يكون بآلتين أحدهما التجربة والأخرى القضاء بالقياس، واستعمال PageVW1P091A * الأولى (10) خطر، * واستعمال (11) * الثانية (12) ليس يسهل لكنه من أعسر ما يستعمل. وإنما صار الوقت ضيقا من قبل * جنس (13) * العنصر (14) الذي * تستعمله (15) هذه الصناعة وهو أبدان * الناس (16) . وذلك لأن البدن سريع الاستحالة سهل التغير من نفسه فضلا عن * تغيره (17) من الأسباب التي من خارج. فأما التجربة فإنما صارت خطرا لشرف هذا * العنصر (18) لا لسرعة استحالته، فإن * هذا (19) قد * دخل (20) في ضيق الوقت. فأما القضاء فإن فهم منه ما * قد (21) فهمت أنه يعني به القياس فصعوبته بينة إذا كان الاختلاف فيه باقيا في سالف الدهر إلى هذه * الغاية (22) . وإن كان إنما عنى به ما قال قوم من أصحاب التجارب وهو الحكم على * الأشياء (23) التي تمتحن بالتجربة وما يعقب فإن ذلك أيضا مما * لا (24) * تخفى (25) صعوبة الوقوف على حقيقته، إلا أنه يستبين في غرض هذا الكتاب * كله (26) أن الذي وضعه رجل من أصحاب القياس. وفي هذا الموضع * يقضي (27) الجزء الأول من صدر هذا الكتاب. وأما الجزء الثاني منه فلم يخرجه مخرج * خبر (28) كما فعل في الجزء الأول لكنه أخرجه مخرج مشوره، فقال «وقد ينبغي لك أن لا تقتصر على توخي فعل ما ينبغي دون أن يكون ما يفعله المريض ومن يحضره كذلك والأشياء التي من خارج» كأنه قال «قد ينبغي لك أيها القارئ لكتابي هذا إن أردت * أن (29) تختبر وتمتحن وتعرف حقيقة ما كتبت في كتابي هذا أن لا تقتصر إذا كنت متطببا على أن تفعل جميع ما تفعله على ما ينبغي، لكنه PageVW7P008B قد يجب أن PageVW1P091B يجري جميع أمر المريض ومن PageVW6P001B يخدمه والأشياء التي * من (30) * خارج (31) على الصواب وما لا يلحقه * ذم (32) ». فتصير جملة القول الأول * محصورة (33) في قوله «العمر قصير والصناعة طويلة»، لأن جميع ما يتلو هذا من القول الأول إنما هو برهان على أن «الصناعة طويلة». ويصير القول الثاني بعده كأنه شرط وصلح * فيما (34) بينه وبين من يريد قراءة كتابه وامتحانه. وقد * ينبغي (35) الآن أن ننظر ما الذي أراد بتصديره في * أول (36) كتابه * أن (37) «العمر قصير» إذا قيس إلى طول صناعة الطب. فإن هذا هو الغرض الذي قصدنا إليه منذ أول كلامنا. وقد قال قوم إنه إنما أراد بذلك أن يحث من يقصد * لتعلم (38) هذه الصناعة على ما ينبغي * وما (39) يستحق، وقال آخرون * إنه (40) إنما أراد * بذلك (41) الصد عنها، وقال آخرون إنه إنما أراد * بذلك (42) محنة من يريد تعلم هذه الصناعة على ما ينبغي ومن ليس كذلك والتمييز بينها. وقال آخرون * إنه (43) إنما أراد بذلك أن يبين العلة التي لها ينبغي أن * يوضع (44) كتب الطب على طريق الفصول. وقال آخرون إنه إنما وصف في هذا القول الأسباب التي من أجلها صارت هذه الصناعة * تستعمل (45) الحدس والتقريب، وقال آخرون إنه * إنما (46) أراد * به (47) أن يصف من كم سبب يخطئ المتطبب غرضه. وأنا مبتدئ بقول آخر مما * ذكرت (48) فأقول إنهم * قد (49) بعدوا جدا عن المعنى فيما أرى . وذلك أنه ليس من فعل حكيم ولا مما يشبه عقل