Tafsir Al-Uthaymeen: Al-Furqan
تفسير العثيمين: الفرقان
Editorial
مؤسسة الشيخ محمد بن صالح العثيمين الخيرية
Número de edición
الأولى
Año de publicación
١٤٣٦ هـ
Ubicación del editor
المملكة العربية السعودية
Géneros
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تقديم
إنَّ الحمدَ للَّهِ، نحمدُهُ ونَسْتعينُه ونَسْتغفرُه، ونَعوذُ باللَّهِ مِن شُرور أَنْفُسنا ومِن سيِّئات أعمالِنا، مَن يَهْده اللَّهُ فلا مُضِلَّ له، ومَن يُضْلِلْ فَلا هادِيَ له، وأَشْهَد أنْ لا إلَهَ إلا اللَّهُ وحدَه لا شريكَ لَه، وأَشْهَد أنَّ محمَّدًا عبدُه ورسولُه، أرسلَه اللَّهُ بالهُدَى ودِين الحَقِّ، فبلَّغَ الرِّسالةَ، وأدَّى الأمانةَ، ونَصَح الأمَّةَ، وجاهَد في اللَّه حَقَّ جِهادِه، حتَّى أتاهُ اليَقينُ، فصَلواتُ اللَّهِ وسلامُه عليهِ وعلَى آلِه وأصحابِه ومَن تَبِعهم بإحسانٍ إلَى يومِ الدِّين، أَمَّا بَعْدُ:
فمِنَ الدُّروسِ العِلميَّة المُسجَّلَة صَوتيًّا، والَّتِي كانَ يَعقِدُها صاحِبُ الفَضِيلةِ شَيخُنا العلَّامةُ الوالِدُ محمَّدُ بنُ صالحٍ العُثَيْمِين -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى- في جامِعِهِ بمَدِينَةِ عُنَيْزَةَ صَباحَ كُلِّ يومٍ أَثْناءَ الإِجازاتِ الصَّيْفيَّة؛ حَلقاتٌ فِي تَفْسير القُرآن الكَرِيم كانَت بِدايتُها مِن سُورة النُّور وما بَعدَها؛ حتَّى بلَغ قَولَه تَعالَى في سُورة الزُّخرف: ﴿وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ (٤٥)﴾.
وقَدِ اعتَمدَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعالَى في تَفْسيرِه لتِلْكَ السُّور كِتابًا بَيْن يَدَيِ الطُّلاب هُو (تَفْسير الجَلالَيْنِ) للعلَّامة جَلال الدِّين محمَّد بنِ أَحْمدَ بنِ محمَّدِ بنِ إبراهيمَ المَحَلِّيِّ، المُتوفَّى سَنَةَ (٨٦٤ هـ) (^١)، والعلَّامة جَلال الدِّين عبد الرَّحمن بن أَبِي بَكْر بنِ محمَّد
_________
(^١) انظر ترجمته في: الضوء اللامع (٧/ ٣٩)، حُسن المحاضرة (١/ ٤٤٣).
1 / 5
ابنِ سابِق الدِّين الخُضَيْرِيِّ السُّيُوطِيِّ، المُتوفَّى سنة (٩١١ هـ) (^١). تغمَّدهما اللَّه بواسِع رَحمته ورِضوانه، وأَسْكنهما فَسِيحَ جنَّاتِه، وجَزاهُما عَنِ الإِسْلام والمُسلِمِينَ خَيرَ الجزاءِ.
وسَعْيًا -بإِذْنِ اللَّهِ تَعالَى- لِتَعْمِيمِ النَّفْع بتِلْكَ الجُهُود المُبارَكة فِي هَذا المَيْدَان العَظِيم باشَر القِسْمُ العِلْمِيُّ بِمُؤسَّسةِ الشَّيخِ مُحمَّد بنِ صالِحٍ العُثَيْمِين الخَيْرِيَّةِ واجِباتِه فِي شَرَفِ الإِعْدادِ والتَّجْهِيز للطِّباعةِ والنَّشْر لِإِخْراجِ ذَلِكَ التُّراث العِلمِي؛ إنفاذًا للقَواعِدِ والضَّوابِط والتَّوْجِيهاتِ الَّتِي قَرَّرها فَضيلةُ الشَّيخِ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعالَى في هَذا الشَّأْنِ.
نَسْأل اللَّهَ تعالَى أنْ يَجْعلَ هَذا العَمَلَ خالصًا لِوجهِه الكَريمِ؛ نافِعًا لعِبادِه، وأنْ يَجزِيَ فَضِيلةَ شيخِنا عَنِ الإسلامِ والمسلمِينَ خَيْرَ الجَزَاء، ويُضَاعِفَ لهُ المثُوبَةَ والأَجْرَ، ويُعلِيَ دَرَجَتَهُ في المَهْدِيِّينَ، إِنَّه سَمِيعٌ قَرِيبٌ مجُيبٌ.
وَصَلَّى اللَّهُ وسلَّم وبارَك علَى عبدِه ورَسولِه، خاتَمِ النَّبِيِّينَ، وإِمامِ المُتَّقِينَ، وسيِّدِ الأوَّلينَ والآخِرينَ، نبيِّنَا محمَّدٍ، وعلَى آلِه وأَصْحابِه والتَّابعينَ لهُمْ بإِحْسانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّين.
القِسْمُ العِلْمِيُّ فِي مُؤَسَّسَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدِ بْنِ صَالِحٍ العُثَيْمِين الخَيْرِيَّةِ
٢٠ جُمَادَى الآخِرَة ١٤٣٦ هـ
* * *
_________
(^١) انظر ترجمته في: الأعلام للزركلي (٣/ ٣٠١).
1 / 6
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
* * *
* قالَ اللَّه ﷿: ﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾.
* * *
الحمدُ للَّه ربِّ العَالمِينَ، وصلَّى اللَّهُ وسلَّمَ عَلَى نبيِّنَا مُحَمَّدٍ، وعَلَى آلِهِ وأصحَابِهِ ومَنْ تَبِعَهُم بإحَسَانٍ إِلَى يَومِ الدِّينِ. وبَعد:
تَقَدَّمَ الكَلامُ على البَسْمَلَةِ، وما أكثرَ الكَلامَ عليها في المؤلَّفات؛ لِأَنَّهَا تكون في كل مؤلَّف. والجارُّ والمجرور متعلِّق بمحذوفٍ تقديره (اقْرَأْ)، ويُقَدَّر عندَ كلِّ فِعلٍ بما يُناسِبُه، فعندَ القراءةِ تقولُ: بِاسمِ اللَّهِ أَقرَأُ، وعندَ الأكلِ تقولُ: باسمِ اللَّهِ آكُل، وعندَ الشُّرْبِ تقولُ: باسمِ اللَّهِ أَشرَبُ، وعندَ الذَّبحِ تقولُ: باسمِ اللَّهِ أَذبَحُ، كما قالَ النَّبيُّ ﷺ: "فَلْيَذْبَحْ بِاسْمِ اللَّهِ" (^١).
