Tafsir al-Tabari Jami' al-Bayan - Tahqiq Hajar
تفسير الطبري جامع البيان - ط هجر
Investigador
د عبد الله بن عبد المحسن التركي
Editorial
دار هجر للطباعة والنشر والتوزيع والإعلان
Número de edición
الأولى
Año de publicación
١٤٢٢ هـ - ٢٠٠١ م
Géneros
خُطْبَةُ الْكِتَابِ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
وَبِهِ ثِقَتِي وَعَلَيْهِ اعْتِمَادِي
رَبِّ يَسِّرْ
قُرِئَ عَلَى أَبِي جَعْفَرٍ مُحَمَّدِ بْنِ جَرِيرٍ الطَّبَرِيِّ فِي سَنَةِ سِتٍّ وَثَلَاثِمِائَةٍ قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي حَجَبَتِ الْأَلْبَابَ بَدَائِعُ حِكَمِهِ، وَخَصَمَتِ الْعُقُولَ لَطَائِفُ حُجَجِهِ، وَقَطَعَتْ عُذْرَ الْمُلْحِدِينَ عَجَائِبُ صُنْعِهِ، وَهَتَفَ فِي أَسْمَاعِ الْعَالَمِينَ أَلْسُنُ أَدِلَّتِهِ، شَاهِدَةً أَنَّهُ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، الَّذِي لَا عِدْلَ لَهُ مُعَادِلٌ، وَلَا مِثْلَ لَهُ مُمَاثِلٌ، وَلَا شَرِيكَ لَهُ مُظَاهِرٌ، وَلَا وَلَدَ لَهُ وَلَا وَالِدَ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَلَا كُفُوًا أَحَدٌ، وَأَنَّهُ الْجَبَّارُ الَّذِي خَضَعَتْ لِجَبَرُوتِهِ الْجَبَابِرَةُ، وَالْعَزِيزُ الَّذِي ذَلَّتْ لِعِزَّتِهِ الْمُلُوكُ الْأَعِزَّةُ، وَخَشَعَتْ لِمَهَابَةِ سَطْوَتِهِ ذَوُو الْمَهَابَةِ، وَأَذْعَنَ لَهُ جَمِيعُ الْخَلْقِ بِالطَّاعَةِ طَوْعًا وَكَرْهًا، كَمَا قَالَ اللَّهُ ﷿: ﴿وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلَالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ﴾؛
1 / 3
فَكُلُّ مَوْجُودٍ إِلَى وَحْدَانِيَّتِهِ دَاعٍ، وَكُلُّ مَحْسُوسٍ إِلَى رُبُوبِيَّتِهِ هَادٍ، بِمَا وَسَمَهُمْ بِهِ مِنْ آثَارِ الصَّنْعَةِ، مِنْ نَقْصٍ وَزِيَادَةٍ، وَعَجْزٍ وَحَاجَةٍ، وَتَصَرُّفٍ فِي عَاهَاتٍ عَارِضَةٍ، وَمُقَارَنَةِ أَحْدَاثٍ لَازِمَةٍ، لِتَكُونَ لَهُ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ. ثُمَّ أَرْدَفَ مَا شَهِدَتْ بِهِ مِنْ ذَلِكَ أَدِلَّتُهُ، وَأَكَّدَ مَا اسْتَنَارَتْ فِي الْقُلُوبِ مِنْهُ بَهْجَتُهُ، بِرُسُلٍ ابْتَعَثَهُمْ إِلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ، دُعَاةً إِلَى مَا اتَّضَحَتْ لَدَيْهِمْ صِحَّتُهُ، وَثَبَتَتْ فِي الْعُقُولِ حُجَّتُهُ؛ ﴿لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ﴾ [النساء: ١٦٥]، وَلِيَذَّكَرَ أُولُو النُّهَى وَالْحُلُمِ؛ فَأَمَدَّهُمْ بِعَوْنِهِ، وَأَبَانَهُمْ مِنْ سَائِرِ خَلْقِهِ، بِمَا دَلَّ بِهِ عَلَى صِدْقِهِمْ مِنَ الْأَدِلَّةِ، وَأَيَّدَهُمْ بِهِ مِنَ الْحُجَجِ الْبَالِغَةِ، وَالْآيِ الْمُعْجِزَةِ؛ لِئَلَّا يَقُولَ الْقَائِلُ فِيهِمْ: ﴿مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ، وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَرًا مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ﴾ [المؤمنون: ٣٤] . فَجَعَلَهُمْ سُفَرَاءَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ خَلْقِهِ، وَأُمَنَاءَهُ عَلَى وَحْيِهِ، وَاخْتَصَّهُمْ بِفَضْلِهِ، وَاصْطَفَاهُمْ بِرِسَالَتِهِ، ثُمَّ جَعَلَهُمْ فِيمَا خَصَّهُمْ بِهِ مِنْ مَوَاهِبِهِ، وَمَنَّ بِهِ عَلَيْهِمْ مِنْ كَرَامَاتِهِ، مَرَاتِبَ مُخْتَلِفَةً، وَمَنَازِلَ مُتَفَرِّقَةً، وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ، مُتَفَاضِلَاتٍ مُتَبَايِنَاتٍ، فَكَرَّمَ بَعْضَهُمْ بِالتَّكْلِيمِ وَالنَّجْوَى، وَأَيَّدَ بَعْضَهُمْ بِرُوحِ الْقُدُسِ، وَخَصَّهُ بِإِحْيَاءِ الْمَوْتَى، وَإِبْرَاءِ أُولِي الْعَاهَةِ وَالْعَمَى. وَفَضَّلَ نَبِيَّنَا مُحَمَّدًا ﷺ مِنَ الدَّرَجَاتِ بِالْعُلْيَا، وَمِنَ الْمَرَاتِبِ بِالْعُظْمَى، فَحَبَاهُ مِنْ أَقْسَامِ كَرَامَتِهِ بِالْقِسْمِ الْأَفْضَلِ، وَخَصَّهُ مِنْ دَرَجَاتِ النُّبُوَّةِ بِالْحَظِّ الْأَجْزَلِ، وَمِنَ الْأَتْبَاعِ وَالْأَصْحَابِ بِالنَّصِيبِ الْأَوْفَرِ. وَابْتَعَثَهُ بِالدَّعْوَةِ التَّامَّةِ، وَالرِّسَالَةِ الْعَامَّةِ، وَحَاطَهُ
1 / 4
وَحِيدًا، وَعَصَمَهُ فَرِيدًا، مِنْ كُلِّ جَبَّارٍ عَانِدٍ، وَكُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ، حَتَّى أَظْهَرَ بِهِ الدِّينَ، وَأَوْضَحَ بِهِ السَّبِيلَ، وَأَنْهَجَ بِهِ مَعَالِمَ الْحَقِّ، وَمَحَقَ بِهِ مَنَارَ الشِّرْكِ، وَزَهَقَ بِهِ الْبَاطِلُ، وَاضْمَحَلَّ بِهِ الضَّلَالُ وَخُدَعُ الشَّيْطَانِ، وَعِبَادَةُ الْأَصْنَامِ وَالْأَوْثَانِ، مُؤَيَّدًا بِدَلَالَةٍ عَلَى الْأَيَّامِ بَاقِيَةٍ، وَعَلَى الدُّهُورِ وَالْأَزْمَانِ ثَابِتَةٍ، وَعَلَى مَمَرِّ الشُّهُورِ وَالسِّنِينَ دَائِمَةٍ، يَزْدَادُ ضِيَاؤُهَا عَلَى كَرِّ الدُّهُورِ إِشْرَاقًا، وَعَلَى مَرِّ اللَّيَالِي وَالْأَيَّامِ ائْتِلَاقًا، تَخْصِيصًا مِنَ اللَّهِ لَهُ بِهَا، دُونَ سَائِرِ رُسُلِهِ، الَّذِينَ قَهَرَتْهُمُ الْجَبَابِرَةُ، وَاسْتَذَلَّتْهُمُ الْأُمَمُ الْفَاجِرَةُ، فَعَفَتْ بَعْدَهُمْ مِنْهُمُ الْآثَارُ، وَأَخْمَلَتْ ذِكْرَهُمُ اللَّيَالِي وَالْأَيَّامُ، وَدُونَ مَنْ كَانَ مِنْهُمْ مُرْسَلًا إِلَى أُمَّةٍ دُونَ أُمَّةً، وَخَاصَّةٍ دُونَ عَامَّةٍ، وَجَمَاعَةٍ دُونَ كَافَّةٍ. فَالْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي كَرَّمْنَا بِتَصْدِيقِهِ، وَشَرَّفَنَا بِاتِّبَاعِهِ، وَجَعَلَنَا مِنْ أَهْلِ الْإِقْرَارِ وَالْإِيمَانِ بِهِ، وَبِمَا دَعَا إِلَيْهِ وَجَاءَ بِهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ أَزْكَى صَلَوَاتِهِ، وَأَفْضَلَ سَلَامِهِ، وَأَتَمَّ تَحِيَّاتِهِ. أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ مِنْ جَسِيمِ مَا خَصَّ اللَّهُ بِهِ أُمَّةَ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ ﷺ مِنَ الْفَضِيلَةِ، وَشَرَّفَهُمْ بِهِ عَلَى سَائِرِ الْأُمَمِ مِنَ الْمَنَازِلِ الرَّفِيعَةِ، وَحَبَاهُمْ بِهِ مِنَ الْكَرَامَةِ السَّنِيَّةِ، حِفْظَهُ مَا حَفِظَ جَلَّ ذِكْرُهُ وَتَقَدَّسَتْ أَسْمَاؤُهُ عَلَيْهِمْ مِنْ وَحْيِهِ وَتَنْزِيلِهِ، الَّذِي جَعَلَهُ عَلَى