أبقراط خاصة وعلمه أن يفتح كتابه بأن يعلم أن هذه الصناعة PageVW1P092A صناعة إنما * تستعلم (50) الحدس * والتقريب (51) أو أنها * قد (52) * تخطئ (53) غرضها * والغاية (54) التي يقصد إليها إما بسبب المستعملين * للصناعة (55) وإما بسبب طول الصناعة نفسها. وقوله أيضا * «وقد (56) ينبغي * لك (57) أن لا تقتصر على توخي فعل ما ينبغي دون أن يكون ما يفعله المريض ومن يحضره كذلك والأشياء التي من خارج» يدل على ضد ما ذكر هؤلاء. وذلك أن هذا القول إنما يليق برجل يتضمن صحة جميع ما يصفه في كتابه لا برجل يقر بأنه قد * يخطئ (58) غرضه والغاية التي يقصد إليها من قبل أسباب كثيرة. ولو كان أراد ذلك لما كان يقول «وقد ينبغي لك»، لكنه كان من بعد قوله «العمر قصير والصناعة طويلة والوقت ضيق والتجربة خطر والقضاء عسر» سيتبع قوله هذا بأن يقول «وقد يخطئ * المتطبب (59) أيضا على المريض * والمريض (60) على نفسه وخدمه عليه». ومن قال أيضا إنه إنما أراد بقوله إن «العمر قصير والصناعة طويلة» أن يصد عنها فلا * أرى (61) أنه * محسن (62) . فإنه من * غاية (63) الجهل أن يضع رجل كتابا * يخلفه (64) لمن * يأتي (65) بعده كأنه مما * ينتفع (66) به، ثم يجعل افتتاح كلامه فيه الصد عن الصناعة بأسرها التي تضمن تعليمها فضلا عن قراءة كتابه وتعلم ما كنت فيه. فأما من قال إنه إنما أراد بهذا القول أن يحث على تعلم هذه الصناعة بحرص وعناية لأنه لا يمكن تعلمها واستيفاؤها بأسرها إلا بذلك إذ كان العمر الذي يتعلم فيه قصيرا وكانت هي PageVW6P002A في نفسها طويلة فإنه وإن كان قد قال حقا فإنه لا يشبه فيما أرى هذا الصدر عقل أبقراط PageVW1P092B ورأيه ولا ما قاله في كباته هذا وكذلك * عندي (67) قول من قال إنه إنما * قصد (68) بهذا القول إلى امتحان من يريد تعلم هذه الصناعة، فإن هذا القول أيضا حق وقد قال أفلاطون * إن (69) من أبلغ الأشياء في امتحان همه المتعلم لصناعة ما أي صناعة كانت أن يبين له أن تعلمها طويل عسر إلا أن ذلك إنما يكون بالمشافهة لا توضعه في كتاب ولا أرى أيضا أن هذا الصدر يشبه * هذا (70) الكتاب. وذلك أنه ينبغي أن يكون الصدر مشاكلا لما يذكر في الكتاب إلا أن يكون أبقراط أراد أن يقرأ كتاب الفصول قبل سائر كتبه كلها فجعل لذلك في صدره كلاما عاما لصناعة الطب كلها يدل * به (71) على أن تعلم الطب ليس يصل إليه كل من أراده إذ كانت صناعة * طويلة (72) وإنما يصل * إليها (73) من * كان (74) يتسع له من الزمان ما يمكنه فيه * تعلمه (75) وكانت طبيعته * طبيعة (76) مواتية له على ذلك. ومن رأي أن هذا القول مقبولا أعني أن أبقراط جعل صدر هذا الكتاب عاما لصناعة الطب كلها فليس يذم أيضا قول من قال PageVW7P009A إنه إنما أراد بهذا القول * يبين (77) العلة التي من أجلها ينبغي أن توضع كتب * الطب (78) . وقد جعل أبقراط في كتاب له سماه قاطياطرين أي مدخل الطب صدرا عاما لجميع أنحاء الاستدلال في الطب كما سنبين في تفسيرنا لذلك الكتاب. فقد حصل عندي أن الذين قالوا إنه إنما أراد بهذا الصدر أن يبين العلة التي من أجلها جعل طريق كلامه وتعليمه في هذا