وقدَّروه فِعلًا، لا مصدرًا، يعني قالوا: (باسمِ اللَّه أَقْرَأُ) ولم يقولوا: (باسمِ اللَّهِ قِراءتي) فيقدَّر فعلًا؛ لسَبَبين:
أوَّلًا: التَّسْمِيَة على فِعْلٍ، والفعل يَقتضي التجدُّد والحُدُوث، وهَذِهِ فائدة مَعنويَّة.
ثانيًا: لأنَّ الأَصْلَ في العَمَلِ هو الفعلُ، فَهُوَ الَّذِي يَقْوَى على أنْ يعملَ محذوفًا،
_________
(^١) أخرجه البخاري: كتاب التوحيد، باب السؤال بأسماء اللَّه تعالى والاستعاذة بها، رقم (٧٤٠٠)، ومسلم: كتاب الأضاحي، باب وقتها، رقم (١٩٦٠).
1 / 7
وحينَئذٍ هو الَّذِي يَحسُن أن يُقدَّر دونَ الِاسمِ، لِأَنَّ عَمَلَ الاسمِ فرعٌ، ليسَ أصلًا، فاسم الفاعِلِ مثلًا يَعْمَلُ عَمَلَ فِعله لِأَنَّهُ مُشَبَّهٌ به.
وقدَّروه مؤخَّرًا، يعني قالوا: يَنبغي أن تقولَ: "باسمِ اللَّهِ أَقرَأُ"، لا "أقرَأُ باسمِ اللَّهِ"، والسَبَبُ:
أولًا: التبرُّك بالبداءةِ بـ (باسمِ اللَّهِ).
ثانيًا: إفادةُ الحصْرِ، لِأَنَّ تقديمَ المعمولِ يَدُلُّ على الحَصْرِ.
وقدَّروه خاصًّا أيضًا، يعني لا تقول مثلًا عندما تُرِيد أن تتوضأ: (باسمِ اللَّهِ أَبْتَدِئُ)، وعندما تُرِيد أنْ تقرأَ (باسمِ اللَّهِ أَبْتَدِئُ)، لِأَنَّهُ أدلُّ على المقصود.
إذَن الجارُّ والمجرورُ متعلِّق بمحذوفٍ، يَكُون هَذَا المحذوف فِعلًا متأخِّرًا خاصًّا، والبَسْمَلَةُ كثيرًا ما تقع؛ فعندما تُرِيد أن تتوضأَ تقول: (بِاسمِ اللَّه) التقدير (بِاسمِ اللَّهِ أَتَوَضَّاُ)، وهذا أحسنُ من أن تقدِّر (وُضُوئي بِاسْمِ اللَّهِ) مثلًا، وأحسن من أن تقدِّر (بِاسْمِ اللَّهِ أَبْتَدِئُ) فتقدِّر الفعل الخاصَّ المتأخِّر.
أمَّا (اللَّه) فَهُوَ عَلَمٌ على الذَّات المقدَّسة، ذات اللَّه ﷾، ويَخْتَصُّ به، وأصله (الإِلَه)، لكِن لكثرة الاستعمالِ حَذَفوا الهمزةَ، مثلَما حذفوا الهمزة في (النَّاس)، وأصلها (الأُناس)، إذَن (إِلَه) فِعَالٌ بمعنى مفعولٍ، أي مَأْلُوه، ومعنى مألوه أي معبود، فهَذِهِ اللَّفظة إذَن مُشْتَقَّة وأصلها الإله، والأُلُوهِيَّة هي العِبَادَة.
وقوله: (الرَّحْمَنِ) من الأَسْماء المُخْتَصَّة باللَّه ﷾، وهو صفة مُشَبَّهة، وإنما قدَّرناه صفةً مشبهةً لِأَنَّهُ على وزنها، مثل (فَعْلَان) على وزن (غَضْبَان)، ثُمَّ إن الصِّفة المشبَّهة تفيد الثُّبُوت والاستمرار، بخلاف اسْم الفاعل، وإنما جاءت (الرَّحمن)
1 / 8
بهَذِهِ الصيغة لِسَعَةِ رحمة اللَّه ﷾، وبهذا فسَّرَه بعض العلماء بقوله: الرَّحمن ذو الرَّحمة العامَّة، والرَّحيم فَعِيل مُشْتَقٌّ مِنَ الرَّحْمَة أيضًا، لَكِنَّه يُفيدُ الفعلَ، أي: إيصال الرَّحمة إلى المرحومِ، والأوَّل الرَّحمن يُفيدُ الوَصْفَ. ولهذا قالَ تعالَى: ﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾ حينما أراد الصِّفَة المطلَقة، وقال: ﴿وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا﴾ حينما أراد إيصال الرَّحمةِ إلى المرحومِ.
فالحاصِلُ: أنَّ الرَّحمنَ والرَّحيمَ إذا اجتمعا يُفَسَّرُ الرَّحمنُ بأنَّه دالٌّ على الصِّفة أكثر من دَلالتِه على الفعلِ، والرَّحيم دال على الفعلِ أكْثَر من دلالته على الصِّفةِ، وإنْ كانَ كلٌّ مِنْهُمَا يدُلُّ على صفةِ الرَّحمةِ، هَذَا إذا اجْتَمَعَا، أمَّا إذا افْتَرَقَا فمعناهما وَاحِدٌ.
* * *
1 / 9
الآية (١)
* * *
* قالَ اللَّه ﷿: ﴿تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا﴾ [الفرقان: ١].
* * *
قال المُفَسِّر (^١) ﵀: [﴿تَبَارَكَ﴾ تَعَالَى]، ففسَّر المُفَسِّر التَّبارُكَ بالتعالي. ولا شكَّ أَنَّ هَذَا التفسير فيه نوعٌ من القُصُور؛ لِأَنَّ ﴿تَبَارَكَ﴾ تدل على التعالي بل وعلى كثرة الخير وسَعَتِه ودوامه، فمعناه أَنَّهُ كثُرتْ خيراتُه وعظُمتْ واستمرَّتْ للعِبادِ.