1 / 5
حَقِيقَةِ نُبُوَّةِ نَبِيِّهِمْ ﷺ دَلَالَةً، وَعَلَى مَا خَصَّهُ بِهِ مِنَ الْكَرَامَةِ عَلَامَةً وَاضِحَةً، وَحُجَّةً بَالِغَةً، أَبَانَهُ بِهِ مِنْ كُلِّ كَاذِبٍ وَمُفْتَرٍ، وَفَصَلَ بِهِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ كُلِّ جَاحِدٍ وَمُلْحِدٍ، وَفَرَّقَ بِهِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ كُلِّ كَافِرٍ وَمُشْرِكٍ، الَّذِي لَوِ اجْتَمَعَ جَمِيعُ مَنْ بَيْنَ أَقْطَارِهَا، مِنْ جِنِّهَا وَإِنْسِهَا، وَصَغِيرِهَا وَكَبِيرِهَا، عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ، لَمْ يَأْتُوا بِمِثْلِهِ، وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا. فَجَعَلَهُ لَهُمْ فِي دُجَى الظُّلَمِ نُورًا سَاطِعًا، وَفِي سَدَفِ الشُّبَهِ شِهَابًا لَامِعًا، وَفِي مَضَلَّةِ الْمَسَالِكِ دَلِيلًا هَادِيًا، وَإِلَى سُبُلِ النَّجَاةِ وَالْحَقِّ حَادِيًا، ﴿يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ [المائدة: ١٦] . حَرَسَهُ بِعَيْنٍ مِنْهُ لَا تَنَامُ، وَحَاطَهُ بِرُكْنٍ مِنْهُ لَا يُضَامُ، لَا تَهِي عَلَى الْأَيَّامِ دَعَائِمُهُ، وَلَا تَبِيدُ عَلَى طُولِ الْأَزْمَانِ مَعَالِمُهُ، وَلَا يَجُورُ عَنْ قَصْدِ الْمَحَجَّةِ تَابِعُهُ، وَلَا يَضِلُّ عَنْ سُبُلِ الْهُدَى مُصَاحِبُهُ. مَنِ اتَّبَعَهُ فَازَ وَهَدَى، وَمَنْ حَادَ عَنْهُ ضَلَّ وَغَوَى. فَهُوَ مَوْئِلُهُمُ الَّذِي إِلَيْهِ عِنْدَ الِاخْتِلَافِ يَئِلُونَ، وَمَعْقِلُهُمُ الَّذِي إِلَيْهِ فِي النَّوَازِلِ يَعْتَقِلُونَ، وَحِصْنُهُمُ الَّذِي بِهِ مِنْ وَسَاوِسِ الشَّيْطَانِ يَتَحَصَّنُونَ، وَحِكْمَةُ رَبِّهِمْ الَّتِي إِلَيْهَا يَحْتَكِمُونَ، وَفَصْلُ قَضَائِهِ بَيْنَهُمُ الَّذِي إِلَيْهِ يَنْتَهُونَ، وَعَنِ الرِّضَا بِهِ يَصْدُرُونَ، وَحَبْلُهُ الَّذِي بِالتَّمَسُّكِ بِهِ مِنَ الْهَلَكَةِ يَعْتَصِمُونَ. اللَّهُمَّ فَوَفِّقْنَا لِإِصَابَةِ صَوَابِ الْقَوْلِ فِي مُحْكَمِهِ وَمُتَشَابِهِهِ، وَحَلَالِهِ وَحَرَامِهِ،
1 / 6
وَعَامِّهِ وَخَاصِّهِ، وَمُجْمَلِهِ وَمُفَسَّرِهِ، وَنَاسِخِهِ وَمَنْسُوخِهِ، وَظَاهِرِهِ وَبَاطِنِهِ، وَتَأْوِيلِ آيِهِ، وَتَفْسِيرِ مُشْكِلِهِ، وَأَلْهِمْنَا التَّمَسُّكَ بِهِ، وَالِاعْتِصَامَ بِمُحْكَمِهِ، وَالثَّبَاتَ عَلَى التَّسْلِيمِ لِمُتَشَابِهِهِ، وَأَوْزِعْنَا الشُّكْرَ عَلَى مَا أَنْعَمْتَ بِهِ عَلَيْنَا مِنْ حِفْظِهِ، وَالْعِلْمِ بِحُدُودِهِ، إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ، قَرِيبُ الْإِجَابَةِ. وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا. اعْلَمُوا عِبَادَ اللَّهِ، رَحِمَكُمُ اللَّهُ، أَنَّ أَحَقَّ مَا صُرِفَتْ إِلَى عِلْمِهِ الْعِنَايَةُ، وَبَلَغَتْ فِي مَعْرِفَتِهِ الْغَايَةُ، مَا كَانَ لِلَّهِ فِي الْعِلْمِ بِهِ رِضًا، وَلِلْعَالِمِ بِهِ إِلَى سَبِيلِ الرَّشَادِ هُدًى، وَأَنَّ أَجْمَعَ ذَلِكَ لِبَاغِيهِ، كِتَابُ اللَّهِ الَّذِي لَا رَيْبَ فِيهِ، وَتَنْزِيلُهُ الَّذِي لَا مِرْيَةَ فِيهِ، الْفَائِزُ بِجَزِيلِ الذُّخْرِ وَسَنَى الْأَجْرِ تَالِيهِ، الَّذِي لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ، تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ. وَنَحْنُ فِي شَرْحِ تَأْوِيلِهِ، وَبَيَانِ مَا فِيهِ مِنْ مَعَانِيهِ ـ: مُنْشِئُونَ - إِنْ شَاءَ اللَّهُ ذَلِكَ - كِتَابًا مُسْتَوْعِبًا لِكُلِّ مَا بِالنَّاسِ إِلَيْهِ الْحَاجَةُ مِنْ عِلْمِهِ جَامِعًا، وَمِنْ سَائِرِ الْكُتُبِ غَيْرِهِ فِي ذَلِكَ كَافِيًا، وَمُخْبِرُونَ فِي كُلِّ ذَلِكَ بِمَا انْتَهَى إِلَيْنَا مِنَ اتِّفَاقِ الْحُجَّةِ فِيمَا اتَّفَقَتْ عَلَيْهِ الْأُمَّةُ، وَاخْتِلَافِهَا فِيمَا اخْتَلَفَتْ فِيهِ مِنْهُ، وَمُبَيِّنُو عِلَلِ كُلِّ مَذْهَبٍ مِنْ مَذَاهِبِهِمْ، وَمُوَضِّحُو الصَّحِيحِ لَدَيْنَا مِنْ ذَلِكَ، بِأَوْجَزِ مَا أَمْكَنَ مِنَ الْإِيجَازِ فِي ذَلِكَ، وَأَخْصَرِ مَا أَمْكَنَ مِنَ الِاخْتِصَارِ فِيهِ. وَاللَّهَ نَسْأَلُ عَوْنَهُ وَتَوْفِيقَهُ لِمَا يُقَرِّبُ مِنْ مَحَابِّهِ، وَيُبْعِدُ مِنْ مَسَاخِطِهِ. وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى صَفْوَتِهِ مِنْ خَلْقِهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا.
1 / 7
وَإِنَّ أَوَّلَ مَا نَبْدَأُ بِهِ مِنَ الْقِيلِ فِي ذَلِكَ، الْإِبَانَةُ عَنِ الْأَسْبَابِ الَّتِي الْبِدَايَةُ بِهَا أَوْلَى، وَتَقْدِيمُهَا قَبْلَ مَا عَدَاهَا أَحْرَى، وَذَلِكَ الْبَيَانُ عَمَّا فِي آيِ الْقُرْآنِ مِنَ الْمَعَانِي، الَّتِي مِنْ قِبَلِهَا يَدْخُلُ اللَّبْسُ عَلَى مَنْ لَمْ يُعَانِ رِيَاضَةَ الْعُلُومِ الْعَرَبِيَّةِ، وَلَمْ تَسْتَحْكِمْ مَعْرِفَتُهُ بِتَصَارِيفِ وُجُوهِ مَنْطِقِ الْأَلْسُنِ السَّلِيقِيَّةِ الطَّبِيعِيَّةِ.
