Tafsir Al-Uthaymeen: From Juz’ Qad Sami' and Tabarak - Dar Al-Tabari
تفسير العثيمين: من جزء قد سمع وتبارك - ط مكتبة الطبري
Editorial
مجمع البحرين
Número de edición
الأولى
Año de publicación
١٤٣٠ هـ - ٢٠٠٩ م
Ubicación del editor
مكتبة الطبري (مصر)
Géneros
تفسير سورة الطلاق
* قال الله تعالى:
﴿يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا (١)﴾ [الطلاق: ١].
التفسير
الخطاب المُوجَّه للرسول ﷺ هل هو خاص به، أو هو عام له وللأمة؟
نقول: هذا على ثلاثة أقسام:
القسم الأول: أن يدل الدليل على أنه عام؛ كهذه الآية: ﴿يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ﴾، ولم يقل: يا أيها النبي إذا طلَّقتَ.
الثاني: أن يكون هناك دليل على أنه خاصٌّ به، فيكون خاصًّا به؛ مثل قوله: ﴿أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ﴾، فشرحُ الصدر هنا خاصٌّ بالرسول ﷺ.
الثالث: ألَّا يدل دليل على هذا ولا على هذا، فهل هو خاصٌّ به، ويكون لأمته عن طريق الأسوة به، أو هو عامٌّ له وللأمة، لكنه خُوطِب به؛ لأنه زعيم الأمة، والعادة أن خطاب الأمة يُوجَّه إلى زعيمها.
والواقع أن هذا الخلاف يكاد يكون خلافًا لفظيًّا؛ لأنه على كلا القولين يدل على أن الحكم عامٌّ للأمة، هنا يقول اللّه ﷿: ﴿يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ﴾ هو من القسم الأول الذي فيه الدليل على أن الخطاب عامٌّ للرسول ﷺ وللأمة، قال تعالى: ﴿أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ هذا
14 / 339
خاصٌّ به، أو له وللأمة؟ له وللأمة.
﴿إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ﴾ فما هو طلاق المرأة لعدَّتها؟ أن يُطلِّقها طاهرة من غير جِماع، طاهرة من الحيض، ولم يُجامِعها في هذا الطُّهْر، هذا هو طلاقُها لعدَّتها.
فإن طلَّقها وهي حائض فقد عصى اللّه؛ لأنه لم يُطلِّقها للعدَّة، وإن طلَّقها في طُهْرٍ جامَعَها فيه فقد عصى اللّه؛ لأنه لم يُطلِّقها للعِدَّة.
إذا طلَّقها وهي حامل، هل في هذا الطلاق معصية للّه؟ لا؛ لأنه طلَّقها للعِدَّة؛ إذ إن المرأة الحامل بمُجرَّد ما يُطلِّقها زوجُها تبدأ في العِدَّة.
فصار الطلاق المباح: إذا طلَّقها وهي حامل، أو طلَّقها في طُهْرٍ لم يُجامِعها فيه، والطلاق المُحرَّم: أن يُطلِّقها وهي حائض، أو في طُهْرٍ جامَعَها فيه.
فالطلاق أربعة أقسام: وهي حامل، في طُهْرٍ لم يُجامِع فيه، وهي حائض، في طُهْرٍ جامَعَ فيه، اثنان حلال، واثنان حرام.
﴿وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ﴾ يعني: اضبطوها؛ لأن أمر النكاح عظيم، فهو أشد العقود خطرًا، ولذلك جعل اللّه للدخول فيه شروطًا، وللخروج منه شروطًا.
﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ﴾، ﴿لَا تُخْرِجُوهُنَّ﴾ الضمير يعود على النساء المُطلَّقات، فإذا طلَّق الإنسان زوجتَه وجب عليه أن يُبقِيَها في البيت، ولا يجوز أن يُخرِجها منه، وعمل الناس اليوم على خلافه، إذا طلَّقها طردها، وهذا حرام، ومعصية للّه ﷿؛ بل الواجب أن تبقى في البيت، ولهذا أضاف البيوت إلى النساء؛ كأنَّ بقاءها في البيت حقٌّ لها؛ لأنه بيتُها، فكيف يُخرِجها منه؟ إن أخرجها منه فهو ظالمٌ لها؛ لأن البيت بيتُها، إن أخرجها منها، فهو عاصٍ للّه؛ لأن اللّه قال: ﴿لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ﴾.
وإذا أرادت هي أن تخرج؛ كما هي عادة بعض النساء إذا طلَّقها زوجها غضبت، وخرجت هي بنفسها، نقول: لا تخرج، وحرام عليها أن تخرج.
﴿وَلَا يَخْرُجْنَ﴾ إلى متى؟ إلى انتهاء العدة.
﴿إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ﴾ فلا بأس أن يُخرِجها الزوج، والفاحشة المُبيِّنة فسَّرها كثيرٌ من العلماء: أن تكون بذيئة اللسان، مُؤذيةً له ولأهله، ففي هذه الحال يُعذَر إذا أخرجها من البيت، أما بدون ذلك فحرامٌ عليه أن يُخرِجها.
ثم قال: ﴿وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا﴾ هذا التعليل، تعليل النهي عن إخراجهن وخروجهن ﴿لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ
14 / 340
ذَلِكَ أَمْرًا﴾، فما هو الأمر؟ أن يُراجِعها، فإذا بقِيَت في البيت، وتغيَّر رأيُه، والقلوب بيد اللّه ﷿، قد يقلِبُ البغضاء محبةً، والمحبة بُغْضًا، يُراجعها في البيت وكأن شيئًا لم يحدث، ولهذا قال: ﴿لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا﴾، وبهذا التعليل عرفنا أنه لو كان الطلاق آخر ثلاث تطليقات - يعني: الطلقة الثالثة -، فإنه له أن يُخرِجها؛ لأنه لا يحدث بعد ذلك أمر؛ إذ لا مُراجعة، فهي بائنٌ منه بينونة كبرى، ﴿فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ﴾ ومتى تبلغ أجلها؟ إذا حاضت ثلاث مرات إن كانت ممن يحيض، فإذا حاضت ثلاث مرات فأمسِكها بمعروف، أو فارِقها بمعروف.
وإذا طهُرَت من الحيضة الثالثة؛ هل يُمسِكها وقد انقضَت العِدَّة؟ يعني: انقضت العدة ولم يُراجِع؟ هل يُراجِعها؟ كثيرٌ من العلماء يقول: لا يُراجِع؛ لأن العِدَّة انقضت، والصحيح: أنه يُراجِعها ما لم تغتسل من الحيض، ولهذا قال: ﴿فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ﴾، وعلى الرأي الآخر يكون معنى: ﴿فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ﴾ أي: إذا قارَبن بلوغ أجلهن، فأمسِكوهن بمعروف، أو فارِقوهن بمعروف.
﴿وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ﴾ على المُراجعة، أو على الطلاق، أو عليهما جميعًا؟ عليهما جميعًا.
ثم قال: ﴿وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ﴾ هذه المرأة التي لا تحيض عدَّتها ثلاثة أشهر، هلالية، أو تُكمَل العِدَّة ثلاثين هلالية؛ لأن هذا هو المُعتبَر شرعًا.