قوله: ﴿الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ﴾ هَذَا من جُملة البَرَكَة الَّتِي هي من صفةِ اللَّه ﷾ أَنَّهُ نَزَّل الفُرقان على عبدِهِ محمَّدٍ ﷺ وقوله: ﴿نَزَّلَ﴾ فَعَّل تُفِيدُ النُّزُول شيئًا فشيئًا، وهكذا القُرْآن الكريم كان يَنزِلُ على النَّبيِّ ﷺ شيئًا فشيئًا، والكُتُب السابقة كانت تَنزل جُملةً وَاحِدةً؛ لقولِهِ تَعَالَى في هَذِهِ السُّورة: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً﴾، فردَّ اللَّه عليهم بقوله: ﴿كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا﴾ [الفرقان: ٣٢].
وقوله: ﴿نَزَّلَ الْفُرْقَانَ﴾ يفيد أَنَّ هَذَا القُرْآن كَلامُ اللَّهِ.
_________
(^١) المقصود بـ (المفسر) هنا: محمد بن أحمد بن محمد بن إبراهيم جلال الدين المحلي، المتوفى سنة (٨٦٤ هـ) ﵀ ترجمته في: الضوء اللامع (٧/ ٣٩)، حسن المحاضرة (١/ ٤٤٣).
1 / 11
فَإِذَا قَالَ قَائِلٌ: ليس في هَذَا دليلٌ على أنَّهُ كَلام اللَّه، لِأَنَّ اللَّه ﷾ يقول: ﴿أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً﴾، والماء الَّذِي هو المطرُ ليس صفةً من صفات اللَّه، فلا يَلْزَمُ إذا قال اللَّه: إِنَّهُ نَزَّل القُرْآن أنْ يَكُونَ القُرْآن صفةً من صفاتِهِ، لِأَنَّ اللَّه تَعَالَى يُضِيفُ التنزيلَ والإنزالَ إلى ما ليسَ من صِفَتِه؟
فالجواب عن ذلك أنْ يُقالَ: إذا أضاف اللَّه تَعَالَى إنزالَ شَيْءٍ إليه فإنْ كانَ هَذَا الشَيْءُ عَيْنًا قائمًا بذاته فليس من صفات اللَّه، أو كان صفةً في عينٍ قائمةٍ بذاتها فليس من صفات اللَّه، وإن كان صفةً لا يُمْكِنُ أن تقوم بعَينِها، يعني ليس عينًا قائمًا بذاتِه ولا صفةً في عين قائمةٍ بذاتها؛ لَزِمَ أنْ يَكُونَ صفةً من صفات اللَّه، فالقُرْآنُ كَلام هل يمكن أن يَكُون الكَلام عينًا قائمةً بذاتها؟ لا يُمكِنُ، وهنا لم يُضَفْ إلى أحدٍ من النَّاس حتى نقول: إِنَّهُ صِفَة في عينٍ قائمةٍ بذاتِها، فيَلْزَم أنْ يَكُونَ مخلوقًا كالعينِ القائمةِ به. وعلى هَذَا يَتَعَيَّن أنْ يَكُونَ كَلامًا للَّهِ وصفةً من صفاتِهِ.
وكذلك في قَوْلِهِ: ﴿نَزَّلَ﴾ دليلٌ على صفةِ العلوِّ للَّهِ ﷾.
وقوله: ﴿الْفُرْقَانَ﴾ هو القُرْآنُ، وُصِفَ بذلك لِأَنَّهُ يُفَرِّقُ بين الخير والشرِّ، وبينَ الحقِّ والباطِلِ، وبينَ أهلِ الحقِّ وأهلِ الباطِلِ، وأهل الخير وأهل الشرِّ، فَهُوَ فُرقان في كل شَيْءٍ، وكما أَنَّهُ فُرقان بذاتِهِ يُفرِّق فإنَّ مَن كان من أهلِهِ ولَازَمَه وعَمِلَ به أُوتِيَ هَذِهِ الصِّفَةَ، وصار له تفريقٌ بين الحقِّ والباطل، لِقَوْلِ اللَّهِ ﷿: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا﴾ [الأنفال: ٢٩].
قوله: ﴿نَزَّلَ الْفُرْقَانَ﴾ إذا كان القُرْآن فُرقانًا بين الحقِّ والباطلِ، وبين الخيرِ والشرِّ؛ لَزِمَ من ذلك أنْ يَكُون بَيِّنًا واضحًا، ليسَ فيه إجمالٌ وليس فيه إشكالٌ، كيف يَلْزَمُ ذلكَ؟ لِأَنَّهُ لو كان فيه إجمالٌ أو اشتباه لم يَكُنْ فُرقانًا؛ لِأَنَّ ما ليسَ بِمُشْتَبِهِ
1 / 12
كيفَ يَكُونُ فُرقانًا، فالفُرْقان يَحتاج أن يَكُونَ واضحًا موضِّحًا بَيِّنًا.
فَإِذَا قَالَ قَائِلٌ: اللَّه يقول: ﴿اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا﴾ [الزمر: ٢٣]: ﴿كِتَابًا مُتَشَابِهًا﴾ وهذا يَقتضي أن يَكُون فيه اشتباهٌ؟
قُلْنَا: المرادُ بالمتشابِهِ هنا الموافِق بعضُه بعضًا، والمُشْبِه بعضُه لبعضٍ في الكمال والحُسْن، فهذا من المُتَشَابِه؛ كَقَوْلِهِ ﷾: ﴿وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا﴾ [البقرة: ٢٥]، أي متوافقًا ومتشاكِلًا، هكذا القُرْآن متشابهًا، بمعنى أَنَّ بعضَه يُشْبِهُ بعضًا في الحُكْمِ ويُوافِقه ولا يُخالِفهُ، وَأَمَّا قوله ﷾: ﴿مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ﴾ [آل عمران: ٧]، فقد بَيَّن اللَّه أَنَّ هَذِهِ المُحْكَمَات إليها المَرْجِع: ﴿هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ﴾، وإذا كنَّ أُمَّ الكِتَاب لَزِمَ أن يُرَدَّ المتشابِه إلى المُحْكَمِ، وإذا رُدَّ المتشَابِهُ إلى المحكَم صار الجميع محكَمًا، وهَذِهِ القاعدة الَّتِي ذَكَرَهَا اللَّهُ هي الَّتِي عليها الراسِخونَ في العِلم، وهي الَّتِي يَستريحُ بها الإنْسَانُ منْ الِاحْتِمَالات؛ لِأَنَّهُ يأتينا دائمًا في القُرْآن وفي السنَّة نصوصٌ فيها احْتِمَالاتٌ تَحتمِل كذا وتَحتمل كذا، وعندنا نصوصٌ أُخْرَى واضحة صريحة ليس فيها إشكالٌ، فالواجبُ عَلينا أنْ نَحْمِلَ هَذَا المُشْتَبِهَ على المُحْكَم، أيْ على ما يُوافِقُه ولا يُخالِفُه؛ ليَكُونَ الجميعُ محُكَمًا.