الْقَوْلُ فِي الْبَيَانِ عَنِ اتِّفَاقِ مَعَانِي آيِ الْقُرْآنِ وَمَعَانِي مَنْطِقِ مَنْ نَزَلَ بِلِسَانِهِ مِنْ وَجْهِ الْبَيَانِ وَالدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ مِنَ اللَّهِ جَلَّ وَعَزَّ هُوَ الْحِكْمَةُ الْبَالِغَةُ، مَعَ الْإِبَانَةِ عَنْ فَضْلِ الْمَعْنَى الَّذِي بِهِ بَايَنَ الْقُرْآنُ سَائِرَ الْكَلَامِ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ ﵀: إِنَّ مِنْ عَظِيمِ نِعَمِ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ، وَجَسِيمِ مِنَنِهِ عَلَى خَلْقِهِ، مَا مَنَحَهُمْ مِنْ فَضْلِ الْبَيَانِ، الَّذِي بِهِ عَنْ ضَمَائِرِ صُدُورِهِمْ يُبِينُونَ، وَبِهِ عَلَى عَزَائِمِ نُفُوسِهِمْ يَدُلُّونَ، فَذَلَّلَ بِهِ مِنْهُمُ الْأَلْسُنَ، وَسَهَّلَ بِهِ عَلَيْهِمُ الْمُسْتَصْعَبَ، فَبِهِ إِيَّاهُ يُوَحِّدُونَ، وَإِيَّاهُ بِهِ يُسَبِّحُونَ وَيُقَدِّسُونَ، وَإِلَى حَاجَاتِهِمْ بِهِ يَتَوَصَّلُونَ، وَبِهِ بَيْنَهُمْ يَتَحَاوَرُونَ، فَيَتَعَارَفُونَ وَيَتَعَامَلُونَ. ثُمَّ جَعَلَهُمْ جَلَّ ذِكْرُهُ فِيمَا مَنَحَهُمْ مِنْ ذَلِكَ طَبَقَاتٍ، وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ، فَبَيْنَ خَطِيبٍ مُسْهِبٍ، وَذَلْقِ اللِّسَانِ مُهَذَّبٍ، وَمُفْحَمٍ عَنْ نَفْسِهِ لَا يُبِينُ، وَعَيٍّ عَنْ ضَمِيرِ قَلْبِهِ لَا يُعَبِّرُ، وَجَعَلَ أَعْلَاهُمْ فِيهِ رُتْبَةً، وَأَرْفَعَهُمْ فِيهِ دَرَجَةً، أَبْلَغَهُمْ فِيمَا أَرَادَ بِهِ بَلَاغًا، وَأَبْيَنَهُمْ عَنْ نَفْسِهِ بِهِ بَيَانًا. ثُمَّ عَرَّفَهُمْ فِي تَنْزِيلِهِ، وَمُحْكَمِ
الْقَوْلُ فِي الْبَيَانِ عَنِ اتِّفَاقِ مَعَانِي آيِ الْقُرْآنِ وَمَعَانِي مَنْطِقِ مَنْ نَزَلَ بِلِسَانِهِ مِنْ وَجْهِ الْبَيَانِ وَالدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ مِنَ اللَّهِ جَلَّ وَعَزَّ هُوَ الْحِكْمَةُ الْبَالِغَةُ، مَعَ الْإِبَانَةِ عَنْ فَضْلِ الْمَعْنَى الَّذِي بِهِ بَايَنَ الْقُرْآنُ سَائِرَ الْكَلَامِ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ ﵀: إِنَّ مِنْ عَظِيمِ نِعَمِ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ، وَجَسِيمِ مِنَنِهِ عَلَى خَلْقِهِ، مَا مَنَحَهُمْ مِنْ فَضْلِ الْبَيَانِ، الَّذِي بِهِ عَنْ ضَمَائِرِ صُدُورِهِمْ يُبِينُونَ، وَبِهِ عَلَى عَزَائِمِ نُفُوسِهِمْ يَدُلُّونَ، فَذَلَّلَ بِهِ مِنْهُمُ الْأَلْسُنَ، وَسَهَّلَ بِهِ عَلَيْهِمُ الْمُسْتَصْعَبَ، فَبِهِ إِيَّاهُ يُوَحِّدُونَ، وَإِيَّاهُ بِهِ يُسَبِّحُونَ وَيُقَدِّسُونَ، وَإِلَى حَاجَاتِهِمْ بِهِ يَتَوَصَّلُونَ، وَبِهِ بَيْنَهُمْ يَتَحَاوَرُونَ، فَيَتَعَارَفُونَ وَيَتَعَامَلُونَ. ثُمَّ جَعَلَهُمْ جَلَّ ذِكْرُهُ فِيمَا مَنَحَهُمْ مِنْ ذَلِكَ طَبَقَاتٍ، وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ، فَبَيْنَ خَطِيبٍ مُسْهِبٍ، وَذَلْقِ اللِّسَانِ مُهَذَّبٍ، وَمُفْحَمٍ عَنْ نَفْسِهِ لَا يُبِينُ، وَعَيٍّ عَنْ ضَمِيرِ قَلْبِهِ لَا يُعَبِّرُ، وَجَعَلَ أَعْلَاهُمْ فِيهِ رُتْبَةً، وَأَرْفَعَهُمْ فِيهِ دَرَجَةً، أَبْلَغَهُمْ فِيمَا أَرَادَ بِهِ بَلَاغًا، وَأَبْيَنَهُمْ عَنْ نَفْسِهِ بِهِ بَيَانًا. ثُمَّ عَرَّفَهُمْ فِي تَنْزِيلِهِ، وَمُحْكَمِ
1 / 8
آيِ كِتَابِهِ، فَضْلَ مَا حَبَاهُمْ بِهِ مِنَ الْبَيَانِ، عَلَى مَنْ فَضَّلَهُمْ بِهِ عَلَيْهِ مِنْ ذِي الْبَكَمِ وَالْمُسْتَعْجِمِ اللِّسَانِ؛ فَقَالَ تَعَالَى ذِكْرُهُ: ﴿أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ﴾ [الزخرف: ١٨] . فَقَدْ وَضَحَ إِذَنْ لِذَوِي الْأَفْهَامِ، وَتَبَيَّنَ لِأُولِي الْأَلْبَابِ، أَنَّ فَضْلَ أَهْلِ الْبَيَانِ عَلَى أَهْلِ الْبَكَمِ وَالْمُسْتَعْجِمِ اللِّسَانِ، بِفَضْلِ اقْتِدَارِ هَذَا مِنْ نَفْسِهِ عَلَى إِبَانَةِ مَا أَرَادَ إِبَانَتَهُ عَنْ نَفْسِهِ بِبَيَانِهِ، وَاسْتِعْجَامِ لِسَانِ هَذَا عَمَّا حَاوَلَ إِبَانَتَهُ بِلِسَانِهِ. فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، وَكَانَ الْمَعْنَى الَّذِي بِهِ بَايَنَ الْفَاضِلُ الْمَفْضُولَ فِي ذَلِكَ فَصَارَ بِهِ فَاضِلًا، وَالْآخَرُ مَفْضُولًا، هُوَ مَا وَصَفْنَا مِنْ فَضْلِ إِبَانَةِ ذِي الْبَيَانِ، عَمَّا قَصَّرَ عَنْهُ الْمُسْتَعْجِمُ اللِّسَانِ، وَكَانَ ذَلِكَ مُخْتَلِفَ الْأَقْدَارِ، مُتَفَاوِتَ الْغَايَاتِ وَالنِّهَايَاتِ، فَلَا شَكَّ أَنَّ أَعْلَى مَنَازِلِ الْبَيَانِ دَرَجَةً، وَأَسْنَى مَرَاتِبِهِ مَرْتَبَةً، أَبْلَغُهُ فِي حَاجَةِ الْمُبِينِ عَنْ نَفْسِهِ، وَأَبْيَنُهُ عَنْ مُرَادِ قَائِلِهِ، وَأَقْرَبُهُ مِنْ فَهْمِ سَامِعِهِ. فَإِنْ تَجَاوَزَ ذَلِكَ الْمِقْدَارَ، وَارْتَفَعَ عَنْ وُسْعِ الْأَنَامِ، وَعَجَزَ عَنْ أَنْ يَأْتِيَ بِمِثْلِهِ جَمِيعُ الْعِبَادِ؛ كَانَ حُجَّةً وَعَلَمًا لِرُسُلِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ، كَمَا كَانَ حُجَّةً وَعَلَمًا لَهَا إِحْيَاءُ الْمَوْتَى وَإِبْرَاءُ الْأَبْرَصِ وَذَوِي الْعَمَى، بِارْتِفَاعِ ذَلِكَ عَنْ مَقَادِيرِ أَعْلَى مَنَازِلِ طِبِّ الْمُتَطَبِّبِينَ، وَأَرْفَعِ مَرَاتِبِ عِلَاجِ الْمُعَالِجِينَ، إِلَى مَا يَعْجِزُ عَنْهُ جَمِيعُ الْعَالَمِينَ. وَكَالَّذِي كَانَ لَهَا حُجَّةً وَعَلَمًا قَطْعُ مَسَافَةِ شَهْرَيْنِ فِي اللَّيْلَةِ الْوَاحِدَةِ، بِارْتِفَاعِ ذَلِكَ عَنْ وُسْعِ الْأَنَامِ، وَتَعَذَّرَ مِثْلُهُ عَلَى جَمِيعِ الْعِبَادِ، وَإِنْ كَانُوا عَلَى قَطْعِ الْقَلِيلِ مِنَ الْمَسَافَةِ قَادِرِينَ، وَلِلْيَسِيرِ مِنْهُ فَاعِلِينَ.