وعند العامة أن المُطلَّقة تعتدُّ ثلاثة أشهر ولو كانت تحيض، وهذا غلط، ولهذا لو سُئِلنا: أيُّما أطول: عدَّة الآيِسة، أو عدَّة من تحيض؟ أحيانًا تكون المرأة لا تحيض في الشهرين إلا مرة واحدة، فكم تكون عدَّتها؟ ستة شهور، أحيانًا تحيض في الشهر مرتين، كم عدَّتها؟ شهر ونصف، لكن إذا كانت ممن يئِسَت من المحيض فعدَّتُها ثلاثة أشهر، ولماذا تيأس من المحيض؟ تيأس من المحيض لعدَّة وجوه:
أولًا: أن تبلغ سنًّا ينقطع به الحيض عادة؛ مثل: خمسين سنة، ستين سنة، حسب حال النساء.
ثانيًا: أن تُجرِي عملية بقطعِ الرحِم؛ لأنه أحيانًا يكون في الرَّحِم مرض؛ كالسرطان، فيُقرِّر الأطباء قطعَهُ فيُقطَع، هذه يئِسَت من المحيض، لا يمكن أن يعود إليها الحيض، فعدَّتها ثلاثة أشهر.
ثالثًا: أن تُصاب بجُفوف يُعلَم أنه لن يعود إليها الحيض، أيضًا عدَّتها ثلاثة أشهر.
فكل من يئِسَت من المحيض لأي سببٍ من الأسباب فعدَّتها ثلاثة أشهر؟ ومن أين تبتدئ؟ أمِن علمها، أم من طلاقها؟ من طلاقها.
- وعدة المرأة التي طلقت تكون واحدة:
14 / 341
أولًا: مَنْ طُلقت قبل الدخول، وهذه لا عدة عليها، قال تعالى: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا﴾ [الأحزاب: ٤٩].
ثانيًا: من طُلِّقَت وهي حامل عدَّتُها وضعُ الحمل، لقوله تعالى: ﴿وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ﴾.
ثالثًا: من طُلِّقَت بعد الدخول وهي تحيض، فعدَّتها ثلاث حِيَض، لقوله تعالى: ﴿وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ﴾.
رابعًا: من طُلِّقَت بعد الدخول وهي لا تحيض، إما صغيرة، أو آيِسة، فعدَّتها ثلاثة أشهر.
أما الوفاة فهي على نوعين فقط:
الأولى: من مات عنها زوجها وهي حامل فعدَّتها وضع الحمل، طالت أم قصُرَت.
الثانية: من تُوفِّي عنها زوجُها وهي حائل؛ أي: غير حامل، فعدَّتها أربعة أشهر وعشرة أيام سواءٌ حاضت ثلاث حِيَض، أولم تحِض، أو حاضَت أكثر.
وهل مقياس الأشهر الهلال أو العدد؟ الهلال.
وليُعلَم أنه مع الأسف الشديد أن الطلاق صار على أَلْسُن كثيرٍ من الناس سهلًا، يُطلِّق على أدنى سبب، وهذا أمرٌ خطيرٌ، وأنا أضرب لكم مثلًا: كثيرٌ من الناس ينزل به ضيف، ويريد أن يُكرِم ضيفَه بذبيحة من غنمه حاضرة ما تحتاج إلى تعب، فيقول الضيف: عليَّ الطلاق ما تذبح، ويقول المُضِيف: عليَّ الطلاق لأذبحنَّ لك، من نأخذ بقوله؟ كل هذا من السَّفَه، وإني أقول لكم: المسألة خطيرة للغاية، لو قال رجل لامرأته: إن خرجتِ من البيت فأنتِ طالق، فهنا إما أن يريد الشرط، وإما أن يريد اليمين، إن أراد الشرط فإنها إذا خرجت طلَقَت، ولا إشكال في ذلك؛ لأن ذلك طلاقٌ مُعلَّقٌ على شرطٍ وقد حصل، وإذا وُجِد الشرط ثبت المشروط، كما لو قال: إذا طلَعَت الشمس فأنتِ طالق، فإنها إذا طلعت الشمس تطلُق، وهذا محل إجماع من العلماء.
الحال الثانية: أن يريد بقوله: إن خرجتِ فأنتِ طالق الحثَّ على عدم الخروج؛ يعني: يريد منعها، وأتى بهذه الصيغة تهديدًا لها، فخرجت، فهل تطلُق؟
جمهور الأمة، وجميع الأئمة على أنها تطلُق، حتى وإن قصد التهديد، لكن شيخ الإسلام ﵀ يرى أنه إذا قصد اليمين أُعطِيَت هذه الصيغة حكم اليمين، ومعنى: قصد اليمين أنه يقول: أنا لا أقصد الطلاق، وزوجتي عندي غالية، ولا أُفرِّط فيها، لكني ذكرتُ ذلك تهديدًا لها لأجل ألَّا تخرج، يرى شيخ الإسلام ابن تيمية أنها إذا خرجت لا تطلُق لكن عليه أن يُكفِّر كفَّارة يمين.
وقوله هو الصحيح من حيث النظر قياسًا على العتق الذي ورد عن الصحابة ﵃،
14 / 342
وتعليق الطلاق يقول شيخ الإسلام: إنه ليس معروفًا عند الصحابة، فيُقاسُ على ما كان معروفًا عندهم، وإنما قلتُ لكم ذلك لتحذروا من التعجُّل في هذا الأمر.
وبعض السفهاء إذا أراد أن يُطلِّق زوجته طلاقًا جاء للكاتب، وقال: اكتب: زوجتي طالق بالثلاث، نقول له: إنها طلقة واحدة؛ هل أحد يُجبِرك على أن تُراجِع؟ لا أحد يُجبِره، وإذا انتهت العِدَّة بانَتْ منك؛ لأنك أيضًا إذا طلَّقتَ بالثلاث بقيت هناك مشكلة، وهي: أن أكثر العلماء - ومنهم المذاهب الأربعة - يرون أن طلاق الثلاث بكلمة واحدة طلاقٌ بائن، ما تحلُّ به المرأة.
ومن العلماء من يرى أنها تطلُق طلقة واحدة، كشيخ الإسلام ابن تيمية ﵀، وقوله هو الصواب؛ لأن ابن عباس ﵄ قال: كان الطلاق في عهد النبي ﷺ طلاق الثلاث واحدة، وكذلك في عهد أبى بكر، وسنتين من خلافة عمر، فلما كثُر طلاق الثلاث في الناس، وكان عمر ﵁ مشهورًا بالحزم، قال: أرى الناس قد استعجلوا في شيءٍ كانت لهم فيه أناة، فلو أمضيناه عليهم، فأمضاه عليهم، وقال: من طلق الثلاث لا يمكن أن يُراجِع؛ لماذا أمضاه على ذلك؟ ليرتدع الناس عن الطلاق الثلاث المُحرَّم، فمشى العلماء خلف أمير المؤمنين عمر، وقالوا: إن الإنسان إذا طلَّق بالثلاث بانت المرأة منه، ولم يملك الرجعة إليها إلا بعد زوج.
﴿وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ﴾ والخطاب في قوله: ﴿وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ﴾ يشمل الشاهد، ويشمل المُستشهِد؛ لأن المُستشهِد الذي طلب الشهادة قد أقام الشهادة، وامتثل أمر اللّه، والشاهد الذي يُؤدِّي ما شهِد به على حسب ما بلغه من العلم هو أيضًا مُقيمٌ للشهادة.
﴿ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (٢) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ﴾ نسأل اللّه ﷾ أن يرزقنا وإياكم تقواه، وأن يجعلنا من الذين قالوا: سمعنا وأطعنا، وأن يهَب لنا منه رحمة، إنه هو الوهاب.