مثال رَدِّ المتشابِهِ إلى المحكَم:
أولًا: مثال في الخبر: قول اللَّه ﷾: ﴿وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ﴾ [الحديد: ٤]، قد يَشْتَبِهُ على الإنْسَان أَنَّ اللَّه تَعَالَى معنا بذاته، ولَكِن عندنا نصوصٌ محكَمَةٌ تدل على عُلُوِّ اللَّه، وأن المَعِيَّة الذَّاتية الَّتِي يَكُون اللَّه تَعَالَى معنا في كل مكان هَذِهِ مستحيلة، ولهذا الَّذِين في قلوبهم زَيْغٌ اتبعوا هَذَا المتشابِهَ وتركوا المحكَم، وقالوا: إن اللَّه مَعَنا بذاتِهِ في كل مكانٍ.
1 / 13
ثانيًا: مثال في الحُكْم:
قال النَّبي ﵊: "إِذَا دَخَلَ أَحَدُكُمُ المَسْجِدَ فَلَا يَجْلِسْ حَتَّى يُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ" (^١)، ودخل رجل يوم الجمعة وهو يخطب فجلس فقال: "أَصَلَّيْتَ؟ ". قَالَ: لَا. قَالَ: "قُمْ فَصَلِّ رَكْعَتَيْنِ" (^٢) هَذَا مُحْكمٌ واضِحٌ بَيِّن على طلب صلاة الركعتين لكل من دخلَ المسجدَ وألَّا يجلسَ حتى يصليَ ركعتينِ، وفيه حَديث الثَّلاثَةِ الَّذِينَ جَاؤُوا والرَّسول ﵊ في أصحابِهِ، فأَحَدُهم جلسَ وأحدُهم دخلَ الحَلْقَة، والثالث انصرفَ (^٣)، وليس في الحديث ما يَدُلُّ على أنَّ أحدًا منهم صَلَّى ركعتينِ، فهذا مُشْتَبِهٌ؛ لِأَنَّهُ قد يَدُلُّ على أَنَّ تحيةَ المسجدِ ليستْ مطلوبةً، لَكِننا لا يمكن أنْ نَدَعَ الحديثَ المحكَمَ مِنْ أجْلِ هَذَا الاحْتِمَالِ، لاحْتِمَالِ أن هَؤُلَاءِ الرِّجالَ الثَّلاثَةَ صَلَّوْا والرَّسول ﷺ يَرَاهُم ولم يُنْكِرْ عليهم، ولاحْتِمَال أن يَكُونوا على غير وضوءٍ، ولاحْتِمَالاتٍ أُخرى، فلهذا لا نَدَعُ المحكَم مِنْ أجْل هَذَا المتشابِهِ، والأمثلةُ على هَذَا كثيرةٌ.
وقوله تَعَالَى: ﴿عَلَى عَبْدِهِ﴾ مُحَمَّدٍ ﷺ وهَذِهِ العُبُودية أَخَصُّ العُبُودِيَّاتِ الَّتِي يُوصَف بها النَّاس، لِأَنَّ العبودية تَنقسِم إلى ثلاثةِ أقسامٍ: عامَّة، وخاصَّة، وأخص:
_________
(^١) أخرجه البخاري: كتاب الصلاة، باب إذا دخل أحدكم المسجد فليركع ركعتين قبل أن يجلس، رقم (٤٤٤)، ومسلم: كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب استحباب تحية المسجد، رقم (٧١٤).
(^٢) أخرجه البخاري: كتاب الجمعة، باب من جاء والإمام يخطب صلى ركعتين خفيفتين، رقم (٩٣١)، ومسلم: كتاب الجمعة، باب التحية والإمام يخطب، رقم (٨٧٥).
(^٣) أخرجه البخاري: كتاب العلم، باب من قعد حيث ينتهي به المجلس، ومن رأى فرجة في الحلقة فجلس فيها، رقم (٦٦)، ومسلم: كتاب السلام، باب من قعد حيث ينتهي به المجلس، ومن رأى فرجة في الحلقة فجلس فيها، رقم (٢١٧٦).
1 / 14
* العامَّة: هي الَّتِي تَشمَل جميع الخَلْق، مثل قوله ﷾: ﴿إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا﴾ [مريم: ٩٣]، كل الخَلْق عِبَاد اللَّه، ومنها أيضًا قوله: ﴿إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ﴾ [الحجر: ٤٢]، استثنَى مَنِ اتَّبَعَه من عِبادِهِ.
* الخاصَّة: مثل قوله تَعَالَى: ﴿وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا﴾ [الفرقان: ٦٣].
* الأخَصّ: وهي عُبُودِيَّة الرِّسَالة؛ كَقَوْلِهِ ﷾ في نوح: ﴿إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا﴾ [الإسراء: ٣]، وقوله في مُحَمَّد ﷺ: ﴿تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ﴾ [الفرقان: ١]، هَذِهِ أخص مِنَ الأُولى؛ لِأَنَّهَا عُبُودِيَّة خاصَّة بتكليفٍ خاصٍّ، وهو الرِّسَالة.
ووصفُ الإنْسَان بالعبوديَّةِ للَّه ﷾ وإضافتُه إلى اللَّهِ هل هَذَا تشريف أو إهانة؟
تشريف، ولا شك أنَّ له الفخرَ كلَّ الفخرِ بأنْ يَكُونَ عبدًا للَّه ﷾. حتى إن الإنْسَان ليحب أن يُنْسَب إلى عبودية غيره من بني الإنْسَان إذا كان يُحِبُّه، وفي هَذَا يقول الشاعر في مَعْشُوقَتِه (^١):
لَا تَدْعُني إِلَّا بِيَا عَبْدَهَا ... فَإِنَّهُ أَشْرَفُ أَسْمَائِي
يعني: لا تقول: يا مُحَمَّدُ، يا بكرُ، يا خالدُ، يا عليُّ، لا، هناك اسْم أشرف عنده وهو أن تقول: يا عبدَ فُلانةَ؛ لِأَنَّهُ يَفْخَرُ أن يَكُونَ عبدًا لها.