1 / 9
فَإِذَا كَانَ مَا وَصَفْنَا مِنْ ذَلِكَ كَالَّذِي وَصَفْنَا، فَبَيِّنٌ أَنْ لَا بَيَانَ أَبْيَنُ، وَلَا حِكْمَةَ أَبْلَغُ، وَلَا مَنْطِقَ أَعْلَى، وَلَا كَلَامَ أَشْرَفُ، مِنْ بَيَانٍ وَمَنْطِقٍ تَحَدَّى بِهِ امْرُؤٌ قَوْمًا، فِي زَمَانٍ هُمْ فِيهِ رُؤَسَاءُ صِنَاعَةِ الْخُطَبِ وَالْبَلَاغَةِ، وَقِيلِ الشِّعْرِ وَالْفَصَاحَةِ، وَالسَّجْعِ وَالْكَهَانَةِ، كُلَّ خَطِيبٍ مِنْهُمْ وَبَلِيغٍ، وَشَاعِرٍ مِنْهُمْ وَفَصِيحٍ، وَكُلَّ ذِي سَجْعٍ وَكَهَانَةٍ. فَسَفَّهَ أَحْلَامَهُمْ، وَقَصَّرَ مَعْقُولَهُمْ، وَتَبْرَّأَ مِنْ دِينِهِمْ، وَدَعَا جَمِيعَهُمْ إِلَى اتِّبَاعِهِ، وَالْقَبُولِ مِنْهُ، وَالتَّصْدِيقِ بِهِ، وَالْإِقْرَارِ بِأَنَّهُ رَسُولٌ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ. وَأَخْبَرَهُمْ أَنَّ دَلَالَتَهُ عَلَى صِدْقِ مَقَالَتِهِ، وَحُجَّتَهُ عَلَى حَقِيقَةِ نُبُوَّتِهِ، مَا أَتَاهُمْ بِهِ مِنَ الْبَيَانِ وَالْحِكْمَةِ وَالْفُرْقَانِ، بِلِسَانٍ مِثْلِ أَلْسِنَتِهِمْ، وَمَنْطِقٍ مُوَافِقَةٍ مَعَانِيهِ مَعَانِيَ مَنْطِقِهِمْ. ثُمَّ أَنْبَأَ جَمِيعَهُمْ أَنَّهُمْ عَنْ أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ بَعْضِهِ عَجَزَةٌ، وَمِنَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ نَقَصَةٌ، فَأَقَرَّ جَمِيعُهُمْ بِالْعَجْزِ، وَأَذْعَنُوا لَهُ بِالتَّصْدِيقِ، وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالنَّقْصِ، إِلَّا مَنْ تَجَاهَلَ مِنْهُمْ وَتَعَامَى، وَاسْتَكْبَرَ وَتَعَاشَى، فَحَاوَلَ تَكَلُّفَ مَا قَدْ عَلِمَ أَنَّهُ عَنْهُ عَاجِزٌ، وَرَامَ مَا قَدْ تَيَقَّنَ أَنَّهُ عَلَيْهِ غَيْرُ قَادِرٍ، فَأَبْدَى مِنْ ضَعْفِ عَقْلِهِ مَا كَانَ مَسْتُورًا، وَمِنْ عِيِّ لِسَانِهِ مَا كَانَ مَصُونًا، فَأَتَى بِمَا لَا يَعْجِزُ عَنْهُ الضَّعِيفُ الْأَخْرَقُ، وَالْجَاهِلُ الْأَحْمَقُ، فَقَالَ: وَالطَّاحِنَاِتِ طَحْنًا، وَالْعَاجِنَاتِ عَجْنًا، فَالْخَابِزَاتِ خَبْزًا، وَالثَّارِدَاتِ ثَرْدًا، وَاللَّاقِمَاتِ لَقْمًا وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الْحَمَاقَاتِ الْمُشْبِهَةِ دَعْوَاهُ الْكَاذِبَةَ.
1 / 10
فَإِذَا كَانَ تَفَاضُلُ مَرَاتِبِ الْبَيَانِ، وَتَبَايُنُ مَنَازِلِ دَرَجَاتِ الْكَلَامِ، بِمَا وَصَفْنَا قَبْلُ، وَكَانَ اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ وَتَقَدَّسَتْ أَسْمَاؤُهُ أَحْكَمَ الْحُكَمَاءِ، وَأَحْلَمَ الْحُلَمَاءِ؛ كَانَ مَعْلُومًا أَنَّ أَبْيَنَ الْبَيَانِ بَيَانُهُ، وَأَفْضَلَ الْكَلَامِ كَلَامُهُ، وَأَنَّ قَدْرَ فَضْلِ بَيَانِهِ جَلَّ ذِكْرُهُ عَلَى بَيَانِ جَمِيعِ خَلْقِهِ، كَفَضْلِهِ عَلَى جَمِيعِ عِبَادِهِ. فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، وَكَانَ غَيْرَ مُبِينٍ مِنَّا عَنْ نَفْسِهِ مَنْ خَاطَبَ غَيْرَهُ بِمَا لَا يَفْهَمُهُ عَنْهُ الْمُخَاطَبُ؛ كَانَ مَعْلُومًا أَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يُخَاطِبَ جَلَّ ذِكْرُهُ أَحَدًا مِنْ خَلْقِهِ إِلَّا بِمَا يَفْهَمُهُ الْمُخَاطَبُ، وَلَا يُرْسِلُ إِلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ رَسُولًا بِرِسَالَةٍ إِلَّا بِلِسَانٍ وَبَيَانٍ يَفْهَمُهُ الْمُرْسَلُ إِلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْمُخَاطَبَ وَالْمُرْسَلَ إِلَيْهِ إِنْ لَمْ يَفْهَمْ مَا خُوطِبَ بِهِ وَأُرْسِلَ بِهِ إِلَيْهِ، فَحَالُهُ قَبْلَ الْخِطَابِ وَقَبْلَ مَجِيءِ الرِّسَالَةِ إِلَيْهِ وَبَعْدَهُ سَوَاءٌ، إِذْ لَمْ يُفِدْهُ الْخِطَابُ وَالرِّسَالَةُ شَيْئًا كَانَ بِهِ قَبْلَ ذَلِكَ جَاهِلًا، وَاللَّهُ جَلَّ ذِكْرُهُ يَتَعَالَى عَنْ أَنْ يُخَاطِبَ خِطَابًا أَوْ يُرْسِلَ رِسَالَةً لَا تُوجِبُ فَائِدَةً لِمَنْ خُوطِبَ أَوْ أُرْسِلَتْ إِلَيْهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ فِينَا مِنْ فِعْلِ أَهْلِ النَّقْصِ وَالْعَبَثِ، وَاللَّهُ تَعَالَى عَنْ ذَلِكَ مُتَعَالٍ، وَلِذَلِكَ قَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ فِي مُحْكَمِ تَنْزِيلِهِ: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ﴾ [إبراهيم: ٤]، وَقَالَ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ ﷺ: ﴿وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾ [النحل: ٦٤] . فَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَكُونَ بِهِ مُهْتَدِيًا مَنْ كَانَ بِمَا يُهْدَى إِلَيْهِ جَاهِلًا، فَقَدْ تَبَيَّنَ إِذًا بِمَا عَلَيْهِ دَلَّلْنَا مِنَ الدَّلَالَةِ أَنَّ كُلَّ رَسُولٍ لِلَّهِ جَلَّ
1 / 11
ثَنَاؤُهُ، أَرْسَلَهُ إِلَى قَوْمٍ، فَإِنَّمَا أَرْسَلَهُ بِلِسَانِ مَنْ أَرْسَلَهُ إِلَيْهِ، وَكُلَّ كِتَابٍ أَنْزَلَهُ عَلَى نَبِيٍّ، وَرِسَالَةٍ أَرْسَلَهَا إِلَى أُمَّةٍ، فَإِنَّمَا أَنْزَلَهُ لَهُ بِلِسَانِ مَنْ أَنْزَلَهُ أَوْ أَرْسَلَهُ إِلَيْهِ. وَاتَّضَحَ بِمَا قُلْنَا وَوَصَفْنَا أَنَّ كِتَابَ اللَّهِ الَّذِي أَنْزَلَهُ إِلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ ﷺ بِلِسَانِ مُحَمَّدٍ ﷺ. وَإِذَا كَانَ لِسَانُ مُحَمَّدٍ ﷺ عَرَبِيًّا، فَبَيِّنٌ أَنَّ الْقُرْآنَ عَرَبِيٌّ، وَبِذَلِكَ أَيْضًا نَطَقَ مُحْكَمُ تَنْزِيلِ رَبِّنَا، فَقَالَ جَلَّ ذِكْرُهُ: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾ [يوسف: ٢]، وَقَالَ: ﴿وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ، نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ، عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ، بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ﴾ [الشعراء: ١٩٣] . وَإِذَا كَانَتْ وَاضِحَةً صِحَّةُ مَا قُلْنَا، بِمَا عَلَيْهِ اسْتَشْهَدْنَا مِنَ الشَّوَاهِدِ وَدَلَّلْنَا عَلَيْهِ مِنَ الدَّلَائِلِ، فَالْوَاجِبُ أَنْ تَكُونَ مَعَانِي كِتَابِ اللَّهِ الْمُنَزَّلِ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ ﷺ، لِمَعَانِي كَلَامِ الْعَرَبِ مُوَافِقَةً، وَظَاهِرُهُ لِظَاهِرِ كَلَامِهَا مُلَائِمًا، وَإِنْ بَايَنَهُ كِتَابُ اللَّهِ بِالْفَضِيلَةِ الَّتِي فَضَلَ بِهَا سَائِرَ الْكَلَامِ وَالْبَيَانِ بِمَا قَدْ تَقَدَّمَ وَصْفُنَا. فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ؛ فَبَيِّنٌ - إِذْ كَانَ مَوْجُودًا فِي كَلَامِ الْعَرَبِ الْإِيجَازُ وَالِاخْتِصَارُ، وَالِاجْتِزَاءُ بِالْإِخْفَاءِ مِنَ الْإِظْهَارِ، وَبِالْقِلَّةِ مِنَ الْإِكْثَارِ، فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ، وَاسْتِعْمَالُ الْإِطَالَةِ وَالْإِكْثَارِ، وَالتَّرْدَادِ وَالتَّكْرَارِ، وَإِظْهَارُ الْمَعَانِي بِالْأَسْمَاءِ دُونَ الْكِنَايَةِ عَنْهَا، وَالْإِسْرَارُ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ، وَالْخَبَرُ عَنِ الْخَاصِّ فِي الْمُرَادِ بِالْعَامِّ الظَّاهِرِ، وَعَنِ الْعَامِّ فِي الْمُرَادِ بِالْخَاصِّ الظَّاهِرِ، وَعَنِ الْكِنَايَةِ وَالْمُرَادُ مِنْهُ الْمُصَرَّحُ، وَعَنِ