***
14 / 343
تفسير سورة المعارج
قال تعالى: ﴿سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ (١) لِلْكَافِرِينَ﴾ [المعارج: ١، ٢] وهنا يتبادر إلى الذهن أن يكون الكلام: سأل سائلٌ عن عذاب واقع؛ لأن سأل تتعدَّى بـ (عن)، ولا تتعدَّى بالباء، والكلام هنا أوجِّهه إلى طلبة العلم - ولا سيما الذين يعرفون العربية؛ النحو -، فإنه قد يقول قائل: كيف عُدِل عن (عن) إلى الباء؟
والجواب عن ذلك: أن علماء النحو اختلفوا في مثل هذا؛ فمنهم من قال: إن الاستعارة في الحرف، ومنهم من قال: إن الاستعارة في الفعل.
فالأولون يقولون: إن الباء هنا بمعنى: عن؛ أي: سأل سائلٌ عن عذاب واقع، فأُجيب.
ومنهم من قال: إن عن هنا لا تُقصَد، وأن الاستعارة في سأل، وأنه ضُمِّن معنى الإجابة، كأنه قيل: سأل، فأُجيب بعذاب واقعُ أي: بهذا الجواب.
ثم قال: ﴿لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ (٢) مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ (٣) تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ﴾ [المعارج: ٢ - ٤] فاللّه ﷿ ذو المعارج، كما قال في آية أخرى: ﴿رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ﴾؛ لأنه ﷾ عليٌّ على خلقه، مُستوٍ على عرشه، وعلوُّه ﷿ ينقسم إلى قسمين:
علو ذات، وعلو صفات.
فأما علو الذات: فإن معناه: أن اللّه بذاته فوق كل شيء، وأنه ﷾ مُستوٍ على عرشه كما يليق بجلاله وعظمته.
وأما علو الصفات: فإنه ما من صفة كمال إلا وللّه تعالى أعلاها وأكملها، قال اللّه تعالى: ﴿وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾.
واعلم أن علو الصفات قد اتفق عليه أهل القبلة، وأما علو الذات فأنكره من أنكره من أهل البدع، وقالوا: إن الله ﷿ ليس عاليًا بذاته، ثم انقسموا إلى قسمين:
قسم الحلولية، وقسم المُعطِّلة، وليس هذا موضع ذكر المسألة، وحسبُنا أن نؤمن بأن اللّه ﷿ فوق خلقه، مُستوٍ على عرشه.
سأل الإمام مالكًا ﵀ رجلٌ، فقال: يا أبا عبد اللّه! ﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾؛ كيف استوى؟ وكان مالك ﵀ في حلقة أصحابه وتلاميذه، فأطرق برأسه حتى علاه الرُّحَضاء -
14 / 344
أي: العرق - خجلًا وتحمُّلًا لهذا السؤال العظيم، ثم رفع رأسه قائلًا: الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة.
ما معنى قوله: الاستواء غير مجهول؟
أي: أن الاستواء معلومٌ في اللغة العربية، فإن جميع موارده في القرآن يُعرَف معناها من سياقها، فاستوى وردت في القرآن على ثلاثة أوجه: مُعدَّاة بـ (إلى)، ومُعدَّاة بـ (على)، ومُطلقة غير مُعدَّاةٍ بحرف، واستُعمِلَت أيضًا في اللغة العربية مقرونة بالواو، فاستعمالاتها في اللغة العربية إذًا على أربعة أوجه.
فإذا عُدِّيَت بـ (على): صار معناها العلو والاستقرار، ومنه قوله تعالى: ﴿فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ﴾، ومنه قوله: ﴿لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ﴾، ومنه قوله تعالى: ﴿ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ﴾.
والقسم الثاني: مُعدَّاة بـ (إلى): ومنه قوله تعالى: ﴿ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ﴾، وقوله: ﴿ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا﴾، وهي هنا بمعنى: القصد؛ أي: قصد إلى السماء، وقيل: بمعنى: على، فلعلماء السلف فيها قولان، وكلاهما لا يُنافي الآخر.
أما القسم الثالث: فأن تأتي مُطلقة غير مُعدَّاة بـ (إلى)، و(على): ومنه قوله تعالى: ﴿وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى﴾، وحينئذ تكون بمعنى الكمال، أي: كمال الشيء وانتهائه، فبلغ أشده؛ يعني: بلغ غاية قوته العقلية والجسمية، واستوى؛ أي: تم، ومنه قول العامة إذا طبخوا الطبيخ يقولون: إنه استوى؛ أي: كمُل نضجُه.
أما القسم الرابع: فأن تأتي مقرونة بالواو، وهي في هذا بمعنى: تساوى؛ كقولهم: استوى الماء والخشبة؛ أي: تساويا وصار الماء إلى الخشبة.
إنما نحن نؤمن بأن الاستواء الذي وصف اللّه به نفسه بمعنى: العلو والاستقرار، فإذا قلتَ: أليس اللّه عاليًا على كل شيء؟
فالجواب: بلى، ولكن استواءه على العرش استواءٌ خاصٌّ بالعرش، وليس هو العلو العام لجميع المخلوقات.
وأما قول الإمام مالك ﵀: والكيف غير معقول، فالمعنى: أننا لا نُدرِك كيفية استواء اللّه بعقولنا، لأن اللّه ﷿ أعظم من أن تُدرِكه العقول، وتُحيط به العقول، كما قال اللّه تعالى: ﴿وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا﴾، وقال تعالى: ﴿لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ﴾.
وإذا كان العقل لا سبيل له إلى إدراك كيفية استواء اللّه على عرشه، بقي عندنا السمع، فهل دلَّ السمع على كيفيته؟ لا؛ لأن اللّه أخبرنا أنه استوى على العرش، ولم يُخبرنا: كيف استوى، فإذا انتفى عنه الدليلان: العقلي والسمعي، وجب علينا الكفُّ عنه، وألَّا نسأل عن كيفيته؛ لأن هذا
14 / 345
أمرٌ لا يمكن إدراكُه، ولهذا قال ﵀: والسؤال عنه بدعة، عن كيفيته؛ لأن الصحابة ﵃، وهم واللّه أحرص منا على العلم ما كانوا يسألون النبي ﷺ: كيف استوى ربنا على العرش، لكن سألوه: أين كان ربنا قبل أن يخلق السماوات والأرض؟ أما هذا فلم يسألوا عنه، وشيءٌ لم يذهب إليه سلفُ هذه الأمة مما يتعلَّق بدين اللّه، فإن الذهاب إليه بدعة، ولهذا قال: السؤال عنه بدعة.
أما الإيمان به فواجبٌ؛ لأن اللّه أخبر به، وكل ما أخبر اللّه به فإنه يجب علينا أن نؤمن به.
يقول ﷿: ﴿تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ﴾ [المعارج: ٤] والمراد بالروح هنا: جبريل، وهو من الملائكة، ولكنه خصَّه بالذكر اعتناءً به وتعليةً لشأنه، ومثل هذه الآية في تخصيص جبريل: قوله تعالى في ليلة القدر: ﴿تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ﴾.
