Tafsir al-Quran al-Thari al-Jami'
تفسير القرآن الثري الجامع
Géneros
مقدمة / 1
بسم الله الرحمن الرحيم
تقديم من الدكتور إسماعيل الشيخ - رئيس المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية بأمريكا الشمالية
الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
وبعد ..
فقد شرفت بالاطلاع على كتاب (تفسير القرآن الثري الجامع في الإعجاز البياني واللغوي والعلمي) للدكتور الشيخ محمد الهلال، الذي لم أكن أظن أن يكتب أحد مثله في هذا الزمن، لكن الحقيقة أن القرآن سيظل يلهم من اصطفاه الله من عباده لينهل من معينه إلى يوم القيامة، وقد اصطفى الله عبده الدكتور محمد الهلال (الداعية والخطيب) الذي أفنى حياته خادمًا لكتاب الله وداعيًا إلى سبيله ليكتب هذا التفسير البديع الجامع الذي رغم كونه حوالي ١٢ مجلد إلا أنه يتميز بالسهولة والسلاسة، وقد جمع فيه كثيرًا من المسائل العلمية التي أشار إليها القرآن وفسرها العلم الحديث مستندًا فضيلته إلى خبرته العلمية الطويلة كطبيب جراح حاز أعلى الدرجات العلمية في تخصصه، وهذا في الحقيقة ما يميز هذا التفسير عن غيره من التفاسير القديمة والحديثة، كما أنه جمع صنوفًا من بلاغة وبيان النص القرآني العظيم في أسلوب بسيط يناسب كل القراء.
لا شك أن هذا التفسير سيكون إضافة وإثراء للمكتبة الإسلامية ومرجعًا هامًا لطلبة العلم ولعموم الأمة على السواء. أسأل الله أن يبارك في هذا العمل وفي مؤلفه وأن يجعله شفيعًا له يوم القيامة.
دكتور/ إسماعيل الشيخ
رئيس المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية بأمريكا الشمالية
مقدمة / 2
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء وإمام المرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحابته والتابعين إلى يوم الدين .. وبعد
فإن القرآن الكريم هو الكتاب المبارك الذي أنزله الله رحمة للعالمين يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم.
صدق الله حيث قال: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾. وكان من دلائل صدق هذه الآية الكريمة أن الله تعالى قد تكفل بحفظ كتابه الكريم إلى يوم الدين أن قيض له من أولي العلم والتهي من بذلوا جهودا مشكورة، وصفوا المصنفات، وألقوا المؤلفات في العلوم التي تتصل بهذا الكتاب الكريم وتشكل سياجًا منيعًا للحفاظ عليه، تلك التي عرفت بـ "علوم القرآن".
وإن العمل في رحاب هذا الكتاب الكريم لهو شرف ما بعده شرف، وإن خدمة هذا النور الإلهي والكتاب الرباني لهو من أجلّ ما يتشرف به الإنسان ويعتزّ به حيث شهد له من أنزل عليه هذا الكتاب صلوات الله وتسليماته عليه بالخيرية والأفضلية عندما قال: (خيركم من تعلم القرآن وعلمه) رواه البخاري.
وكان من توفيق الله ﷾ لأخي الدكتور الفاضل محمد الهلال أن شارك بهذا الجهد الطيب في هذا المضمار وهو أخ عرفته عن قرب من خلال الزيارات الشخصية المتبادلة ومن خلال العلاقة الأكاديمية التي تربطني به كوني عميد الدراسات الإسلامية في الجامعة التي نال منها شهادة الدكتوراه.
فأقول وقبل الكلام عن كتابة انه رجل وداعيه قمة في التواضع والأدب قد خلط بين العلم الشرعي والعلم الأكاديمي وخاصة الطب وبرع فيهما.