1 / 12
الصِّفَةِ وَالْمُرَادُ الْمَوْصُوفُ، وَعَنِ الْمَوْصُوفِ وَالْمُرَادُ الصِّفَةُ، وَتَقْدِيمُ مَا هُوَ فِي الْمَعْنَى مُؤَخَّرٌ، وَتَأْخِيرُ مَا هُوَ فِي الْمَعْنَى مُقَدَّمٌ، وَالِاكْتِفَاءُ بِبَعْضٍ مِنْ بَعْضٍ، وَبِمَا يَظْهَرُ عَمَّا يُحْذَفُ، وَإِظْهَارُ مَا حَظُّهُ الْحَذْفُ - أَنْ يَكُونَ مَا فِي كِتَابِ اللَّهِ الْمُنَزَّلِ عَلَى نَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ ﷺ مِنْ ذَلِكَ فِي كُلِّ ذَلِكَ لَهُ نَظِيرًا، وَلَهُ مِثْلًا وَشَبِيهًا. وَنَحْنُ مُبَيِّنُو جَمِيعِ ذَلِكَ فِي أَمَاكِنِهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ ذَلِكَ، وَأَمُدُّ مِنْهُ بِعَوْنٍ وَقُوَّةٍ
الْقَوْلُ فِي الْبَيَانِ عَنِ الْأَحْرُفِ الَّتِي اتَّفَقَتْ فِيهَا أَلْفَاظُ الْعَرَبِ وَأَلْفَاظُ غَيْرِهَا مِنْ بَعْضِ أَجْنَاسِ الْأُمَمِ قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: إِنْ سَأَلْنَا سَائِلٌ، فَقَالَ: إِنَّكَ ذَكَرْتَ أَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يُخَاطِبَ اللَّهُ أَحَدًا مِنْ خَلْقِهِ إِلَّا بِمَا يَفْهَمُهُ، وَأَنْ يُرْسِلَ إِلَيْهِ رِسَالَةً إِلَّا بِاللِّسَانِ الَّذِي يَفْقَهُهُ، فَمَا أَنْتَ قَائِلٌ فِيمَا
حَدَّثَكُمْ بِهِ مُحَمَّدُ بْنُ حُمَيْدٍ الرَّازِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَكَّامُ بْنُ سَلْمٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عَنْبَسَةُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِي الْأَحْوَصِ، عَنْ أَبِي مُوسَى: ﴿يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ﴾ [الحديد: ٢٨] قَالَ: " الْكِفْلَانِ: ضِعْفَانِ مِنَ الْأَجْرِ بِلِسَانِ الْحَبَشَةِ "
وَفِيمَا حَدَّثَكُمْ بِهِ ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا حَكَّامٌ، عَنْ عَنْبَسَةَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: ﴿إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ﴾ [المزمل: ٦] . ⦗١٤⦘ قَالَ: " بِلِسَانِ الْحَبَشَةِ، إِذَا قَامَ الرَّجُلُ مِنَ اللَّيْلِ قَالُوا: نَشَأَ "
الْقَوْلُ فِي الْبَيَانِ عَنِ الْأَحْرُفِ الَّتِي اتَّفَقَتْ فِيهَا أَلْفَاظُ الْعَرَبِ وَأَلْفَاظُ غَيْرِهَا مِنْ بَعْضِ أَجْنَاسِ الْأُمَمِ قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: إِنْ سَأَلْنَا سَائِلٌ، فَقَالَ: إِنَّكَ ذَكَرْتَ أَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يُخَاطِبَ اللَّهُ أَحَدًا مِنْ خَلْقِهِ إِلَّا بِمَا يَفْهَمُهُ، وَأَنْ يُرْسِلَ إِلَيْهِ رِسَالَةً إِلَّا بِاللِّسَانِ الَّذِي يَفْقَهُهُ، فَمَا أَنْتَ قَائِلٌ فِيمَا
حَدَّثَكُمْ بِهِ مُحَمَّدُ بْنُ حُمَيْدٍ الرَّازِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَكَّامُ بْنُ سَلْمٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عَنْبَسَةُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِي الْأَحْوَصِ، عَنْ أَبِي مُوسَى: ﴿يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ﴾ [الحديد: ٢٨] قَالَ: " الْكِفْلَانِ: ضِعْفَانِ مِنَ الْأَجْرِ بِلِسَانِ الْحَبَشَةِ "
وَفِيمَا حَدَّثَكُمْ بِهِ ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا حَكَّامٌ، عَنْ عَنْبَسَةَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: ﴿إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ﴾ [المزمل: ٦] . ⦗١٤⦘ قَالَ: " بِلِسَانِ الْحَبَشَةِ، إِذَا قَامَ الرَّجُلُ مِنَ اللَّيْلِ قَالُوا: نَشَأَ "
1 / 13
وَفِيمَا حَدَّثَكُمْ بِهِ ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا حَكَّامٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَنْبَسَةُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِي مَيْسَرَةَ: ﴿يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ﴾ [سبأ: ١٠] . قَالَ: «سَبِّحِي بِلِسَانِ الْحَبَشَةِ» قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَكُلُّ مَا قُلْنَا فِي هَذَا الْكِتَابِ حَدَّثَكُمْ فَقَدْ حَدَّثُونَا بِهِ
وَفِيمَا حَدَّثَكُمْ بِهِ مُحَمَّدُ بْنُ خَالِدِ بْنِ خِدَاشٍ الْأَزْدِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا سَلْمُ بْنُ قُتَيْبَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ عَلِيِّ بنِ زَيْدٍ، عَنْ يُوسُفَ بْنِ مِهْرَانَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، ﵄ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ قَوْلِهِ: ﴿فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ﴾ [المدثر: ٥١] . قَالَ: " هُوَ بِالْعَرَبِيَّةِ: الْأَسَدُ. وَبِالْفَارِسِيَّةِ: شَارْ. وَبِالنَّبَطِيَّةِ: أَرَيَا. وَبِالْحَبَشِيَّةِ: قَسْوَرَةٌ "
وَفِيمَا حَدَّثَكُمْ بِهِ ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ الْقُمِّيُّ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي الْمُغِيرَةِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، قَالَ: " قَالَتْ قُرَيْشٌ: لَوْلَا أُنْزِلَ هَذَا الْقُرْآنُ أَعْجَمِيًّا وَعَرَبِيًّا فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: ﴿وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ﴾ [فصلت: ٤٤] فَأَنْزَلَ اللَّهُ بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ فِي الْقُرْآنِ بِكُلِّ لِسَانٍ فِيهِ ﴿حِجَارَةً ⦗١٥⦘ مِنْ سِجِّيلٍ﴾ [هود: ٨٢] قَالَ: فَارِسِيَّةٌ أُعْرِبَتْ: سنك وكل "
وَفِيمَا حَدَّثَكُمْ بِهِ مُحَمَّدُ بْنُ خَالِدِ بْنِ خِدَاشٍ الْأَزْدِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا سَلْمُ بْنُ قُتَيْبَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ عَلِيِّ بنِ زَيْدٍ، عَنْ يُوسُفَ بْنِ مِهْرَانَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، ﵄ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ قَوْلِهِ: ﴿فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ﴾ [المدثر: ٥١] . قَالَ: " هُوَ بِالْعَرَبِيَّةِ: الْأَسَدُ. وَبِالْفَارِسِيَّةِ: شَارْ. وَبِالنَّبَطِيَّةِ: أَرَيَا. وَبِالْحَبَشِيَّةِ: قَسْوَرَةٌ "
وَفِيمَا حَدَّثَكُمْ بِهِ ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ الْقُمِّيُّ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي الْمُغِيرَةِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، قَالَ: " قَالَتْ قُرَيْشٌ: لَوْلَا أُنْزِلَ هَذَا الْقُرْآنُ أَعْجَمِيًّا وَعَرَبِيًّا فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: ﴿وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ﴾ [فصلت: ٤٤] فَأَنْزَلَ اللَّهُ بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ فِي الْقُرْآنِ بِكُلِّ لِسَانٍ فِيهِ ﴿حِجَارَةً ⦗١٥⦘ مِنْ سِجِّيلٍ﴾ [هود: ٨٢] قَالَ: فَارِسِيَّةٌ أُعْرِبَتْ: سنك وكل "