_________
(^١) البيت من السريع، وأورده صاحب لطائف الإشارات (١/ ٤٩).
1 / 15
فالعُبُودية للَّه ﷿ لا شكَّ أنها مَفْخَرَةٌ للعابدِ إذا أُضيفتْ إلى اللَّهِ.
قَالَ المُفَسِّر ﵀: [﴿الْفُرْقَانَ﴾ القُرْآن لِأَنَّهُ فَرَّق بينَ الحقِّ والباطلِ]، وكذلك بين الخيرِ والشرِّ، ثُمَّ قَالَ ﵀: [﴿عَلَى عَبْدِهِ﴾ مُحَمَّد ﷺ ﴿لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ﴾ أي الإنس والجِنّ دونَ المَلائِكةِ].
قوله: ﴿لِيَكُونَ﴾ الضمير يعود على مُحَمَّدٍ ﷺ لقولِهِ ﷾: ﴿يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ﴾ [الأحزاب: ٤٦]، فالنَّذير مُحَمَّد ﷺ.
ويَحْتَمِلُ أنْ يَكُونَ الضمير في قوله: ﴿لِيَكُونَ﴾ أي الفُرقان نذيرًا للعالمينَ؛ لِقَولِه ﷾: ﴿لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ﴾ [الأَنعام: ١٩]، فجعل الإنذارَ بالقُرْآنِ، ولَكِنْ هَذَا ليسَ براجِحٍ، بل الراجح الأوَّل.
أولًا: لِأَنَّ الضميرَ يعود إلى أقربِ مذكورٍ، وقوله ﷿: ﴿لِيَكُونَ﴾ الَّذِي قبلَه مباشرةً: ﴿عَبْدِهِ﴾.
ثانيًا: أن اللَّه وَصَفَ النَّبي ﷺ بذلك في قولِه ﷾: ﴿إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا﴾ [الأحزاب: ٤٥].
وقوله ﷾: ﴿لِلْعَالَمِينَ﴾ العَالَم، يقول المُفَسِّر ﵀: [الإنس والجن دون الملائكة]، أَمَّا الإنسُ فظاهِرٌ، وَأَمَّا الجِنُّ فكذلك أيضًا دَلَّتِ النصوص عَلَى أَنَّ النَّبي ﷺ مُرْسَلٌ إليهم.
والدليل على هَذَا قوله تَعَالَى: ﴿وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ﴾ [الأحقاف: ٢٩]، وقوله: ﴿قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا﴾ [الجن: ١]. وكذلك النَّبي ﵊ قال لهم: "لَكُمْ كُلُّ عَظْمٍ ذُكِرَ
1 / 16
اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ يَقَعُ فِي أَيْدِيكُمْ أَوْفَرَ مَا يَكُونُ لحَمًا" (^١)، فقَيَّدَهُمْ بأحكامِ الشَّريعة.
أما الملائكة فالدليل على أَنَّهُ ليسَ رسولًا إليهم قولُ اللَّه تَعَالَى: ﴿قُلْ لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولًا﴾ [الإسراء: ٩٥]، فأفادتِ الآية أن الملائكةَ يُرْسَلُ إليهم ملائكة، والنَّبي ﵊ ليس بِمَلَك، ويَقْتَضِي ذلك ألَّا يَكُون رسولًا إلى الملائكة، لكِن على الملائكة أن يُصَدِّقُوا به، وهم بلا شكٍّ مُصدِّقون بالرَّسول ﵊، ولَكِنَّه ليس مَبعوثًا إليهم، ولا مكلَّفًا بتبليغِهم، ﵊.
إذَنْ يَكُون قوله تَعَالَى: ﴿لِلْعَالَمِينَ﴾ من باب العامِّ الَّذِي أُريدَ به الخاص؛ لِأَنَّ الملائكةَ مِنَ العالمَين، كما في قولِهِ تَعَالَى: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [الفاتحة: ١]، فكلُّ مَن سِوَى اللَّه عَالَم.
وقولُه: ﴿نَذِيرًا﴾ النَّذير هو المُخْبِر بما يُخَوِّفُ، والبَشير المُخْبِرُ بما يَسُرُّ وعلى هَذَا يَكُون الرَّسول ﷺ مُخْبِرًا بما يخوِّف، وهذا لا يُنافي أيضًا أن يَكُون بَشيرًا، وقد ذَكَرَ اللَّه الحالينِ في قوله ﷾: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا (١) قَيِّمًا لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا (٢) مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا﴾ [الكهف: ١ - ٣]، فإذَنْ الِاقتصار على البِشارة أو الإنذار في مكانٍ لا يَقتضي نفيَ الثَّاني؛ لِأَنَّ الرَّسول ﷺ موصوفٌ بهذا وهذا.
لكِن إذا وَرَدَتِ البِشارةُ مُقَيَّدةً بأمرٍ مَخُوفٍ مثل قوله ﷾: ﴿فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ [آل عمران: ٢١]، فبعضهم يقول: إن هَذَا على سبيل التهكُّم بهم؛ لأَنَّهُمْ
_________
(^١) أخرجه مسلم: كتاب الصلاة، باب الجهر بالقراءة في الصبح والقراءة على الجن، رقم (٤٥٠).
1 / 17
يُبَشَّرُونَ بالعذاب، وهو لا يبشَّر به عادةً، وبعضهم يقول: إذا قُيّد بشَيْءٍ تُقيِّد به لكِن عند الإطلاق هو في الخيرِ.
من فوائد الآية الكريمة:
الْفَائِدَة الأولى: استدلَّ أهل السُّنَّة والجَماعَة بمثل هَذِهِ الآية عَلَى أَنَّ القُرْآن كَلام اللَّه، يُستفاد من قولِه: ﴿نَزَّلَ الْفُرْقَانَ﴾.
الْفَائِدَة الثَّانية: أنَّ اللَّه في السماء، ووجهُ الدلالة أو وجه الْفَائِدَة أن النزول يَكُون من عُلُوٍّ، وإذا كان اللَّه نزَّل الفُرقان فإن هَذَا يدل على عُلُوِّ اللَّهِ ﵎.