وقوله: ﴿فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ﴾ الجار والمجرور تقديره: يقع في يوم، وإن شئتَ فقل: إنه متعلق بكلمة واقع، وليس متعلِّقًا بـ (تعرج)؛ لأن عروج الملائكة والروح إليه في كل وقت، لكن العذاب الواقع يقع في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، وفيه من الأهوال العِظام ما يجعل الولدان شيبًا، ولكن هذا اليوم على صعوبته ومشقته هو يسيرٌ على المؤمن - أسأل اللّه أن يجعلني وإياكم منهم -، كما قال تعالى: ﴿وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا﴾ أي: لا على المؤمنين، وقال ﷿: ﴿عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا﴾، وأما المؤمنون فهو يسيرٌ عليهم.
ثم ذكر اللّه ﷿ أن هؤلاء المُكذِّبين يستبعدونه، ويرونه بعيدًا، وهو قريب يسيرٌ على اللّه؛ لأن اللّه إذا أراد شيئًا قال له: كن، فيكون ﴿إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ﴾، ﴿فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ (١٣) فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ﴾.
وقوله: ﴿يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ (٨) وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ (٩) وَلَا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا﴾ [المعارج: ٨ - ١٠] الحميم: الصاحب والقريب، لا يسأل حميمٌ عن حميم؛ لأن لكل واحدٍ منهم شأنًا يُغنيه.
﴿يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ﴾ يعني: يُقدِّم ابنَه فداءً له، في الدنيا تُقدِّم نفسك فداءً لولدك، وقد ذُكِر في قصة قوم نوح، حين أمر اللّه ﷿ السماء أن تُمطِر، والأرض أن تنبُت، قال اللّه ﷿: ﴿فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ (١١) وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ﴾، ذُكِر أن امرأة كان لها صبي، فلما رأت الماء يرتفع، ذهبت إلى جبل، ورقِيَت عليه، فارتفع الماء، ثم ارتفعت، فارتفع الماء، ثم ارتفعت، فارتفع الماء إلى قمة الجبل، ثم ارتفع الماء حتى ألجَمَ المرأة، فأخذت صبيَّها ورفعته فوق يدها، تريد أن تموت قبل أن يموت الصبي، وجاء في هذا: لو كان اللّه راحمًا أحدًا، لرحِمَ أم الصبي، لكن يوم القيامة ليس كحال الدنيا، ﴿يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ (١١) وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ (١٢) وَفَصِيلَتِهِ﴾ أي: عشيرته ﴿الَّتِي تُؤْوِيهِ (١٣) وَمَنْ فِي
14 / 346
الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنْجِيهِ﴾، ولكن الأمر ليس باختياره، وليس بيده، ولا يمكن أن يفتدي بشيء ينفعه. يقول ﷿: ﴿كَلَّا﴾ فدية، ولا خلاص، ولا وَزَرَ، كما في سورة القيامة: ﴿فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ (٧) وَخَسَفَ الْقَمَرُ (٨) وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ (٩) يَقُولُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ﴾، قال اللّه ﷿: ﴿كَلَّا لَا وَزَرَ﴾، ولهذا ينبغي الوقوف على هذه الجملة، ثم تستأنف فتقول: ﴿إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ﴾، لا مُعين، لا مُغيث لا مفر.
﴿كَلَّا إِنَّهَا لَظَى﴾ ولظى اسم من أسماء النار، ﴿نَزَّاعَةً لِلشَّوَى﴾ - والعياذ باللّه -، ﴿تَدْعُو مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى﴾ ائتِ إليَّ، فيتساقط أهلها فيها.
ثم قال: ﴿إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا﴾ وما معنى هلوعًا؟ فسَّره اللّه ﴿إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا (٢٠) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا﴾ إذا مسَّه الشر، وأُصيب بالفقر جزِع وتضجَّر، وإذا مسَّه الخير، وأُعطي المال الكثير، كان منوعًا لا يُنفِق.
﴿إِلَّا الْمُصَلِّينَ﴾ وما أنفع الصلاة للقلب، والبدن، والمجتمع، ﴿إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ﴾، لم ينجُ من هذا الوصف الذي وُصِف به الإنسان من حيث هو إنسان إلا المُصلِّين ﴿الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ﴾ لا يملُّون، ولا يسأمون، ولا يُؤخِّرونها عن أوقاتها، ولا يُفرِّطون في واجباتها؛ بل هم دائمون عليها.
﴿وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ (٢٤) لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ﴾ أي: حق معلومٌ شرعًا، أو معلومٌ عُرْفًا، فإن كان مما قدَّره الشرع فهو معلومٌ شرعًا؛ مثل: الزكاة، وإن كان مما لم يُقدِّره الشرع، فهو معلومٌ عُرْفًا؛ كالنفقة.
﴿لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ﴾ السائل الذي يسأل، فالسائل له حقٌّ، فإذا جاءك أحد يسألك فإنك تُعطيه لسؤاله، والمحروم يقول العامة في تفسيره: إنه البخيل الذي حُرِم الانتفاع بماله، ولكن هذا ليس بصحيح، فإن البخيل ليس له حقٌّ في مال الكريم، البخيل يُضرَب حتى يُخرِج ما أوجب اللّه عليه، وإنما المراد بالمحروم: الفقير الذي حُرِم من المال، ولم يُعطَ منه شيءٌ.
﴿وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ﴾ أي: بوقوعه وما يقع فيه، فالإيمان باليوم الآخر يتضمن الإيمان بوقوعه، والإيمان بما يقع فيه، ففيه مثلًا: الحساب، ونشر الكتب، وفيه أيضًا: الميزان، والصراط، ودنو الشمس من الناس، وغير ذلك من الأشياء التي ذُكِرَت في الكتاب والسنة، ومن الإيمان باليوم الآخر: الإيمان بفتنة القبر، ونعيم القبر، وعذاب القبر، أما الفتنة فإن الناس يُفتنون في قبورهم، إذا مات الإنسان ودُفِن وتولى عنه أصحابه، حتى إنه ليسمع قرع نعالهم، أتاه ملكان، فيُقعِدانه، وتُعاد إليه روحه، فيُسأل عن ثلاثة أمور: من ربك، وما دينك، ومن نبيك؟ فيثبِّت اللّه الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة.
يقول المؤمن: ربي اللّه، وديني الإسلام، ونبي محمد، فيُنادي منادٍ من السماء: أن صدق عبدي،
14 / 347
فألبِسوه من الجنة، وافرِشوا له من الجنة، وافتحوا له بابًا إلى الجنة، فيأتيه من روحها ونعيمها، فيكون بذلك منتقلًا من نعيم الدنيا إلى نعيم الآخرة، ويكون عشية يومه الذي مات فيه أسرَّ منه في صباح يومه الذي مات فيه؛ لأنه خرج من دار النكد، والتعب، والهم، والغم، والعناء إلى دار النعيم، والسرور، وفُتِح له بابٌ إلى الجنة، فجعل ينظر إليها في قبره، وأُلبِس من الجنة، وفُرِش من الجنة، ونادى منادٍ من السماء - وهو اللّه ﷿: أن صدق عبدي، ما بالُك بسرور شخص يناديه ربه: أن صدق عبدي، يُصدِّقه اللّه ﷿ على ما قال من صواب الجواب، أما المنافق أو الكافر، فإنه إذا قيل: من ربك، ما دينك، من نبيك؟ يقول: هاه هاه، لا أدري، سمعت الناس يقولون شيئًا فقلتُه؛ لأن هذا الإيمان لم يدخل إلى قلبه، وإنما هو شيءٌ سمِعَه فقاله، ما وقر الإيمان في قلبه، وقد أخبر النبي ﷺ عن أقوام يقرأون القرآن، ويصلون، حتى إن الصحابة يحقرون صلاتهم مع صلاتهم، لكن إيمانهم لا يتجاوز حناجرهم - والعياذ باللّه -، يمرقون من الإسلام مروق السهم من الرمية، والسهم إذا دخل في الرمية مرق منها بسرعة، فإيمانهم - والعياذ باللّه - لا يتجاوز حناجرهم، ولذلك أنصح نفسي وإياكم بأن نتفقَّد قلوبنا: هل وقر الإيمان فيها؟ هل وصل إليها، أم نحن كالأعراب الذين قالوا: آمنا، فقال اللّه لنبيه: ﴿قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ﴾.