1 / 14
وَفِيمَا حَدَّثَكُمْ بِهِ مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ، قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِي مَيْسَرَةَ، قَالَ: «فِي الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ لِسَانٍ. وَفِيمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنَ الْأَخْبَارِ الَّتِي يَطُولُ بِذِكْرِهَا الْكِتَابُ، مِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ فِيهِ مِنْ غَيْرِ لِسَانِ الْعَرَبِ» قِيلَ لَهُ: إِنَّ الَّذِيَ قَالُوهُ مِنْ ذَلِكَ غَيْرُ خَارِجٍ مِنْ مَعْنَى مَا قُلْنَا مِنْ أَجْلِ أَنَّهُمْ لَمْ يَقُولُوا: هَذِهِ الْأَحْرُفُ وَمَا أَشْبَهَهَا لَمْ تَكُنْ لِلْعَرَبِ كَلَامًا، وَلَا كَانَ ذَاكَ لَهَا مَنْطِقًا قَبْلَ نُزُولِ الْقُرْآنِ، وَلَا كَانَتْ بِهَا الْعَرَبُ عَارِفَةً قَبْلَ مَجِيءِ الْفُرْقَانِ، فَيَكُونُ ذَلِكَ قَوْلًا لِقَوْلِنَا خِلَافًا. وَإِنَّمَا قَالَ بَعْضُهُمْ: حَرْفُ كَذَا بِلِسَانِ الْحَبَشَةِ مَعْنَاهُ كَذَا، وَحَرْفُ كَذَا بِلِسَانِ الْعَجَمِ مَعْنَاهُ كَذَا، وَلَمْ يَسْتَنْكِرْ أَنْ يَكُونَ مِنَ الْكَلَامِ، مَا يَتَّفِقُ فِيهِ أَلْفَاظُ جَمِيعِ أَجْنَاسِ الْأُمَمِ الْمُخْتَلِفَةُ الْأَلْسُنُ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، فَكَيْفَ بِجِنْسَيْنِ مِنْهَا. كَمَا قَدْ وَجَدْنَا اتِّفَاقَ كَثِيرٍ مِنْهُ، فِيمَا قَدْ عَلِمْنَاهُ مِنَ الْأَلْسُنِ الْمُخْتَلِفَةِ، وَذَلِكَ كَالدِّرْهَمِ، وَالدِّينَارِ، وَالدَّوَاةِ، وَالْقَلَمِ، وَالْقِرْطَاسِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يُتْعِبُ إِحْصَاؤُهُ، وَيُمِلُّ تَعْدَادُهُ، كَرِهْنَا إِطَالَةَ الْكِتَابِ بِذِكْرِهِ، مِمَّا اتَّفَقَتْ فِيهِ الْفَارِسِيَّةُ وَالْعَرَبِيَّةُ، بِاللَّفْظِ وَالْمَعْنَى. وَلَعَلَّ ذَلِكَ كَذَلِكَ فِي سَائِرِ الْأَلْسُنِ، الَّتِي يُجْهَلُ مَنْطِقُهَا، وَلَا يُعْرَفُ كَلَامُهَا. فَلَوْ أَنَّ قَائِلًا قَالَ: فيما ذَكَرْنَا مِنَ الْأَشْيَاءِ الَّتِي عَدَدْنَا وَأُخْبِرْنَا اتِّفَاقَهُ فِي اللَّفْظِ وَالْمَعْنَى، بِالْفَارِسِيَّةِ وَالْعَرَبِيَّةِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِمَّا سَكَتْنَا عَنْ ذَكَرِهِ، ذَلِكَ كُلُّهُ فَارِسِيٌّ لَا
1 / 15
عَرَبِيٌّ، أَوْ ذَلِكَ كُلُّهُ عَرَبِيٌّ لَا فَارِسِيٌّ، أَوْ قَالَ: بَعْضُهُ عَرَبِيٌّ وَبَعْضُهُ فَارِسِيٌّ، أَوْ قَالَ: كَانَ مَخْرَجُ أَصْلِهِ مِنْ عِنْدِ الْعَرَبِ، فَوَقَعَ إِلَى الْعَجَمِ فَنَطَقُوا بِهِ، أَوْ قَالَ: كَانَ مَخْرَجُ أَصْلِهِ مِنْ عِنْدِ الْفُرْسِ فَوَقَعَ إِلَى الْعَرَبِ فَأَعْرَبَتْهُ. كَانَ مُسْتَجْهَلًا، لِأَنَّ الْعَرَبَ لَيْسَتْ بِأَوْلَى أَنْ تَكُونَ كَانَ مَخْرَجُ أَصْلِ ذَلِكَ مِنْهَا إِلَى الْعَجَمِ، وَلَا الْعَجَمُ بِأَحَقِّ أَنْ تَكُونَ كَانَ مَخْرَجُ أَصْلِ ذَلِكَ مِنْهَا إِلَى الْعَرَبِ إِذْ كَانَ اسْتِعْمَالُ ذَلِكَ بِلَفْظٍ وَاحِدٍ وَمَعْنًى وَاحِدٍ مَوْجُودًا فِي الْجِنْسَيْنِ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مَوْجُودًا عَلَى مَا وَصَفْنَا فِي الْجِنْسَيْنِ، فَلَيْسَ أَحَدُ الْجِنْسَيْنِ أَوْلَى بِأَنْ يَكُونَ أَصْلُ ذَلِكَ كَانَ مِنْ عِنْدِهِ، مِنَ الْجِنْسِ الْآخَرِ، وَالْمُدَّعِي أَنَّ مَخْرَجَ أَصْلِ ذَلِكَ إِنَّمَا كَانَ مِنْ أَحَدِ الْجِنْسَيْنِ إِلَى الْآخَرِ مُدَّعٍ أَمْرًا لَا يُوَصِلُ إِلَى حَقِيقَةِ صِحَّتِهِ، إِلَّا بِخَبَرٍ يُوجِبُ الْعِلْمَ، وَيُزِيلُ الشَّكَّ، وَيَقْطَعُ الْعُذْرَ صِحَّتِهِ. بَلِ الصَّوَابُ فِي ذَلِكَ عِنْدَنَا أَنْ يُسَمَّى عَرَبِيًّا أَعْجَمِيًّا، أَوْ حَبَشِيًّا عَرَبِيًّا، إِذْ كَانَتِ الْأُمَّتَانِ لَهُ مُسْتَعْمِلَتَيْنِ فِي بَيَانِهَا وَمَنْطِقِهَا، اسْتِعْمَالَ سَائِرِ مَنْطِقِهَا وَبَيَانِهَا، فَلَيْسَ غَيْرُ ذَلِكَ مِنْ كَلَامِ كُلِّ أُمَّةٍ مِنْهُمَا بِأَوْلَى أَنْ يَكُونَ إِلَيْهَا مَنْسُوبًا مِنْهُ، فَكَذَلِكَ سَبِيلُ كُلِّ كَلِمَةٍ وَاسْمٍ، اتَّفَقَتْ أَلْفَاظُ أَجْنَاسِ أُمَمٍ فِيهَا وَمَعْنَاهَا، وَوُجِدَ ذَلِكَ مُسْتَعْمَلًا فِي كُلِّ جِنْسٍ مِنْهَا، اسْتِعْمَالَ سَائِرِ مَنْطِقِهِمْ، فَسَبِيلُ
1 / 16
إِضَافَتِهِ إِلَى كُلِّ جِنْسٍ مِنْهَا سَبِيلُ مَا وَصَفْنَا مِنَ الدِّرْهَمِ وَالدِّينَارِ، وَالدَّوَاةِ وَالْقَلَمِ الَّتِي اتَّفَقَتْ أَلْسُنُ الْفُرْسِ وَالْعَرَبِ فِيهَا بِالْأَلْفَاظِ الْوَاحِدَةِ، وَالْمَعْنَى الْوَاحِدِ، فِي أَنَّهُ مُسْتَحِقٌّ إِضَافَتَهُ إِلَى كُلِّ جِنْسٍ مِنْ تِلْكِ الْأَجْنَاسِ بِاجْتِمَاعٍ وَافْتِرَاقٍ. وَذَلِكَ هُوَ مَعْنَى مَنْ رَوَيْنَا عَنْهُ الْقَوْلَ فِي الْأَحْرُفِ الَّتِي مَضَتْ فِي صَدْرِ هَذَا الْبَابِ، مِنْ نِسْبَةِ بَعْضِهِمْ بَعْضَ ذَلِكَ إِلَى لِسَانِ الْحَبَشَةِ، وَنَسَبَةِ بَعْضِهِمْ بَعْضَ ذَلِكَ إِلَى لِسَانِ الْفُرْسِ، وَنَسَبَةِ بَعْضِهِمْ بَعْضَ ذَلِكَ إِلَى لِسَانِ الرُّومِ، لِأَنَّ مَنْ نَسَبَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ إِلَى مَا نَسَبَهُ إِلَيْهِ، لَمْ يَنْفِ بِنِسْبَتِهِ إِيَّاهُ إِلَى مَا نَسَبُهُ إِلَيْهِ، أَنْ يَكُونَ عَرَبِيًّا، وَلَا مَنْ قَالَ مِنْهُمْ: هُوَ عَرَبِيٌّ نَفَى ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ مُسْتَحِقًّا النِّسْبَةَ إِلَى مَنْ هُوَ مِنْ كَلَامِهِ مِنْ سَائِرِ أَجْنَاسِ الْأُمَمِ غَيْرِهَا، وَإِنَّمَا يَكُونُ الْإِثْبَاتُ دَلِيلًا عَلَى النَّفْيِ فِيمَا لَا يَجُوزُ اجْتِمَاعُهُ مِنَ الْمَعَانِي كَقَوْلِ الْقَائِلِ: فُلَانٌ قَائِمٌ، فَيَكُونُ بِذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِ دَالًا عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ قَاعِدٍ، وَنَحْوَ ذَلِكَ، مِمَّا يَمْتَنِعُ اجْتِمَاعُهُ لِتَنَافِيهِمَا. فَأَمَّا مَا جَازَ اجْتِمَاعُهُ، فَهُوَ خَارِجٌ مِنَ الْمَعْنَى، وَذَلِكَ كَقَوْلِ الْقَائِلِ: فُلَانٌ قَائِمٌ مُكَلَّمٌ فُلَانًا، فَلَيْسَ فِي تَثْبِيتِ الْقِيَامِ لَهُ مَا دَلَّ عَلَى نَفْيِ كَلَامٍ آخَرَ لِجَوَازِ اجْتِمَاعِ ذَلِكَ فِي حَالٍ وَاحِدٍ، مِنْ شَخْصٍ وَاحِدٍ، فَقَائِلُ ذَلِكَ صَادِقٌ، إِذَا كَانَ صَاحِبُهُ عَلَى مَا وَصَفَهُ بِهِ. فَكَذَلِكَ مَا قُلْنَا فِي الْأَحْرُفِ الَّتِي ذَكَرْنَا وَمَا أَشْبَهَهَا غَيْرُ مُسْتَحِيلٍ أَنْ يَكُونَ عَرَبِيًّا بَعْضَهَا أَعْجَمِيًّا، وَحَبَشِيًّا بَعْضَهَا عَرَبِيًّا، إِذْ كَانَ مَوْجُودًا اسْتِعْمَالُ ذَلِكَ فِي كِلْتَا الْأُمَّتَيْنِ، فَنَاسِبُ مَا نَسَبَ مِنْ ذَلِكَ إِلَى إِحْدَى الْأُمَّتَيْنِ، أَوْ كِلْتَيْهِمَا، مُحِقٌّ غَيْرُ مُبْطِلٍ.