الْفَائِدَة الثالثة: أنَّ القُرْآنَ كلَّه واضحٌ صريحٌ، ليس فيه إشكالٌ؛ لِأَنَّهُ لا يُمْكِنُ أن يَكُون فرقانًا إلا على هَذَا الوجهِ؛ لقولِهِ: ﴿نَزَّلَ الْفُرْقَانَ﴾. وقد أجبنا عمَّا أوردناه من قوله تَعَالَى: ﴿اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا﴾ [الزمر: ٢٣]، وبيَّنَّا أن المراد بالتشابُهِ ليس اشتباه المعنى، بل هو الموافَقة والمشاكَلَة في الكمال والحُسْن.
الْفَائِدَة الرابعة: إثبات الحِكمة في أفعال اللَّه؛ لِقَوْلِهِ: ﴿لِيَكُونَ﴾ لِأَنَّ (اللام) في قوله: ﴿لِيَكُونَ﴾ للتعليل، فإذا كانت للتعليل دلَّ هَذَا على أنها تُفِيدُ الحِكمة؛ إذ العِلَّة هي الباعثة على الشَيْء، أو هي غاية الشَيْء؛ لِأَنَّ العِلَّة إما غائِيَّةٌ أو باعِثة، وكل منها يدل على الحِكْمَة.
الْفَائِدَة الخامسة: عموم رسالة النَّبيِّ ﷺ؛ لِقَوْلِهِ: ﴿لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ﴾. وَأَمَّا مَن قال: إِنَّهُ رسولٌ إلى العرب فقطْ فَإِنَّهُ كافرٌ به، فالَّذِينَ قالوا: إِنَّهُ رسول إلى العرب قالوا: إن اللَّه تَعَالَى يقول: ﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ﴾ [الجمعة: ٢]، هَذَا يَقْتَضِي أَنَّهُ رسولُ للعربِ فقطْ، وَأَمَّا بنو إسرائيل فلا يُكَلَّفون باتباع الرَّسول ﷺ.
1 / 18
فما هو الجوابُ عن هَذِهِ الشُّبْهَةِ؟
الجواب: أَنَّ قَوْلَهُ: ﴿فِي الْأُمِّيِّينَ﴾ لو كان المراد منه تخصيصهم لقالَ: هو الَّذِي بَعَثَ لِلْأُمّيِّين، كما في قوله ﷿: ﴿وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا﴾ [النساء: ٧٩]، لَكِنْ قوله: ﴿فِي الْأُمِّيِّينَ﴾ معناه أن الرَّسول ﷺ مبعوث فيهم، بُعث فيهم، لا لهم، بُعث فيهم لهم ولغيرهم، وعندما أقول مثلًا: بُعث فلان في هَذَا البلد، أو مثلًا: خَلَقَ اللَّه في هَذَا البلد رجلًا كريمًا أو رجلًا عالِمًا، أو ما أشبهَ ذلك، فإن هَذَا لا يعني أَنَّهُ لهَذِهِ البلد فقطْ، بل المراد: مكانه في البلد، لكِن ما يحصُل منه عامٌّ، فالتخصيص بالمكان أو التخصيص بالزمان لا يدل على تخصيص الدعوةِ.
الفائدتان السادسة والسابعة: فضل الرَّسول ﵊ حيث كُلِّفَ الرِّسَالة إلى جميع الخَلقِ، لِأَنَّ هَذَا دليل على فَضْلِهِ وأنه أهل لَهَذِهِ المهمَّة العظيمة، فلو أرسلتَ إنْسَانًا لِيُصْلِحَ بين شخصينِ فهذا دليل على فَضْلِه، لكِن لو أرسلتَ إنْسَانًا لِيُصْلِحَ بين طائفتينِ أو أُمَّتين فهَذِهِ زيادةُ فضلٍ، ولذلك لا يُرسَل لهَذِهِ المهمة الأخيرة إلا مَن هو جَديرٌ بها، فكون الرَّسول ﵊ أُرسل لجميع الخَلْق دليل على فضله حيث حُمِّلَ الرِّسَالةَ إلى جميع الخَلق.
ثم إن فيه دليلًا على مِنَّة اللَّه عليه أيضًا؛ لِأَنَّ كلَّ مَنِ انتفع برسالته نالَه -أي النَّبي ﵊ من أَجْرِهِ: "مَنْ دَلَّ عَلَى خَيْرٍ فَلَهُ مِثْلُ أَجْرِ فَاعِلِهِ" (^١) مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أَجْرِهِ شَيْءٌ. ولهذا لو تُعَلِّم إنْسَانًا فيَعْمَل بعِلمه ويُعلِّم آخر ويعلم آخر ويعلم آخر فَإِنَّهُ يأتيك مِنَ الأجر والفضل بقَدْرِ مَنِ انتفعَ به.
_________
(^١) أخرجه مسلم: كتاب الإمارة، باب فضل إعانة الغازي في سبيل اللَّه بمركوب وغيره، وخلافته في أهله بخير، رقم (١٨٩٣).
1 / 19
الآية (٢)
* * *
* قالَ اللَّه ﷿: ﴿لَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا﴾ [الفرقان: ٢].
* * *
قَالَ المُفَسِّر ﵀: [﴿الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ﴾ من شأنِهِ أنْ يُخْلَق ﴿فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا﴾ سوَّاه تَسويةً].
قوله تَعَالَى: ﴿الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ هَذِهِ صفة لِقَوْلِهِ: ﴿الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ﴾ فذكر اللَّه ﷾ إنزال الفرقانِ، وهو تشريعٌ وتنظيمٌ، ثُمَّ أَعْقَبَهُ بقوله: ﴿الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ إشارة إلى أَنَّهُ يَجِب العمل بما جاء في هَذَا الفُرقان؛ لِأَنَّهُ جاء من مالك السَّمواتِ والأرضِ، والمالك له حق التصرُّف في مَمْلُوكِهِ، بأن يُشَرِّعَ له ما شاءَ وينظِّم له ما شاء، وهَذِهِ هي الْفَائِدَة من قولِهِ: ﴿الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ﴾ بعد قولِه: ﴿الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ﴾ فأتى بالتشريع أولًا، أو بدستورِ التشريعِ كما يقولون، ثُمَّ أَتَى بعد ذلك بعموم المُلْك؛ لِأَنَّهُ ﷿ إذا كان هو المالِكَ العامَّ للسماوات والأرض لَزِمَ أنْ يَكُونَ مما شَرَعَهُ حَتْمًا على المملوكينَ.