وقد وهب الرجل قسم كبير من حياته لخدمة كتاب الله تعالي تعلما وتعليما من خلال منابر المساجد وله في هذا المجال باع طويل، واختتم هذه المسيرة المباركة مع كتاب الله تعالي بعمل رائع أضاف من خلال كتابه في التفسير والذي يحمل عنوان:
"تفسير القران الثري الجامع في الاعجاز البياني واللغوي والعلمي"
والذي كنت اتشرف بأبداء بعض الملاحظات هنا وهناك حسب رغبة فضيلة الدكتور ومختصر القول بأن هذا التفسير إضافه جميلة لكتب التفسير بأسلوب سهل ميسر يفهمه الجميع وهو غني بالمسائل اللغوية والعلمية في قالب جذاب مراعيًا التقيد بكل ما هو ضروري لمن يكتب في هذا الفن والله أسال أن يبارك في الكتاب وصاحبة وأن ينفع به المسلمين. آمين وصلى الله على نور الدين محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
الأستاذ الدكتور عمر شاهين
مؤسس ورئيس اتحاد الأئمة بأمريكا الشمالية سابقًا
نائب رئيس جامعة مشكاة سابقًا
عميد برنامج الدراسات الإسلامية
فينکس اريزونا بتاريخ: ٢٥/ ٩ /
مقدمة / 3
[مقدمة المؤلف]
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصَّلاة والسَّلام على سيِّد المرسلين، وخاتم النبيِّين، ورحمة العالمين.
تبقى أسرارُ القرآن الكريم حبلَ الله ونورَه في السموات والأرض فوق كلِّ تفسير، وأكبرَ من أن يحيط بها علمٌ، أو يصل إلى حقيقتها عقل بشر، أو يعلم منتهاها إلا الذي أنزلها سبحانه؛ فقد حارت عقول علماء الفقه والتفسير، وعلماء اللغة والنحو والبيان، وعلماء الكون في عظمة كلام الله ﷿ وإعجازه.
فالكلُّ يُقرُّ ويعترف بأنهم مهما بلغوا من العلم في تفسير كتاب الله ﷿ ما بلغوا إلا قليلًا، ولم يدركوا من أسراره ومعانيه إلا يسيرًا، أو ما سواه إلا نقيرًا، أو فتيلًا، أو قطميرًا، أو حبةً من خردل، أو ذرَّة، أو دون ذلك، أو قطرة من بحر يمدُّه من بعده سبعة أبحر.
هذا الكتاب الذي نزَّله على عبده، ولم يجعل له عوجًا؛ ليكون للعالمين نذيرًا، ويبشِّر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرًا حسنًا.
والكلُّ يعلم أن هذا القرآن لا يزال يُفسَّر طوال (١٤) قرنًا، وفي كلِّ زمن تظهر بعض المعاني والأسرار الجديدة، وكما قيل: لا تنقضي عجائبه.
ولقد استغرقتُ أكثر من (٢٥) عامًا في كتابة هذا التفسير مستندًا إلى مصادر علمية موثوقة تطرَّق إليها الباحثون، وتفسير القرآن بالقرآن، والدراسات في علوم القرآن والأشباه والنظائر، والتفسير الموضوعي، وعلوم اللغة والبيان والنحو والبلاغة.
هذا التفسيرُ هو لوجه الله تعالى، لا أبتغي من ورائه درهمًا ولا مالًا ولا سمعةً، ولا شيئًا إلا رضوان الله تعالى، وإن شاء الله سوف يوزَّع مجانًا على أهل العلم.
وهذا التفسير يشمل عدَّة أجزاء، ومنهجه كما يلي:
١ - قسمتُ الآيات إلى وحدات، كل وحدة تمثِّل صفحة من القرآن بالرسم العثماني، يليها تفسير لتلك الوحدة.
٢ - ذكرُ أسباب نزول بعض الآيات التي تُعين على البيان.
٣ - محاولةُ تفسير كل حرف أو كلمة ومعانيها.
٤ - معرفةُ الفروق اللغوية بين الكلمات المتشابهة أو القريبة في المعنى.
٥ - معرفةُ أصل كثير من الكلمات التي تردَّدت في القرآن، وكيف اشتُقَّت.
٦ - مقارنةُ كثير من الآيات المتشابهة في السور المختلفة أو السورة الواحدة.
٧ - محاولةُ عدم تكرار التفسير والإشارة بالرجوع إلى الآيات الأخرى السابقة، أو اللاحقة.
٨ - محاولةُ تبيانِ جانبٍ من الإعجاز البياني واللُّغوي، والإعجاز العلمي في كثير من الآيات.
٩ - ذكرُ أكثر من معنى للآية إذا كانت تحتمل ذلك.
١٠ - ذكرُ المصادر التي استُخدمت في هذا التفسير في نهاية التفسير، ولم أذكرها تحت كلِّ آيةٍ، أو تفسيرٍ خوفًا من الإطالة، أو تشتُّت الأفكار، وليعلمَ كلُّ قارئ أَنِّي تجنَّبتُ أيَّ رأيٍ ضعيف، أو تفسير في شكٍّ.