لننظر ليس العمل مجرد رسوم يقوم بها الإنسان، لكن الإيمان كما قال الحسن البصري ﵀: ما وقر في القلب، وصدَّقته الأعمال، فتِّش أولًا عن قلبك، انظر أين اتجاهك، هل هو إلى اللّه؟ تبتغي وجه اللّه، تريد وجه اللّه، تريد ثواب اللّه، أو إلى أمرٍ تريده من الدنيا، إلى هوًى في نفسك تقصده، إلى مال، إلى رئاسة، إلى جاهٍ، إنك إذا أصلحتَ قلبك صلح أمرك؛ لأن النبي ﷺ يقول: "أَلَا وإنَّ فِي الجَسَدِ مُضْغَةً، إِذَا صَلحَتْ صَلَحَ الجَسَدُ كُلُّه، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الجَسَدُ كُلُّه، أَلَا وَهِيَ القَلْبُ"، طهِّر قلبك من الرياء، طهِّر قلبك من الحقد، طهِّر قلبك من الغل، طهِّر قلبك من الفتنة في الدنيا بجميع زهرتها، وبجميع زينتها، عن جميع ما ذكر الله ﷿ في قوله: ﴿زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ﴾، كل هذا زينة، ولكن هل هذا هو النعيم، هل هذا هو الغاية؟ قال: ﴿ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ﴾ ﴿قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ﴾ الاستفهام هنا يراد به: التشويق، ما هو الشيء الذي هو خير من ذلك؟ ﴿لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ﴾ يبقون فيها مدة، ثم يموتون؟ لا، ﴿خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ﴾ رضا من اللّه ﷿، يُحِلُّ عليهم ﷾ رضاه فلا يسخط عليهم بعده أبدًا، ﴿وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ﴾، فمن هم الذين اتقوا
14 / 348
والذين لهم هذا الثواب؟ ﴿الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا﴾ اللهم اجعلنا ممن يقول ذلك ﴿فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (١٦) الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ﴾ لماذا يستغفرون باللّه؟ لأنهم قاموا للّه، فجافت جنوبهم عن المضاجع، يدعون ربهم خوفًا وطمعًا، فلما أكملوا قيامهم نظروا في أمرهم، وعاملوا أنفسهم معاملة المذنب المُقصِّر، فجعلوا بعد هذا العمل يستغفرون اللّه ﷿: اللهم اغفر لنا، اللهم إنا نستغفرك، وما أشبه ذلك من دعوات الله ﷿ بالاستغفار.
يقول ﷿: ﴿وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ﴾ مُشفِقون خائفون من هذا العذاب، ومن خاف من شيءٍ حذِرَه، ومن حذِرَ شيئًا تجنَّب أسبابه، فإذا كانوا خائفين من عذاب اللّه فلابد أن يحذروا منه، وأن يتجنَّبوا أسبابه، وأسباب عذاب اللّه إما تفريطٌ فيما أوجب، وإما وقوعٌ فيما حرَّم، وعلى هذا فهم يجِدُّون كل جِدٍّ في أن يقوموا بما أوجب الله عليهم، يجِدُّون كل الجِد بأن يتجنَّبوا ما حرَّم اللّه عليهم، فهم من عذاب ربهم مشفقون.
يقول اللّه ﷿: ﴿إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ﴾ وصدق ربنا جل وعلا، من يأمن عذاب اللّه؟ هل أحد يأمن أن يأتيه عذاب اللّه بغتةً أو جهرةً؟ أبدًا، لا يأمن عذاب اللّه إلا القوم الخاسرون، قال اللّه تعالى: ﴿أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ (٩٧) أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ (٩٨) أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ﴾.
ثم قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (٢٩) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ﴾ يحفظون فروجهم إلا من هذين الصنفَيْن من النساء: الأزواج، وما ملكت الأيمان، من هنَّ الذين ملكوهم؟ هنَّ الإماء التي تُباع وتُشترى، فإن الأَمَة يجوز لسيدها أن يستمتع بها كما يستمتع الزوج بزوجته.
يقول الله ﷿: ﴿فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ﴾ لا يُلامُون على ما يحصل بينهم وبين أزواجهم، أو بينهم وبين ما ملكت أيمانهم، ولهذا يجوز للإنسان أن يستمتع بزوجته بكل متعة أحلَّها اللّه، ويمتنع من كل متعة منعها اللّه، والمتعة التي منعها اللّه متعتان: المتعة في الفرج في حال الحيض والنفاس، فإن ذلك محرم، لا يجوز للرجل أن يُجامِع زوجته في حال الحيض والنفاس.
والمتعة الثانية: المتعة في الدبر، فلا يحل للإنسان أن يأتي زوجته في دُبُرها.
ويجوز للإنسان أن يستمتع بزوجته فيما عدا ذلك؛ لأن اللّه ﷿ يقول: ﴿وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (٢٩) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ﴾ ويدخل في الآية الكريمة: غضُّ البصر، إلا عن الأزواج والمملوكات؛ لأن إطلاق البصر يؤدِّي إلى الفتنة، ثم الوقوع في المحظور، حتى لا يستطيع الإنسان إذا أطلق لنفسه النظر لا يستطيع أن يُحصِّن فرْجَه، فيكون في هذه الحال غير
14 / 349
حافظٍ له.
واستدلَّ أهل العلم بهذه الآية الكريمة: على أنه يحرم على الإنسان أن يستمني بيده، أو بفراشه، أو بأي شيءٍ كان، وهي ما يُعرف عند الناس بـ (العادة السرية)، فإنها حرام، ودليلها هذه الآية الكريمة؛ لأن اللّه قال بعد ذلك: ﴿فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ﴾ يعني: من قال بالاستمتاع بغير هذين الصنفين فإنهم عادُون، فمن استمتع بيده، أو بفراشه، أو ما أشبه ذلك فإنه عادٍ، والعادي هو الجائر الظالم.
ويدل لتحريمها: قول مُرشدنا ومُعلِّمنا، ومن هو بالمؤمنين رؤوف رحيم محمد رسول اللّه: "يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ! مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمُ البَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ، فَإِنَّهُ أَغَضُّ لِلبَصَرِ، وَأَحْصَنُ لِلفَرْجِ"، وخاطب الشباب؛ لأنهم ذوو القوة في هذا الأمر "وَمَنْ يَسْتَطِعْ فَعلَيْهِ بِالصَّومِ، فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ"، لم يقل النبي ﷺ: من لم يستطع فليُخرِج شهوته بما أراد؛ بل قال: "فَعلَيْهِ بِالصَّومِ"، ونحن نعلم أنه لو كان إخراج الشهوة جائزًا لأرشد إليه النبي ﷺ؛ لأن إخراج الشهوة أيسر من التزام الصوم، ولأن في إخراج الشهوة نوعًا من المتعة واللذة، فلو كان هذا جائزًا ما عدل النبي ﷺ عنه إلى الأمر الشاق؛ لأن هذا الدين يُسْرٌ، ولا تجد خصلةً مُيسَّرة يعدِل عنها هذا الدين إلا لأنها لا تجوز في شريعة اللّه، وعلى هذا فنستدل على تحريم العادة السرية بالقرآن والسنة.