الكتاب على هذا النحو أعني * على (79) طريق الفصول أو أن يخبر بالجملة PageVW1P093A * بمنفعة (80) وضع الكتب * هم (81) أحمد قولا من غيرهم. وذلك أن هذا الطريق من التعليم أعني طريق الفصول وهو استقصاء جميع خواص المعنى الذي * يقصد (82) إليه بالإيجاز والإحاطة بها من أنفع الأشياء لمن أراد * أن (83) * يتعلم (84) * صناعة (85) طويلة في عمر قصير. ومن أصوب الأشياء أيضا أن يقال * إنه (86) قد ينبغي بالجملة أن توضع كتب * الطب (87) ، لأن العمر قصير إذا قيس إلى طول الصناعة. وذلك أنه ليس أحد من الناس يقوى على أن يستخرج هذه الصناعة * ويستتمها (88) عن آخرها * ويود (89) الآتي بعده * أن (90) * يتعلم (91) في المدة * القصيرة (92) من الزمان ما علمه من كان قبله في مدة طويلة من الزمان ثم يزيد ويستخرج هو أيضا أشياء * أخر (93) فيصير يوما * ما (94) إلى * استكمال (95) الصناعة. فإني أرى أن أبقراط إنما استعمل هذا الصدر لأحد هذين المعنيين أو لهما جميعا، كأنه قال * (96) * إنه (97) لما كان مقدار طول الصناعة * مجاوزا (98) لمقدار عمر الإنسان حتى لا يمكن الإنسان الواحد PageVW6P002B وإن بلغ الغاية من الحرص والاجتهاد أن يبتدئ * بهذه (99) الصناعة ويبلغ منها إلى غايتها ومنتهاها، صار من أجود الأشياء أن يكون الإنسان * يخلف (100) جميع ما علم في دهره لمن * يأتي (101) بعده في كتب * كثيرة (102) يشرح فيها جميع * أمر (103) الأشياء التي * ذكرناها (104) باستقصاء وإيجاز وبيان. فأما ما ذكره بعد هذا فإنما جعله برهانا على أن الصناعة طويلة وهو قوله «والوقت ضيق والتجربة خطر والقضاء عسر»، * كما (105) لو قال «العمر قصير والصناعة طويلة» لأن الوقت ضيق والتجربة * خطر (106) والقضاء * عسر (107) . وذلك أن الصناعة إنما صارت طويلة لأن وقت فعل ما يفعل منها PageVW1P093B ضيق، يعني أنه قليل * المدة (108) ومع * ذلك (109) * لأن (110) الاشياء التي يتداوى * بها (111) تستخرج وتؤخذ * باثنين (112) وهما القياس والتجربة، والتجربة خطر والقياس عسر، * يعني (113) * أنه (114) ليس يسهل معرفته. وليس يعسر أن تتبين صحة كل واحد من هذه الأشياء التي * ذكرناها (115) بإيجاز واختصار. أما قوله «الوقت ضيق» فمنحل * العنصر (116) الذي تعالجه بهذه الصناعة أعني بدن الإنسان إذ كان يجري كما يجري الماء ويتغير في أقل الأوقات. وأما قوله «التجربة خطر» * فلمكان (117) العنصر * الذي (118) تعالجه صناعة الطب. وذلك أنه ليس الجوهر الذي يعالجه * الطب (119) * لبن (120) أو طين أو خشب أو حجارة أو * أجر (121) أو جلود * كالجواهر (122) * التي (123) تعالجها سائر الصناعات * فلا (124) يضر أن يجرب عليه ما يجرب بأنحاء * شتى (125) من التجربة ويرتاض في الصناعة * ويدرس (126) علومها ويتدرب فيها كما يعمل النجارون في الخشب والأساكفة في الجلود. وذلك أن النجار والإسكاف * إن (127) استعملا الخشب والجلود استعمالا رديئا فأفسدا هما فليس في ذلك خطر. * والخطر (128) في تجربة شيء لم يجرب على بدن إنسان * عظيم (129) * لأن (130) التجربة إن وقعت رديئة عطب من يجرب عليه