لَوْ قَالَ قَائِلٌ: هَذَا الملُك مُلك أَعيانٍ فقطْ أو ملك أعيانٍ وتَصَرُّف؟
فالجواب: مُلك أعيانٍ وتصرف؛ لِأَنَّ المَلِكَ قد يَكُونُ مَلِكًا للعَيْنِ دون التصرُّف فيها، وقد يَكُون مَلِكًا للتصرف دون العَين، يعني: قد يملك الإنْسَان
1 / 20
التصرُّفَ في العين دون ذاتها، أو يملك عين الشَيْء دون التصرُّف فيه، فالمالك للشَيْء الَّذِي لم يَتَعَلَّقْ به حقُّ أحدٍ هَذَا مالِكٌ للعين والتصرف فيها، والموقوف عليه مالك للعين، لكِن لا يملك التصرف المطلَق فيها؛ لا يبيع ولا يَهَب ولا تورَث عنه، فالمستأجر مالك للمنفعة، أي التصرف في المنفعة فقط، دون العين، أَمَّا اللَّه ﷿ فإن له ملك السَّموات والأرض أعيانهما والتصرف فيهما.
لَوْ قَالَ قَائِلٌ: لم يذكر ملك من فيهما؟
قُلْنَا: السَّموات والأرض يَدْخُلُ فيهما كلُّ من فيهما؛ لِأَنَّ مَنْ في السَّموات والأرض هم مِنَ السَّمواتِ والأرضِ، فأصلُهم مِنَ السَّموات والأرض، فالإنْسَان خُلِقَ من طين، والحيوانات الأخرى فيما يبدو -واللَّه أعلم- أنها خُلقت مِنَ الأرض، لَكِنَّنا لا نَعْلَم عنها شيئًا؛ لأنَّ المهمَّ أن نَعرِفَ أصلنا، أمَّا هَذِهِ فخَلَقَها اللَّه لنا، قال تَعَالَى: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا﴾ [البقرة: ٢٩].
قوله: ﴿وَلَدًا﴾ بمعنى: مَوْلُودًا، وقوله: ﴿وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا﴾ أعمُّ من قوله: ﴿لَمْ يَلِدْ﴾، لَكِنْ مع ذلك نفى اللَّه عن نفسه اتِّخاذ الولد والولادة، فَهُوَ ﷿ لم يَلِدْ ولم يَتَّخِذْ ولدًا من عباده، وفي هَذَا إبطال لقول النَّصارى الَّذِينَ قالوا: إنَّ المسيح ابنُ اللَّه، ولقول اليهودِ الَّذِينَ قالوا: عُزَيْرٌ ابنُ اللَّهِ، وللمشركين الَّذِينَ قالوا: الملائكة بنات اللَّه، فاللَّه ﷾ ما وَلَدَ شيئًا، ولم يَتَّخِذْ أحدًا من خلقه ولدًا.
وقد ذكرنا فيما سبق أن اللَّه تَعَالَى إذا نَفَى عن نفسِهِ صفة فليس المراد بذلك نفي الصِّفة فقط، بل نفي الصِّفة وإثبات كمال ضِدِّها، والضدُّ هنا كمال قُدْرَته وغِناه، وأنه غير محتاجٍ إلى الولدِ؛ لكمالِ غِنَاهُ عن غيرِهِ، فلا يحتاج للولد ولا اتِّخاذ الولد إلَّا مَن كان محتاجًا له، أَمَّا من كان غنيًّا عنه قادرًا على ما يريد فهذا لا يَتَّخِذُ ولدًا.
1 / 21
قوله: ﴿وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ﴾ اللَّه ﷾ ليس له شَريكٌ في المُلْك، فما شَارَكَه أحدٌ؛ لا أحدٌ مِنَ الملائكة ولا أحد مِنَ الأنبياء، ولا أحد مِمَّن دونهم، المُلْكُ للَّه وحدَهُ، لا شَريكَ له فيه، وفي هَذَا إبطالٌ للذين أشركوا باللَّه في الربوبيَّة، مثل الَّذِينَ يقولون: إن بعض الأولياء يَتَصَرَّفُونَ بالكون، هَؤُلَاءِ لا شكَّ أنَّهم خاطئون، وأنَّهم كاذِبون أيضًا، فهم خاطئون في عقيدتهم، كاذبون فيما أَخبَروا به، فاللَّه ﷿ ليس له شريكٌ في المُلْكِ.
فَإِذَا قَالَ قَائِلٌ: أَلَسْنَا نملِك بيوتَنا وثِيَابَنا ومواشيَنا، فهل هَذَا يَقْتَضِي أنْ يَكُونَ للَّه شريكٌ؟
فالجواب: لا؛ لِأَنَّ مِلْكَنَا لهَذِهِ الأشياءِ ليس مِلكًا مُطْلَقًا، صحيح أنا مالك لبيتي، ومالك لثوبي، ومالك لسيارتي، ومالك لماشيتي، لكِن مِلكي لهَذِهِ الأشياءِ ليس مِلكًا مطلقًا، بدليل أنني مقيَّد بالشرعِ في التصرُّف في هَذِهِ الأشياءِ، فأنا لا أملِك مثلًا أنْ أقومَ عليها فأُحْرِقها، وحرام عليَّ ذلك، كذلك لا أملِك مثلًا أن أَشُقَّ على الحيوانِ في الحمل والركوب وغير ذلك، إذَن فكوني مالكًا لا يَقتضِي أن أكونَ شريكا للَّه ﷾ في ملكه؛ لِأَنَّ مِلكي هَذَا مقيَّد بحسَب إذنِ الشارع لي، فلا أتصرف فيه إلَّا بما أَذِنَ اللَّه ﷾.
قوله: ﴿وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ﴾ يقول المُفَسِّر: [مِن شأنِهِ أنْ يُخْلَقَ]، و﴿كُلَّ﴾ للعموم.
لكِن المُفَسِّر قيَّدها بقوله: [من شأنه أن يُخْلَق]؛ لكي لا يدخل القُرْآنُ أو نفسُه.
فَلَوْ قَالَ الإِنْسَانُ: هل خَلَقَ اللَّه نفسَه.