١١ - وقد قمتُ بمقارنةٍ بين كثير من التفاسير المتعارف عليها، ووجدتها متشابهة في أكثر من (٨٠ - ٩٠%)، وكثيرٌ فيها لا يشفي طموح الناس، أو ما يخطر ببال القارئ أحيانًا؛ فحاولتُ الإجابة عليها قدرَ الإمكان، وما هداني إليه ربِّي، وأرجو منه القَبولَ، والحمدُ للهِ ربِّ العالمين.
المؤلِّف
الدكتور محمَّد الهلال
مقدمة / 4
سورة الفاتحة [١: ١]
سورة الفاتحة
ترتيبها في القرآن (١) وترتيبها في النزول (٥).
لها عدَّة أسماء منها الفاتحة؛ لأنّها فاتحة القرآن وتفتح بها الصّلوات، وأمّ الكتاب أو القرآن والسّبع المثاني «سبع آيات» تُثنَّى في كل ركعة؛ أي: تعاد قراءتها، وسورة الحمد، ولها أسماء أخرى، ترتيبها في القرآن «١»، وترتيبها في النّزول الخامسة.
قيل: نزل بها الوحي مرتين الأولى في مكة عندما فرضت الصّلاة، والثّانية في المدينة عندما حولت القبلة من المسجد الأقصى إلى المسجد الحرام.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. ارجع إلى سورة النحل آية (٩٨) للبيان، والآية (٣٦) من سورة البقرة.
﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾:
﴿بِسْمِ اللَّهِ﴾: الباء للإلصاق أو الملازمة.
والاسم: نوعان: جامد ومشتق، والجامد: الذي يدل على اسم ذات، أو اسم معنى.
والمشتق: ما أُخذ من غيره مثل عالم من علم، والأسماء المشتقة مثل: اسم الفاعل، واسم المفعول … وغيرها.
بسم الله: تكتب بغير ألف كما في هذه الآية، وقد تكتب بألف كما في قوله تعالى: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِى خَلَقَ﴾ [العلق: ١]، فلماذا تكتب بألف أو بدون ألف ذلك ليدلنا على أن رسم القرآن رسم توقيفي كما أنزله الله سبحانه لم يتغير ولن يتغير إلى قيام الساعة.
﴿اللَّهِ﴾: اسم العلم الدال على الذات الإلهية وهو الاسم الأعظم الذي تفرد به الإله المعبود، واجب الوجود، وكامل الصفات والنعوت، ليس كمثله شيء، والاسم الجامع لكل صفات الكمال الإلهية، وقد ذكر اسم الله -جل وعلا- في ألفين وستمئة وتسع وتسعين مرة في القرآن الكريم، كما ورد في المعجم المفهرس (٢٦٩٩).
ومن معاني بسم الله: أي: أقرأ مستعينًا بالله.
وأبدأ بالذي سخَّر لي هذا.
وأقبلت يا رب على قراءتي لا بقوتي ولا باقتداري، ولكن بقوَّتك وقدرتك.
وحين تقول: بسم الله، كأنك تدعوه باسمه الذي يشمل (٩٩) صفة منها العليم الحكيم القوي الخبير العزيز الرحيم العلي الكبير القدير …
وقد تكرَّرت هذه الآية (١١٣) مرة في القرآن في بداية كل سورة، إلَّا سورة التوبة. وذكرت في سورة النمل آية (٣٠).
﴿الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾. يأتي تفسيرها في الآية (٣) من سورة الفاتحة.
والسؤال هنا: هل البسملة آية من الفاتحة أم لا؟ اختلف الفقهاء في هذه المسألة، وحكم قراءة البسملة في الصلاة.
1 / 1
سورة الفاتحة [١: ٢]
﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾:
﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ﴾: الحمد هو الثناء الكامل المطلق باللسان أو بالقلب لله سبحانه على إحسانه وفضله وكرمه وعطائه؛ حمد إجلال وتكبير على صفاته الذاتية.
والحمد لا يكون إلَّا لله تعالى وحده، ويتضمن الشكر، والحمد لله تعالى يشمل حمد الألوهية وحمد الربوبية.
فحمد الألوهية: لكونه -جل وعلا- الإله الحق الذي يستوجب الحمد.