وتلف حياته. والقضاء وهو القياس لأن به يقضى ويحكم على ما ينبغي أن * يفعل (131) * فعسر (132) والوقوف عليه صعب أعني القياس الصحيح كما قد ندلك كثرة الفرق في الطب. وذلك أنه لو كان يمكن أن يوجد الحق بسهولة لما كان يقع بين الطالبين له هذا الاختلاف كله، إذ هذه حالهم في أنفسهم وعلمهم * وبهذا (133) المقدار من الكثرة * هم (134) . PageVW1P094A * وأما (135) أصحاب التجارب فيقولون إنه لم يرد بالقضاء القياس وإنما أراد به الحكم على الأشياء التي توجد بالتجربة وما يعقب. وبالحقيقة فإن هذا * أيضا (136) عسر والوقوف عليه صعب * أعني (137) أن يكون المريض قد عولج بأصناف * شتى (138) من العلاج فتظهر * منفعته (139) أو * مضرته (140) فيحكم أن تكون * المنفعة (141) أو المضرة إنما كان سببها واحد من أصناف ذلك العلاج. وذلك أنك * إن (142) جعلت في المثل أن مريضا PageVW6P003A نام نوما صالحا ثم انتبه فمسح بدهن ثم * ضمد (143) ثم حقن أو انطلق بطنه من تلقاء نفسه ثم أكل * طعاما (144) بحال ما ثم حدثت له بعد هذه الأشياء كلها منفعة أو مضرة فليس PageVW7P009B يسهل أن يقال من * قبل (145) أي هذه الأشياء كلها التي كانت حدثت هذه المنفعة للمريض أو المضرة. وجملة القول أنه من * أجل (146) هذه الأشياء * كلها (147) صارت الصناعة طويلة إذا قيست بمقدار عمر الإنسان الواحد. وصار وضع الكتب وتخليفها لمن يأتي بعدنا نافعا لا سيما إن كانت مختصرة على طريق الفصول، لأن هذا النحو من التعليم يصلح لأول تعلم الإنسان * بالشيء (148) * وليحفظه (149) لما قد يعلمه ولتذكره ما * ينساه (150) بعد. وما قاله بعد هذا أيضا موافق لهذا. وذلك أنه أتبع * قوله (151) كلامه كأن في صدر كتابه في * نفس (152) الكتاب وما ذكر فيه فإنه قال «وقد ينبغي لك أن لا تقتصر على توخي فعل ما ينبغي دون أن يكون ما يفعله المريض ومن يحضره كذلك والأشياء التي من خارج». ومعنى قوله هذا أنك إن أردت PageVW1P094B أن تختبر ما في كتابي هذا وتعرف حقيقته فليس ينبغي * لك (153) أن تقتصر على * فعل (154) ما يجب عليك فعله ولا تقتصر في شيء مما ينتفع به المريض، لكنه ينبغي أن يكون المريض أيضا مطاوعا لك غير متبع للذته في شيء من الأشياء وينبغي أيضا أن * تكون (155) خدم المريض * فرهة (156) أكياسا وينبغي أن تكون الأشياء التي من خارج * كلها (157) مهيأة معدة على ما يصلح للمريض. * فإن (158) كثيرا ما يعرض * من (159) تلك أيضا أن تبطل صحة ما يتقدم بمعرفته أو يفسد العلاج فلا ينجح أو يعرض الأمران جميعا ويعني بالاشياء التي تعرض من خارج أمر * المنازل (160) أن تكون موافقة أو غير موافقة أو أن * يكون (161) يلحق المريض منها * أذى (162) أو لا يلحقه * وما (163) يختبر به المريض * وما (164) يفعل به * مما (165) يهيج به * غضب (166) أو * غم (167) أو غير ذلك مما أشبهه وما يمنعه بالليل من النوم وهي أشياء كثيرة لا يحصى عددها، * كأنه (168) قال فإن جزئ أمر هذه الأشياء كلها على ما ينبغي وما * لا (169) يذم * منه (170) بشيء لم يوجد شيء من جميع ما في هذا الكتاب باطلا.
2
[aphorism]
Página 357