كما أن هناك أدلة عقلية طبية على تحريمها لما فيها من الضرر العظيم على الجسم، وعلى الغريزة الجنسية، وعلى مستقبل هذه المادة التي هي مادة خلق بني آدم.
ثم قال ﷿: ﴿وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ﴾ الذين إذا ائتُمِنوا أو عاهدوا راعَوا الأمانة والعهد، فلا يخونون بأمانة، ولا يغدرون بعهد.
يجب على كل من عاهد عهدًا أن يرعَى العهد، كان رسول اللّه ﷺ يعاهد المشركين، ويفِي لهم، فإذا نقضوا العهد انتقض العهد، لما صالح قريشًا في غزوة الحديبية على ترك القتال لمدة عشر سنين، ومضى على هذا الصلح سنتان، ما الذي حصل؟ نقض المشركون العهد، فغزاهم النبي ﷺ.
إذا لم ينقض المُعاهَد عهده، ولكني خِفتُ أن ينقض ﴿وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ﴾، لا تفجأهم بالحرب إذا خِفتَ الخيانة، ولكن ابعث إليهم، وقل لهم: إنه لا عهد بيننا وبينكم، فالمُعاهَد له ثلاث حالات:
إما أن يفي بعهده، ويستقيم عليه، فقد قال اللّه فيه: ﴿إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ﴾.
الحال الثانية: أن ينقض العهد، وفي هذه الحال لا عهد لهم؛ لأنهم نقضوا العهد.
14 / 350
والحال الثالثة: أن يُخاف منهم نقض العهد، ولم ينقضوه، فنحن ننبذ إليهم على سواء.
﴿وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ﴾ وأيضًا نُوجِّه الخطاب لننتقل من الطالب إلى الرئيس والمدير، وما أشبه ذلك ممن يخونون الأمانة فيما وُلُّوا عليه.
﴿وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ﴾ يقومون بالشهادة على الوجه المطلوب، فإذا دُعوا إلى الشهادة تحمُّلًا تحمَّلوا، وإذا دُعوا إلى الشهادة أداءً أدَّوا، لا يُحابون أحدًا في ذلك.
﴿وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (٣٤) أُولَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ﴾ انظر إلى عناية اللّه ﷾ بالصلاة، ذكرها في أول الصفات، وفي آخر الصفات، ففي أول الصفات على سبيل الديمومة، وفي آخرها على سبيل المحافظة.
ونظير ذلك: قوله تعالى: ﴿قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (١) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (٢) وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (٣) وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ (٤) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (٥) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (٦) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (٧) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (٨) وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ﴾ [المؤمنون: ١ - ٩] مما يدل على أهمية الصلاة، وأنها آكَدُ أركان الإسلام بعد الشهادتين.
أسأل اللّه تعالى أن يجعلني وإياكم من المصلين، المحافظين على هذه الصفات، الذين مآلهم أن يكونوا في جنات مكرمون.
***
14 / 351
تفسير سورة نوح
بُعِث نوحٌ إلى قومه فدعاهم إلى اللّه ﷿ سرًّا وعلنًا، ومكث فيهم ألف سنة إلا خمسين عامًا وهو يدعوهم إلى اللّه، ويبيِّن لهم، ويُحذِّرهم، ويُرغِّبهم، وما آمن معه إلا قليل، وفي هذا عبرةٌ للدعاة الذين يدعون إلى الله ﷿، ثم يملُّون إذا لم يروا من الناس إقبالًا، فنقول لهم: لا تعجبوا إذا لم تجدوا من الناس إقبالًا، فها هم الرسل يبقون مدة طويلة لا يجدون إقبالًا، لقد بقي محمد رسول اللّه ﷺ في مكة ثلاث عشرة سنة يدعوهم إلى اللّه ﷿، وفي النهاية أخرجوهم من مكة، ولكن النصر كان فيما بعد والعزة للّه ولرسوله وللمؤمنين، كل إنسان داعية لابد أن يناله أذى، كل إنسان داعية لابد أن يجد من الناس ممانعة، لا يستجيبون له بالسرعة التي يريد، لكن على الدعاة أن يصبروا في الدعوة إلى اللّه، وأن يدعوا إلى اللّه تعالى بالحكمة، والموعظة الحسنة، والجدال بالتي هي أحسن؛ لأن من الناس من يدعو إلى اللّه وهو يُنفِّر عن اللّه، فتجده يدعو بعنف، وبدون إقناع، والنفوس تحتاج إلى اللين واللطف، وتحتاج إلى إقناع، حتى يُقبِل الناس عن اقتناع إلى دين الله، ويأخذوا بما دعا إليه هذا المُصلِح الذي يدعو إلى اللّه ﵎ من غير أن يمسَّ المجتمع بما يُشوِّش عليه، وما يُوغر صدوره على ولاة أموره.
إذن نقول: لا تعجب أيها الداعي إلى الله إذا تأخَّرت الإجابة، فإن اللّه قد يبتلي الداعي إلى الله ﷿ بتأخُّر قبول الناس وإجابتهم حتى يمتحنه أصادقٌ هو في الدعوة إلى الله، أم ليس بصداق؟
نوح ﵊ بقي في قومه ألف سنة إلا خمسين عامًا يدعوهم إلى اللّه.
يقول ﵊ في هذه السورة: ﴿قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا (٥) فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا﴾ [نوح: ٥، ٦] أتظنون أنه يدعوهم بدون آيات تدل على أنه رسول اللّه؟ لا، يدعوهم بالآيات التي تدل على أنه رسول اللّه، ومع ذلك لم يستجيبوا؛ بل لم يزده دعاؤه إياهم إلا فرارًا.
14 / 352
﴿وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ﴾ لئلا يسمعوا ﴿وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ﴾ يعني: تغطَّوا بها لئلا يروا؛ لأنهم يخشون إذا سمعوا شيئًا يدخل مسامعهم حتى يصل إلى قلوبهم، يخشون أن يؤمنوا بذلك، فأرادوا أن يسدُّوا طرق الهدى عنهم، كذلك يخشون أن يروا الآيات بأعينهم ثم يُلجئهم ذلك إلى الإيمان، فصاروا يستغشون ثيابهم حتى لا يروا الآيات - والعياذ باللّه -، وهذا دليل على شدة استكبارهم ونفورهم.
ويُستفاد من قوله: ﴿لِتَغْفِرَ لَهُمْ﴾: أنهم لو تابوا لغُفِر لهم، وهذا شأن اللّه ﷿ بعباده أن الإنسان كلما تاب إلى اللّه ولو عظُمَ الذنب فإن اللّه يغفر له، واستمع إلى قول اللّه تعالى في هذه الأمة؛ حيث أمر نبيَّه ﷺ أن يقول: ﴿قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ﴾ مهما عظُم، مع أن هؤلاء يسبُّون اللّه، ويسبُّون رسوله، ويسبُّون دينه، وقال: ﴿إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ﴾.
نوح ﵊ أول الرسل يقول: ﴿وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا﴾ على الكفر والعناد ﴿وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا﴾ أي: استكبروا استكبارًا عظيمًا.