1 / 17
فَإِنْ ظَنَّ ذُو غَبًا أَنَّ اجْتِمَاعَ ذَلِكَ فِي الْكَلَامِ مُسْتَحِيلٌ، كَمَا هُوَ مُسْتَحِيلٌ فِي أَنْسَابِ بَنِي آدَمَ، فَقَدْ ظَنَّ جَهْلًا وَذَلِكَ أَنَّ أَنْسَابَ بَنِي آدَمَ مَحْصُورَةٌ عَلَى أَحَدِ الطَّرَفَيْنِ دُونَ الْآخَرِ، لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ: ﴿ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ﴾ [الأحزاب: ٥] وَلَيْسَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فِي الْمَنْطِقِ وَالْبَيَانِ، لِأَنَّ الْمَنْطِقَ إِنَّمَا هُوَ مَنْسُوبٌ إِلَى مَنْ كَانَ بِهِ مَعْرُوفًا اسْتِعْمَالُهُ. فَلَوْ عُرِفَ اسْتِعْمَالُ بَعْضِ الْكَلَامِ فِي أَجْنَاسٍ مِنَ الْأُمَمِ، جِنْسَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ، بِلَفْظٍ وَاحِدٍ وَمَعْنًى وَاحِدٍ، كَانَ ذَلِكَ مَنْسُوبًا إِلَى كُلِّ جِنْسٍ مِنْ تِلْكَ الْأَجْنَاسِ، لَا يَسْتَحِقُّ جِنْسٌ مِنْهَا أَنْ يَكُونَ بِهِ أَوْلَى مِنْ سَائِرِ الْأَجْنَاسِ غَيْرِهِ. كَمَا لَوْ أَنَّ أَرْضًا بَيْنَ سَهْلٍ وَجَبَلٍ، لَهَا هَوَاءُ السَّهْلِ وَهَوَاءُ الْجَبَلِ، أَوْ بَيْنَ بَرٍّ وَبَحْرٍ، لَهَا هَوَاءُ الْبِرِّ وَهَوَاءُ الْبَحْرِ، لَمْ يَمْتَنِعْ ذُو عَقْلٍ صَحِيحٍ، أَنْ يَصِفَهَا بِأَنَّهَا بَرِيَّةٌ بَحْرِيَّةٌ، إِذْ لَمْ تَكُنْ نِسْبَتُهَا إِلَى إِحْدَى صِفَتَيْهَا نَافِيَةً حَقَّهَا مِنَ النِّسْبَةِ إِلَى الْأُخْرَى. وَلَوْ أَفْرَدَ لَهَا مُفْرِدٌ إِحْدَى صِفَتَيْهَا وَلَمْ يَسْلُبْهَا صِفَتَهَا الْأُخْرَى، كَانَ صَادِقًا مُحِقًّا، وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي الْأَحْرُفِ الَّتِي تَقَدَّمَ ذِكْرُنَا لَهَا فِي أَوَّلِ هَذَا الْبَابِ، وَهَذَا الْمَعْنَى الَّذِي قُلْنَاهُ فِي ذَلِكَ هُوَ مَعْنَى قَوْلِ مَنْ قَالَ فِي الْقُرْآنِ: مِنْ كُلِّ لِسَانٍ عِنْدَنَا. بِمَعْنَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ أَنَّ فِيهِ مِنْ كُلِّ لِسَانٍ، اتَّفَقَ فِيهِ لَفْظُ الْعَرَبِ وَلَفْظُ غَيْرِهَا مِنَ الْأُمَمِ الَّتِي تَنْطِقُ بِهِ، نَظِيرَ مَا وَصَفْنَا مِنَ الْقَوْلِ فِيمَا مَضَى، وَذَلِكَ أَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يُتَوَهَّمَ عَلَى ذِي فِطْرَةٍ صَحِيحَةٍ، مُقِرٍّ بِكِتَابِ اللَّهِ، مِمَّنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ، وَعَرَفَ حُدُودَ اللَّهِ، أَنْ يَعْتَقِدَ أَنَّ بَعْضَ الْقُرْآنِ فَارِسِيٌّ لَا عَرَبِيٌّ، وَبَعْضَهُ
1 / 18
نَبَطِيٌّ لَا عَرَبِيٌّ، وَبَعْضَهُ عَرَبِيٌّ لَا فَارِسِيٌّ، وَبَعْضَهُ حَبَشِيٌّ لَا عَرَبِيٌّ، بَعْدَ مَا أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ عَنْهُ، أَنَّهُ جَعَلَهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا، لِأَنَّ ذَلِكَ إِنْ كَانَ كَذَلِكَ فَلَيْسَ قَوْلُ الْقَائِلِ: الْقُرْآنُ حَبَشِيٌّ أَوْ فَارِسِيٌّ، وَلَا نِسْبَةُ مَنْ نَسَبَهُ إِلَى بَعْضِ أَلْسُنِ الْأُمَمِ، الَّتِي بَعْضُهُ بِلِسَانِهِ دُونَ الْعَرَبِ، بِأَوْلَى بِالتَّطَوُّلِ مِنْ قَوْلِ الْقَائِلِ هُوَ عَرَبِيٌّ، وَلَا قَوْلُ الْقَائِلِ هُوَ عَرَبِيٌّ بِأَوْلَى بِالصِّحَّةِ وَالصَّوَابِ، مِنْ قَوْلِ نَاسِبِهِ إِلَى بَعْضِ الْأَجْنَاسِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا، إِذْ كَانَ الَّذِي بِلِسَانِ غَيْرِ الْعَرَبِ، مِنْ سَائِرِ أَلْسُنِ أَجْنَاسِ الْأُمَمِ فِيهِ نَظِيرُ الَّذِي فِيهِ مِنْ لِسَانِ الْعَرَبِ. وَإِذْ كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، فَبَيَّنٌ إِذًا خَطَأُ قَوْلِ مَنْ زَعَمَ أَنَّ الْقَائِلَ مِنَ السَّلَفِ: فِي الْقُرْآنِ مَنْ كُلِّ لِسَانٍ، إِنَّمَا عَنَى بِقِيلِهِ ذَلِكَ، أَنَّ فِيهِ مِنَ الْبَيَانِ مَا لَيْسَ بِعَرَبِيٍّ، وَلَا جَائِزَةٌ نِسْبَتَهُ إِلَى لِسَانِ الْعَرَبِ. وَيُقَالُ لِمَنْ أَبَى مَا قُلْنَا، مِمَّنْ زَعَمَ أَنَّ الْأَحْرُفَ الَّتِي قَدَّمْنَا ذِكْرَهَا فِي أَوَّلِ الْبَابِ وَمَا أَشْبَهَهَا، إِنَّمَا هِيَ كَلَامُ أَجْنَاسِ الْأُمَمِ سِوَى الْعَرَبِ، وَقَعَتْ إِلَى الْعَرَبِ فَعَرَّبَتْهُ: مَا بُرْهَانُكَ عَلَى صِحَّةِ مَا قُلْتَ فِي ذَلِكَ مِنَ الْوَجْهِ الَّذِي يَجِبُ التَّسْلِيمُ لَهُ؟ فَقَدْ عَلِمْتَ مَنْ خَالَفَكَ فِي ذَلِكَ فَقَالَ فِيهِ خِلَافَ قَوْلِكَ، وَمَا الْفَرَقُ بَيْنَكَ وَبَيْنَ مَنْ عَارَضَكَ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ: هَذِهِ الْأَحْرُفُ وَمَا أَشْبَهَهَا مِنَ الْأَحْرُفِ وَغَيْرُهَا
1 / 19
أَصْلُهَا عَرَبِيٌّ غَيْرَ أَنَّهَا وَقَعَتْ إِلَى سَائِرِ أَجْنَاسِ الْأُمَمِ غَيْرَهَا، فَنَطَقَتْ كُلُّ أُمَّةٍ مِنْهَا بِبَعْضِ ذَلِكَ بِأَلْسِنَتِهَا مِنَ الْوَجْهِ الَّذِي يَجِبُ التَّسْلِيمُ لَهُ؟ فَلَنْ يَقُولُ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ قَوْلًا إِلَّا أَلْزَمَ فِي الْآخَرِ مِثْلَهُ. فَإِنِ اعْتَلَّ فِي ذَلِكَ بِأَقْوَالِ السَّلَفِ الَّتِي قَدْ ذَكَرْنَا بَعْضَهَا وَمَا أَشْبَهَهَا، طُولِبَ مُطَالَبَتَنَا مَنْ تَأَوَّلَ عَلَيْهِمْ فِي ذَلِكَ تَأْوِيلَهُ بِالَّذِي قَدْ تَقَدَّمَ فِي بَيَانِنَا، وَقِيلَ لَهُ: مَا أَنْكَرْتَ أَنْ يَكُونَ مَنْ نَسَبَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ مِنْهُمْ إِلَى مَنْ نَسَبَهُ مِنْ أَجْنَاسِ الْأُمَمِ سِوَى الْعَرَبِ، إِنَّمَا نَسَبَهُ إِلَى إِحْدَى نِسْبَتَيْهِ، الَّتِي هُوَ لَهَا مُسْتَحِقٌّ، مِنْ غَيْرِ نَفْيٍ مِنْهُ عَنْهُ النِّسْبَةَ الْأُخْرَى. ثُمَّ يُقَالُ لَهُ: أَرَأَيْتَ مَنَ قَالَ لِأَرْضٍ سَهْلِيَّةٍ جَبَلِيَّةٍ، هِيَ سَهْلِيَّةٌ، وَلَمْ يُنْكِرْ أَنْ تَكُونَ جَبَلِيَّةً، أَوْ قَالَ: هِيَ جَبَلِيَّةٌ، وَلَمْ يَدْفَعْ أَنْ تَكُونَ سَهْلِيَّةً، أَنَافَ عَنْهَا أَنْ تَكُونَ لَهَا لصُّفَّةُ الْأُخْرَى بِقِيلِهِ ذَلِكَ؟ فَإِنْ قَالَ: نَعَمْ، كَابَرَ عَقْلَهُ. وَإِنْ قَالَ: لَا، قِيلَ لَهُ: فَمَا أَنْكَرْتَ أَنْ يَكُونَ قَوْلُ مَنْ قَالَ فِي سِجِّيلٍ هِيَ فَارِسِيَّةٌ، وَفِي الْقُسْطَاسِ هِيَ رُومِيَّةٌ، نَظِيرَ ذَلِكَ؟ وَسُئِلَ الْفَرَقَ بَيْنَ ذَلِكَ، فَلَنْ يَقُولَ فِي أَحَدِهِمَا قَوْلًا إِلَّا أُلْزِمَ فِي الْآخَرِ مِثْلَهُ
