Tafsir Al-Sha'rawi

Ash-Sha'rawi d. 1418 AH
72

Tafsir Al-Sha'rawi

تفسير الشعراوي

Géneros

هذه الآية الكريمة. توضح لنا أن الله سبحانه وتعالى هو المعلم الأول في الكون. وإذا كان لكل علم معلم، فإن المعلم الأول لابد أن يكون هو الله سبحانه وتعالى. وإذا كنا نشاهد في عصرنا ألوانا من العلوم، فهذه العلوم من تفاعل العقل الذي وهبه الله تعالى للإنسان من المواد التي وضعها الله تعالى في الكون بالمنطق والعلم الذي علمه الله للإنسان. إن كل الاختراعات والابتكارات أخذت وجودها من مقدمات كانت سابقة عليها، فالماء مثلا كان موجودا منذ الأزل، والشمس كطاقة تبخر الماء لتصنع منه سحابا. فإذا استخدم الإنسان الطاقة الحرارية في تبخير الماء واستخدم البخار كطاقة، فهناك قفزة حضارية في العلوم اسمها " عصر البخار " ، وهو الذي كانت تسير به القطارات والآلات في المصانع وغير ذلك. إن هذا التقدم في العلم، إنما هو نابع من وجود العلم والطاقة، وزاد عليهما القدرة العقلية للإنسان الممنوحة له من الخالق سبحانه وتعالى، وهذه القدرة العقلية هي التي جعلته يفكر في استخدام الطاقة الناتجة من البخار، فإذا توصل الإنسان لمراقبة شجرة ساقطة وهي تتدحرج إلى الأرض لأن جذعها أسطواني، فإنه أخذ من نظام هذه الشجرة ما يصنع منه العجلة التي كانت تطورا هاما في تاريخ العلم. إذن: فساق الشجرة الأسطوانية هو الذي أعطى للإنسان فكرة العجلة، فإذا طور الإنسان استخدام البخار وصنع قطارا يسير بالبخار، فهذا التطوير هو ابن للعلم السابق عن قدرة الطاقة الناتجة عن تبخير الماء، وكيفية صناعة العجلة.. فكل علم نابع من علم سابق.. يترابط مع إمكانات وهبها الله سبحانه وتعالى للإنسان ولذلك عندما جاء الإسلام ليعرض العلم التجريبي أو المادي، جاء ليلفتنا إلى آيات الخالق في الكون، وطلب منا أن نتأمل في هذه الآيات.. ونعمل فيها العقل والإدراك. واقرأ قول الحق سبحانه وتعالى:

وكأين من آية في السماوات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون

[يوسف: 105]. وهكذا يلفتنا الله جل جلاله إلى آياته التي في السماوات والأرض لنعمل فيها العقل والإدراك، لنستنبط منها ما يعطينا الحضارة.. إن القرآن يطالبنا بأن نواصل العلم الذي علمه الله لآدم. وإذا كان تاريخ العلوم يحمل لنا أخبارا عن قوم لم يكونوا مؤمنين، ومع هذا سبقونا في العلم والاستنباط، فكان الواجب علينا نحن المؤمنين أن نتأمل آيات الله تعالى في الأرض . فنيوتن - الذي لاحظ قوة جاذبية الأرض - كان يراقب تفاحة تسقط من أعلى الشجرة وتصطدم بالأرض، فتوصل إلى قانون الجاذبية. وإذا أردنا أن نأخذ لمحة من علم الله الذي علمه لنا، فيكفي أن ننظر إلى النواة. ففي هذه النواة الصغيرة نخلة كاملة، متى وضعت النواة في الأرض.

نمت النخلة، وأصبح لها وجود. ولكي نوضح هذا كله نقول إن كل علم مبني على نظريات، النظرية الأولى تؤدي إلى الثانية، والثانية تؤدي إلى الثالثة، وهكذا.. ولكن بداية كل هذه العلوم لم تبدأ بنظرية، ولكنها بدأت بما يسمونه البديهيات، أي: الأشياء التي لا تحتاج إلى دليل، إنها الأشياء التي خلقها الله في الكون، وعلى هذه البديهات بنيت النظريات الواحدة بعد الأخرى حتى إذا أردت أن تعيدها إلى أصلها، فإنك تصل في نهاية الأمر إلى أن العلم الأول من الله سبحانه وتعالى، فالمعلم الأول علمه الله. والثمرة الأولى خلقها الله، وكل اكتشافات الإنسان منذ بداية الحياة وحتى قيام الساعة موجودة بالقوة. مثل النواة التي فيها النخلة تنتظر التأمل والعمل لتصبح اكتشافا بالفعل. والله سبحانه وتعالى وهو المعلم الأول.. وضع في كونه من العلم الكثير. ويحضرني قول الشاعر أحمد شوقي حين قال:

سبحانك اللهم خير معلم

علمت بالقلم القرون الأولى

أرسلت بالتوراة موسى مرشدا

وابن البتول يعلم الإنجيلا

وفجرت ينبوع البيان محمدا

فسقى الحديث وناول التنزيلا

Página desconocida