﴿ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا (٨) ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا﴾ ولكن أبَوا، ﴿فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (١٠) يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا (١١) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ﴾ فانظر كيف رغَّبَهم أولًا بثواب الآخرة، وثانيًا بثواب الدنيا، ثواب الآخرة في قوله: ﴿لِتَغْفِرَ لَهُمْ﴾، ثواب الدنيا في قوله: ﴿يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا﴾ يعني: أمطارًا دارَّة، كلما جفَّت الأرض أمطرت السماء، ﴿وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا﴾ ولكن مع هذا الزغيب أبوا واستكبروا، وما آمن معه إلا قليل، حتى إن أحد أبنائه كفر به - نسأل اللّه العافية -، ولما وعد اللّه نوحًا أن يُنجِّيه وأهله صرف الله ابنَه عن الإيمان، وعن الركوب في السفينة التي نجا بها نوح ومن معه، فقال له أبوه: ﴿يَابُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ﴾ ماذا قال؟ ﴿قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ﴾ فاعتمد على الأمور الحِسِّية دون الأمور الإلهية، ولكن هل عصمه الجبل من الماء؟ أبدًا، ما عصمه، قال له أبوه: ﴿لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ﴾ [هود: ٤٣]، وبذلك تُعرَف قدرة اللّه ﷿، وأنه ﷾ ليس له بينه وبين خلقه نسب، وليس بينه وبين خلقه صلة إلا بشيء واحد، وهو التقوى ﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾ [الحجرات: ١٣].
14 / 353
أنت إذا تأمَّلتَ ما يُدبِّره اللّه في خلقه تبيَّن لك العجب العُجاب، إبراهيم ﵊ أبوه كافر، ونوح ابنُه كافر، ومحمد ﷺ عمُّه كافر، وهذه من آيات اللّه.
إبراهيم كان أبوه كافرًا، وجرى بينه وبينه محاورة، ذكرها الله تعالى في سورة مريم، وكان ابنُه إبراهيم ﵊ يدعوه باللُّطف، يقول: ﴿يَاأَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ﴾ ولم يقل: إني عالم وأنت جاهل؛ لأنه لو قال: أنت جاهل لصار في نفسه بعض النفور، لكنه قال: ﴿قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا (٤٣) يَاأَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا (٤٤) يَاأَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا﴾، الجواب بعد هذا التلطُّف في الخطاب، ماذا قال؟ ﴿قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَاإِبْرَاهِيمُ﴾ يعني: أترغب عن آلهتي فتوحِّد ولا تُشرِك، ﴿لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لأَرْجُمَنَّكَ﴾ هل تتصوَّر أن رجلًا يرجم ابنه بالحجارة؟ لكن مع طغيان أبيه وشركه أوجب له أن يقول لابنه: ﴿لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا﴾، فماذا قال له إبراهيم؟ ﴿قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا﴾، فوعده أن يستغفر له، ولكن قال الله ﵎: ﴿مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ﴾ [التوبة: ١١٣]، وأجاب ﷾ عن استغفار إبراهيم لأبيه: ﴿وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأَوَّاهٌ حَلِيمٌ﴾ [التوبة: ١١٤].
المهم: أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وجدوا من أقوامهم المعارضة والمعاندة؛ بل وعرض الرقاب للقتال، ولكن العاقبة للمتقين.
في النهاية قال نوح ﵊: ﴿رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا﴾ سأل اللّه أن يمحو الكافرين من على الأرض، وبيَّن عُذرَه في هذا الدعاء؛ لأنه قد يقول قائل: من المُتوقَّع أن يقول نوح: اللهم اهد قومي، لكنه قال: ﴿رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا﴾، ثم اعتذر عن هذا الدعاء بقوله: ﴿إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا﴾، فهذا اعتذار من نوح ﵊ عن هذه الدعوة العظيمة ﴿رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا﴾.
﴿رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَارًا﴾ أنزل اللّه في قصة نوح سورة كاملة، وأنزل في قصة يوسف سورة كاملة.
في هذه الآية دليل على: أن أبَوَي نوح كانا مؤمنَيْن، من قوله: ﴿رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ﴾ فدعا
14 / 354
لأبويَه، ولم يأت في القرآن أن اللّه أنكر عليه، أما إبراهيم فقال: ﴿رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ﴾ [إبراهيم: ٤١]، لكن اللّه أجاب عن هذا بأن إبراهيم استغفر لأبيه عن موعدة وعدها إياه، فلما تبين له أنه عدو للّه تبرأ منه إن إبراهيم لأواه حليم.
وبهذا نعرف أنه لا يجوز لأحد أن يطلب المغفرة لمن كان كافرًا - أي: لمن مات على الكفر -، ولو كان أقرب قريبٍ له، فلو أن رجلًا له أخ شقيق، من أحسن الناس معاملة في الأخُوَّة، لكنه لا يصلي، فمات هذا الذي لا يصلي، فإنه لا يجوز لأخيه أن يقول: اللهم اغفر له، ولا أن يقول: اللهم ارحمه؟ لماذا؟ لأنه مات على الكفر، والكافر لا يجوز لأحد أن يدعو له بالمغفرة؛ لأنه إذا دعا له بالمغفرة لكان هذا من الاعتداء في الدعاء؛ إذ إن اللّه تعالى قضى بعدله وحكمته أن الكافرين مخلَّدُون في النار.
***
14 / 355
تفسير سورة الإنسان
قال اللّه تعالى: ﴿هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ﴾.
الاستفهام هنا للتحقيق، والمعنى: قد أتى على الإنسان حينٌ من الدهر لم يكن شيئًا مذكورًا، وهذا حقٌّ، فإن الإنسان قبل أن يُخلَق هل هو شيءٌ مذكور؟ لا، وقد أتى عليه حينٌ من الدهر طويل لم يكن شيئًا مذكورًا، ولا يُعرَف عن فلان الذي خُلِق بعد ذلك.
وبيَّن اللّه ﷿ ابتداء هذا الخلق، فقال: ﴿إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا﴾.
النطفة هي الماء القليل، والمراد بها هنا: منيُّ الرجل، والأمشاج هي كما قال المتأخرون: هي الحيوانات المنويَّة، فإن هذه النطفة تشتمل على حيوانات منوية كثيرة جدًّا.
ومعنى قوله تعالى: ﴿نَبْتَلِيهِ﴾ أي: نختبره، وذلك بخلق السمع والبصر له، ولهذا قال: ﴿فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا﴾ وهذا اختبار من اللّه ليختبر العبد في ماذا يستعمل هذا السمع، وفي ماذا يستعمل هذا البصر، قد يستعمل الإنسان سمعَه في الاستماع إلى ما حرَّم اللّه؛ كالاستماع إلى الأغاني الماجنة، والاستماع إلى الموسيقى وآلات الطرب، إلا ما استُثنِي منها، ومما استُثنِي من آلات الطرب: الدف في الأفراح والأعراس؛ في الأفراح: كأيام الأعياد، وفي الأعراس: كأيام الدخول، دخول الإنسان بزوجته، فإن هذا مما رُخِّص فيه.
ويبتلي الله ﷿ الإنسان بالبصر، أعطاه البصر ليبتليه؛ ينظر هل يُبصِر فيما أحلَّ اللّه له، أو فيما حرَّم اللّه عليه، ومن الإبصار فيما حرَّم اللّه عليه: أن يُطلِق الإنسان بصرَه بالنظر إلى ما حرَّم اللّه؛ كنظر المرأة الأجنبية، ونظر الصور الخالعة، وما أشبه ذلك، فجعل اللّه للإنسان سمعًا وبصرًا ابتلاءً واختبارًا.