الْقَوْلُ فِي اللُّغَةِ الَّتِي نَزَلَ بِهَا الْقُرْآنُ مِنْ لُغَاتِ الْعَرَبِ قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: قَدْ دَلَّلْنَا عَلَى صِحَّةِ الْقَوْلِ بِمَا فِيهِ الْكِفَايَةُ لِمَنْ وُفِّقَ لِفَهْمِهِ، عَلَى أَنَّ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ أَنْزَلَ جَمِيعَ الْقُرْآنِ بِلِسَانِ الْعَرَبِ دُونَ غَيْرِهَا، مِنْ أَلْسُنِ سَائِرِ أَجْنَاسِ الْأُمَمِ، وَعَلَى فَسَادِ قَوْلِ مَنْ زَعَمَ أَنَّ مِنْهُ مَا لَيْسَ بِلِسَانِ الْعَرَبِ وَلُغَتِهَا، فَنَقُولُ: الْآنَ إِذَا كَانَ ذَلِكَ صَحِيحًا فِي الدَّلَالَةِ عَلَيْهِ؛ بِأَيِّ أَلْسُنِ الْعَرَبِ أُنْزِلَ؟ أَبِأَلْسُنِ جَمِيعِهَا أَمْ بِأَلْسُنِ بَعْضِهَا؟ إِذْ كَانَتِ الْعَرَبُ، وَإِنْ جَمَعَ جَمِيعَهَا اسْمٌ، أَنَّهُمْ
الْقَوْلُ فِي اللُّغَةِ الَّتِي نَزَلَ بِهَا الْقُرْآنُ مِنْ لُغَاتِ الْعَرَبِ قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: قَدْ دَلَّلْنَا عَلَى صِحَّةِ الْقَوْلِ بِمَا فِيهِ الْكِفَايَةُ لِمَنْ وُفِّقَ لِفَهْمِهِ، عَلَى أَنَّ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ أَنْزَلَ جَمِيعَ الْقُرْآنِ بِلِسَانِ الْعَرَبِ دُونَ غَيْرِهَا، مِنْ أَلْسُنِ سَائِرِ أَجْنَاسِ الْأُمَمِ، وَعَلَى فَسَادِ قَوْلِ مَنْ زَعَمَ أَنَّ مِنْهُ مَا لَيْسَ بِلِسَانِ الْعَرَبِ وَلُغَتِهَا، فَنَقُولُ: الْآنَ إِذَا كَانَ ذَلِكَ صَحِيحًا فِي الدَّلَالَةِ عَلَيْهِ؛ بِأَيِّ أَلْسُنِ الْعَرَبِ أُنْزِلَ؟ أَبِأَلْسُنِ جَمِيعِهَا أَمْ بِأَلْسُنِ بَعْضِهَا؟ إِذْ كَانَتِ الْعَرَبُ، وَإِنْ جَمَعَ جَمِيعَهَا اسْمٌ، أَنَّهُمْ
1 / 20
عَرَبٌ، فَهُمْ مُخْتَلِفُو الْأَلْسُنِ بِالْبَيَانِ، مُتَبَايِنُو الْمَنْطِقِ وَالْكَلَامِ. وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، وَكَانَ اللَّهُ جَلَّ ذِكْرُهُ قَدْ أَخْبَرَ عِبَادَهُ أَنَّهُ قَدْ جَعَلَ الْقُرْآنَ عَرَبِيًّا، وَأَنَّهُ أُنْزِلَ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ، ثُمَّ كَانَ ظَاهِرُهُ مُحْتَمِلًا خُصُوصًا وَعُمُومًا، لَمْ يَكُنْ لَنَا السَّبِيلُ إِلَى الْعِلْمِ بِمَا عَنَى اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ مِنْ خُصُوصِهِ وَعُمُومِهِ، إِلَّا بِبَيَانِ مَنْ جُعِلَ إِلَيْهِ بَيَانُ الْقُرْآنِ، وَهُوَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، وَكَانَتِ الْأَخْبَارُ قَدْ تَظَاهَرَتْ عَنْهُ ﷺ
بِمَا حَدَّثَنَا بِهِ خَلَّادُ بْنُ أَسْلَمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ عِيَاضٍ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، قَالَ: لَا أَعْلَمُهُ إِلَّا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ، قَالَ: «أُنْزِلَ الْقُرْآنُ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ، فَالْمِرَاءُ فِي الْقُرْآنِ كُفْرٌ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ فَمَا عَرَفْتُمْ مِنْهُ فَاعْمَلُوا بِهِ، وَمَا جَهِلْتُمْ مِنْهُ فَرُدُّوهُ إِلَى عَالِمِهِ»
وَحَدَّثَنِي عُبَيْدُ بْنُ أَسْبَاطِ بْنِ مُحَمَّدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «أَنْزَلَ الْقُرْآنَ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ عَلِيمٌ حَكِيمٌ غَفُورٌ رَحِيمٌ» وَحَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدَةُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ مِثْلَهُ
بِمَا حَدَّثَنَا بِهِ خَلَّادُ بْنُ أَسْلَمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ عِيَاضٍ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، قَالَ: لَا أَعْلَمُهُ إِلَّا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ، قَالَ: «أُنْزِلَ الْقُرْآنُ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ، فَالْمِرَاءُ فِي الْقُرْآنِ كُفْرٌ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ فَمَا عَرَفْتُمْ مِنْهُ فَاعْمَلُوا بِهِ، وَمَا جَهِلْتُمْ مِنْهُ فَرُدُّوهُ إِلَى عَالِمِهِ»
وَحَدَّثَنِي عُبَيْدُ بْنُ أَسْبَاطِ بْنِ مُحَمَّدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «أَنْزَلَ الْقُرْآنَ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ عَلِيمٌ حَكِيمٌ غَفُورٌ رَحِيمٌ» وَحَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدَةُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ مِثْلَهُ
1 / 21
وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حُمَيْدٍ الرَّازِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا جَرِيرُ بْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ، عَنْ مُغِيرَةَ، عَنْ وَاصِلِ بْنِ حَيَّانَ، عَمَّنْ ذَكَرَهُ عَنْ أَبِي الْأَحْوَصِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «أُنْزِلَ الْقُرْآنُ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ، لِكُلِّ حَرْفٍ مِنْهَا ظَهْرٌ وَبَطْنٌ، وَلِكُلَّ حَرْفٍ حَدٌّ، وَلِكُلِّ حَدٍّ مُطَّلَعٌ» حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا مِهْرَانُ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ الْهَجَرِيِّ، عَنْ أَبِي الْأَحْوَصِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ، مِثْلَهُ
حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عَاصِمٌ، عَنْ زِرٍّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: اخْتَلَفَ رَجُلَانِ فِي سُورَةٍ، فَقَالَ هَذَا: أَقْرَأَنِي النَّبِيُّ ﷺ، وَقَالَ هَذَا: أَقْرَأَنِي النَّبِيُّ ﷺ، فَأَتَى النَّبِيُّ ﷺ، فَأُخْبِرَ بِذَلِكَ، قَالَ: فَتَغَيَّرَ وَجْهُهُ، وَعِنْدَهُ رَجُلٌ، فَقَالَ: «اقْرَءُوا كَمَا عَلِمْتُمْ فَلَا أَدْرِي أَبِشَيْءٍ أُمِرَ أَمْ بِشَيْءٍ ابْتَدَعَهُ مِنْ قِبَلِ نَفْسِهِ فَإِنَّمَا أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمُ اخْتِلَافُهُمْ عَلَى ⦗٢٣⦘ أَنْبِيَائِهِمْ»، قَالَ: فَقَامَ كُلُّ رَجُلٍ مِنَّا وَهُوَ لَا يَقْرَأُ عَلَى قِرَاءَةِ صَاحِبِهِ " نَحْوُ هَذَا وَمَعْنَاهُ
حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عَاصِمٌ، عَنْ زِرٍّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: اخْتَلَفَ رَجُلَانِ فِي سُورَةٍ، فَقَالَ هَذَا: أَقْرَأَنِي النَّبِيُّ ﷺ، وَقَالَ هَذَا: أَقْرَأَنِي النَّبِيُّ ﷺ، فَأَتَى النَّبِيُّ ﷺ، فَأُخْبِرَ بِذَلِكَ، قَالَ: فَتَغَيَّرَ وَجْهُهُ، وَعِنْدَهُ رَجُلٌ، فَقَالَ: «اقْرَءُوا كَمَا عَلِمْتُمْ فَلَا أَدْرِي أَبِشَيْءٍ أُمِرَ أَمْ بِشَيْءٍ ابْتَدَعَهُ مِنْ قِبَلِ نَفْسِهِ فَإِنَّمَا أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمُ اخْتِلَافُهُمْ عَلَى ⦗٢٣⦘ أَنْبِيَائِهِمْ»، قَالَ: فَقَامَ كُلُّ رَجُلٍ مِنَّا وَهُوَ لَا يَقْرَأُ عَلَى قِرَاءَةِ صَاحِبِهِ " نَحْوُ هَذَا وَمَعْنَاهُ
1 / 22