1 / 22
قُلْنَا: مستحيلٌ أن يَخْلُقَ نفسَه، لَكِنَّهُ مع ذلك نقول: ﴿وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ﴾ مَن شأنُه أن يُخْلَقَ، أَمَّا ما ليس من شأنِه أنْ يُخْلَقَ كذات اللَّه وصفات اللَّه فهذا ليس داخلًا مِنَ الأَصْل؛ لِأَنَّ اللَّه تَعَالَى خالِقٌ، والخالقُ غير المخلوق، وصفات الخالق ليستْ مخلوقةً؛ لِأَنَّ الصِّفة تابعة للذَّات. ولهذا كأن المُفَسِّر ﵀ حينما يقول: [من شأنه أن يُخْلَق]، يُنَبِّهك لِتَرُدَّ بِهَذِهِ الكلمة على من قالوا: إنَّ القُرْآن مخلوق، فتقول: القُرْآن ليس من شأنه أن يُخلَق؛ لأَنَّه من صفات اللَّه ﷾، وصفات اللَّه تَعَالَى غير مخَلوقةٍ.
ولَكِنْ يَنبغي أن لا نقيِّد الآية بهذا، نقول: هو خلق كل شَيْءٍ، والخالق لا يمكن أن يَكُونَ هو المخلوقَ، فإذا كان لا يمكن دَلَّ ذلك عَلَى أَنَّ اللَّه تَعَالَى غيرُ مخلوقٍ، وعَلَى أَنَّ صفاتِه أيضًا غير مخلوقةٍ؛ لِأَنَّ الصِّفة تابعة للموصوف، وحينئذٍ لا نَحتاج أن نقولَ: من شأنِه أن يُخْلَقَ؛ لأننا إذا قُلْنا: من شأنه أن يخلق قيَّدنا الآيةَ الكريمةَ، ويمكن أن يَحتجَّ علينا الَّذِي يقول بخلق القُرْآنِ فيقول: مَن قَالَ لك: إنَّ الآية مقيَّدة بهذا، فنحن نقول: خلق كلَّ شَيْءٍ على سبيل الإطلاق، وعلى سبيل العموم، وهذا لا يَقتضي أن يَكُون القُرْآن مخلوقًا؛ لِأَنَّ الخالق غير المخلوق، والقُرْآن من صفات اللَّه، وصفات الخالق قطعًا غير مخلوقةٍ؛ لِأَنَّ الصِّفاتِ تابعةٌ للذاتِ.
إذَنْ فلو احتجَّ علينا المُعْتَزِلة والجَهْمِيَّة الَّذِينَ يقولون: إن القُرْآن مخلوقٌ فبماذا نُجيبهم؟
نجيبهم بأحد وجهين:
الوجه الأول: ما أشار إليه المُفَسِّر؛ وهو أن يقال: إن هَذَا من باب العامِّ المراد به الخاصُّ، يعني: كلّ شَيْء من شأنه أن يخلق، هَذَا وجهٌ، وبهذا أجاب كثير مِنَ
1 / 23
السلف، وقالوا: إذا قَالَ قائل: إنَّ القُرْآن مخلوق واستدلَّ بقوله ﷾: ﴿وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ﴾ فقل له: إن اللَّه قَالَ عن رِيح عادٍ: ﴿تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا﴾ ومع ذلك هي ما دمرتِ السَّمَاء ولا الأرضَ ولا المساكِنَ ﴿فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ﴾ [الأحقاف: ٢٥].
والبعض الآخر مِنَ العلماءِ يقول: الآية على عُمومها، والقُرْآن غير داخلٍ إطلاقًا حتَّى نحتاج إلى إخراجه؛ لأَنَّه إذا كان خالِقًا فالخالق غير المخلوق، والقُرْآن كَلام اللَّه، وكَلام اللَّه من صِفاتِه، وصفات الخالِقِ غير مخلوقةٍ؛ لِأَنَّ الصِّفة تابعة للموصوفِ.
قوله: ﴿فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا﴾ الفاء تَدُلُّ على الترتيب، و(قدَّرَه) بمعنى سَوَّاه؛ لِأَنَّ الخَلْق قد يوجد لكِن بدون تسويةٍ، فاللَّه تَعَالَى خَلَقَ كل شَيْء ﴿فَقَدَّرَهُ﴾ أي: سوَّاه، والدليل على أنَّ التقدير هنا بمعنى التسوِيَة قولُه تَعَالَى: ﴿الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى﴾ [الأعلى: ٢]، وعلى هَذَا فالترتيب في قوله: ﴿وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ﴾ حسَب الواقع، فالترتيب واقعي؛ لِأَنَّ التسوية تكون بعد الخَلْق، فأنت عندما تُوجِدُ بناءً فإنك أولًا تُوجِدُ الهيكل، ثُمَّ تُدخِل التعديلات والتسويَة، هكذا اللَّه ﷿ خلق كلَّ شَيْءٍ فقدَّره؛ أي: سوَّاه تسويةً مناسبةً لِمَا خُلِقَ له.
وقال بعضُهم إن معنى ﴿قَدَّرَهُ﴾ أي: قضاه، فتدلّ الآية على القضاء والخَلْق. وعلى هَذَا القول الَّذِي يَجعل التقديرَ بمعنى القضاءِ يَكُون في الآية ترتيبٌ غير واقعيٍّ، والسَّبب أنَّ التقدير بمعنى القضاء سابِقٌ للخلق؛ لِأَنَّ اللَّه يَقضي أولًا ثُمَّ يخلُق ثانيًا، ولَكِن الأَصْل أن يَكُون الترتيب واقعيًّا وأن الخَلْق قبل التقدير. ويدُلُّ على ذلك أيضًا الآية الكريمة: ﴿الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى﴾ [الأعلى: ٢]، فالقُرْآن يفسِّر بعضُه بعضًا.
1 / 24
فعلى ذلك نجعل التقدير هنا بمعنى التسوية. وكونه يأتي ترتيبه على خلاف الواقع هَذَا وإن جاء في اللغة العربية لَكِنَّهُ خلاف المعهود، وإلَّا فقد قيلَ:
إِنَّ مَنْ سَادَ ثُمَّ سَادَ أَبُوهُ ... ثُمَّ قَدْ سَادَ قَبْلَ ذَلِكَ جَدُّهُ (^١)
فالسيادة للجَدِّ هي الأُولى، وهي في الترتيب هنا هي الأخيرة. فالأقرب والأَولى ما مشَى عليه المُفَسِّر مِن أنَّ التقدير هنا بمعنى التسويةِ؛ لِأَنَّ كَلام اللَّه تَعَالَى يفسِّر بعضه بعضًا.
* * *
_________
(^١) انظر ضياء السالك (٣/ ١٧٢ - ١٧٣)، والأشموني (٢/ ٤١٨).
1 / 25