ثم بيَّن ﷿ أنه هدى الإنسان السبيل؛ أي: بيَّن له الطريق ﴿إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا﴾ أي:
14 / 356
بيَّن اللّه الطريق للإنسان سواءً كان شاكرًا أو كان كفورًا.
فمن هو الإنسان الشاكر الذي يشكر نعمة الله على هدايته لهذا الطريق؟ هو المؤمن، والكافر هو الجاحد لهذه النعمة، فانقسم الناس بعد هداية اللّه لهم إلى قسمين:
إلى شاكرٍ قام بطاعة المُنعِم، وإلى كافرٍ جحَدَ نعمة المُنعِم، ولم يقُم بالشكر ولا بالطاعة.
ثم بيَّن اللّه بعد ذلك جزاء هؤلاء وهؤلاء، فقال: ﴿إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلَاسِلَ وَأَغْلَالًا وَسَعِيرًا﴾ أعتدنا بمعنى: هيّأنا، والسلاسل: ما يُربَط به المُجرِم الكافر، والأغلال: أن تُغلَّ يداه إلى عُنُقه، والسعير: النار المُحرِقة - والعياذ بالله -.
وهذا الجزاء مُجمَلٌ في ثلاث كلمات: ﴿سَلَاسِلَ وَأَغْلَالًا وَسَعِيرًا﴾.
ثم انتقل ﷿ إلى الأبرار الذين هم ضد الكافرين والفُجَّار، فقال: ﴿إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا (٥) عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا﴾ [الإنسان: ٥، ٦]، وأطال ﷾ في وصف ثواب الأبرار؛ لأن اللّه تعالى فصَّل أعمالهم، فقال: ﴿يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا (٧) وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا (٨) إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا (٩) إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا﴾ [الإنسان: ٧ - ١٠]، فتجِدون أن الله ﷿ فصَّل أعمالهم، وكان مُقابِل هذا التفصيل في الأعمال أن يُقابَل ذلك بتفصيل الجزاء، أما الكفار فإن اللّه ذكر عملهم مُجمَلًا، فذُكِر جزاؤهم مجُمَلًا، وهذا من بلاغة القرآن.
فلو قال قائل: لماذا أطال اللّه ﷿ في ذكر ثواب الأبرار، وأجمل في ذكر جزاء الكافرين؟
الجواب: لأن اللّه فصَّل أعمال الأبرار في عدة آيات: ﴿يُوفُونَ بِالنَّذْرِ﴾، ﴿وَيَخَافُونَ يَوْمًا﴾، ﴿وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ﴾، ﴿إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ﴾، ﴿إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا﴾، فذكر أعمالًا مُتعدِّدة، فكان مقابل ذلك أن يُذكر جزاؤهم مُفصَّلًا كما ذُكِرت أعمالهم مُفصَّلة، أما الكفار فذُكِرت أعمالهم مُجمَلة، وكان مُقابل ذلك أن يُذكَر جزاؤهم مُجمَلًا.
يقول اللّه تعالى: ﴿وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ﴾ [الإنسان: ٢١]، وفي آيات أخرى: ﴿يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ﴾ [الحج: ٢٣]، فهل هناك تناقُض بين هذه الآيات؟
الجواب: لا؟ بل هم يُحلَّون بحُليٍّ بعضُه فضة، وبعضُه ذهب، وبعضُه لؤلؤ، وأنت تصوَّر لو تجد الحُلِي بالفضة البيضاء اللامعة، والذهب الأحمر، واللؤلؤ الصافي لوجدتَ منظرًا عظيمًا يُطرِب
14 / 357
الأعيُن، ويسرُّ النفس.
وإلى أين يكون هذا الحُلِيُّ؛ هل هو في جزءٍ من الذراع، أو في جميع الذراع؟
يكون في جميع الذراع، لقول النبي ﷺ: "تَبْلُغُ الحِلْيَةُ مِنَ المُؤْمِنِ حَيْثُ يَبْلُغُ الوُضُوءُ"، والوضوء يبلُغ إلى المرافق، وعلى هذا يكون الذراع كله مملوءًا بالحلية، نسأل اللّه تعالى أن يجعلنا وإياكم ممن يُحلَّون بهذا الحُلِيِّ.
ثم قال اللّه تعالى لنبيه محمد ﷺ: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلًا﴾ [الإنسان: ٢٣] القرآن هو كلام اللّه الذي بين أيدينا في المصاحف، مكتوبٌ في المصاحف، محفوظٌ في الصدور، وكلام اللّه مُنزَّل غير مخلوق؛ لأن اللّه تعالى ذكر في عدة آيات أنه أنزله على محمد ﷺ، فتارةً يقول: ﴿أَنزَلْنَاهُ﴾، وتارةً يقول: ﴿نَزَّلْنَا﴾؛ وذلك لأن القرآن ينزل إلى الرسول ﷺ شيئًا فشيئًا، ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ﴾، فالتعبير بـ (أنزل) باعتباره كاملًا، والتعبير بـ (نزَّل) باعتباره مُجزَّأً، ينزل شيئًا فشيئًا، هنا يقول: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلًا﴾ يعني: شيئًا فشيئًا ﴿فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا﴾، فلما ذكر اللّه منته عليه بتنزيل القرآن أمره أن يصبر لحكم اللّه، وقد يرِد على الإنسان سؤال في نفسه؛ حيث يقول: من المُتوقَّع أنه لما قال: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلًا﴾ أن يقول: فاشكر نعمة اللّه؛ لأن تنزيل القرآن عليه نعمة، فلماذا قال اللّه ﷿: ﴿فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا﴾؟
نقول: لأن تنزيل القرآن عليه عهدٌ وميثاقٌ أن يُبلِّغه إلى الأمة، وتبليغُه إلى الأمة يحتاج إلى صبر ومعاناة؛ لأنه سوف يُكذَّب، وسوف يُؤذَى على هذا الوحي، فيحتاج إلى صبر، ولهذا نقول لكل من منَّ اللّه عليه بعلمٍ: اصبر على ما أعطاك اللّه من العلم، ابذُل هذا العلم تعليمًا، ودعوة، وخُلُقًا، وأدبًا، وعبادة؛ لأن اللّه لم يُحمِّلك هذا العلم إلا سيسألك عنه يوم القيامة.
وقوله: ﴿فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ﴾ هل المراد: الحكم الكوني، أو القدري أو هما جميعًا؟ هما جميعًا، اصبر لحكم اللّه الشرعي؛ حيث ألزمه اللّه بأن يُبلِّغ ما أُنزِل إليه من ربه، وللحكم الكوني إذا جرى عليه من عباد الله ما يكره، ومن المعلوم أن النبي ﷺ جرى عليه من الأذية ما وصل بالصبر عليه إلى قمة الصابرين، فقد أُوذِي عنه ﵊ إيذاءً شديدًا، حتى إنه كان ذات يومٍ ساجدًا تحت الكعبة، فجاء ملأُ قريش، بسلا جزور - يعني: فرْثَها وما في بطنها -، جاءوا به فوضعوه عليه وهو ساجد ﵊، كل هذا إغاظةً له، وإلا فمن المعلوم أن قُريشًا
14 / 358