فالله سبحانه يستحق الحمد لذاته وصفاته وأفعاله وأسمائه؛ ولأنّه لم يتخذ ولدًا ولم يكن له شريك في الملك ولم يكن له ولي من الذّل، حمدًا لوجوده وعدله وحكمه وقضائه وعلمه وحكمته.
وأمّا حمد الرّبوبية: فلأنّه هو المتكفل بخلق المخلوقات والموجودات وإنشائها القائم على هدايتها وإصلاحها، وكذلك هو الرّزاق والمربي والحفيظ والولي والنّاصر، نحمده على نعمة الإيجاد ونعمة الإمداد ونعمة التّبليغ والتّكليف ونعمة التسخير ونعمه الأخرى، والّتي لا تعد ولا تحصى.
أليس هو الّذي سخَّر لنا ما في السّموات وما في الأرض وأسبغ علينا نعمهُ ظاهرة وباطنة وأنعم علينا بنعمة الإيمان والإسلام وبنعمة القرآن، وأرسل إلينا خاتم رسله ﷺ.
أليس ذلك يستوجب الحمد؟ نحمده حمدًا طيبًا مباركًا يليق بعظمته وجلاله، والحمد للعطاء وللمنع فالمنع في حد ذاته عطاء فالحمد لله في السّراء والضّراء وإذا أعطى أو إذا منع.
الحمد لله، قيل: أصله أحمد الله حمدًا أو حمدت الله حمدًا، ثم أولًا: حذف الفعل أحمد أو حمدت اكتفاء بدلالة مصدره عليه وهو الحمد، وثانيًا: عدل إلى الرّفع لقصد الدّلالة على الثّبوت والدّوام حمدٌ لله؛ أي: حمدٌ ثابت مستمر منذ الأزل إلى الأبد فهو المحمود قبل حمد الحامدين وهو الغني عن حمد الحامدين الأولين والآخرين.
وثالثًا: جاء بأل التّعريف لتدل على كمال الحمد المصحوب بالعبودية له وحده والإخلاص والحب والتّعظيم والحمد لله مطلقة لا تختص بفاعل معين أو زمن معين، كما لو قال: أحمد الله أو حمدًا لله، فهذه تدل على فاعل وزمن معين.
والحمدُ لله جملة اسمية تدل على الثّبات، واستمرار الحمد، بحيث لا ينقطع ليلًا ونهارًا، كما لو قال: الحمدَ لله جملة فعلية تدل على التّجدد والتّكرار، والجملة الاسمية أقوى وآكد من الفعلية والحمد أعم من الشّكر فالحمد لا يكون إلَّا لله وحده، وأمّا الشّكر فقد يقال لمن أسدى إليك معروفًا. ويكون باللسان والجوارح (بالطاعة).
﴿لِلَّهِ﴾: اللام في لفظ الجلالة لام الاختصاص والاستحقاق، الله: هو الاسم الأعظم الّذي خص الله به بنفسه وقدَّمه على كل أسمائه الأخرى فهو علم على ذاته العلية، وعلى أنّه الإله الحق واجب الوجود والإله المعبود. وهو الاسم الجامع لكل الصفات الإلهية واسم الجلالة لا يشاركه فيه غيره لا يُثنى ولا يجمع.
﴿رَبِّ﴾: نعت للفظ الجلالة (الله) أو بدل، اسم الله الدال على كونه الخلاق الرّزاق والمربي لعباده والمالك والسيد والمدبر والمحي والمميت والقيوم على شؤون خلقه تدبيرًا وتصريفًا.
﴿الْعَالَمِينَ﴾: جمع عالم، العالم اسم جنس تشمل كل العوالم عالم الجن والإنس والملائكة والحيوان والنّبات والجماد والذّر وغيرها، وغلب العقلاء على غيرهم فقال العالمين، وهناك من يطلق على المخلوقات غير العاقلة عوالم.
الحمد لله؛ لأنّه رب العالمين يعطي الكل المؤمن والكافر والمطيع والعاصي من عطاء الرّبوبية يعطي كل مخلوق هدايته وحاجته ومعاشه وما يصلحه.
1 / 2
سورة الفاتحة [١: ٣]
﴿الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾:
قابل سبحانه الحمد والثّناء له؛ لأنّه الرّحمن الرّحيم.
﴿الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾: اسمان من أسمائه مشتقان من الرّحمة ويجريان مجرى الصفة.
فالرحمن: صيغة مبالغة من الرّحمة كثرة الرّحمة على وزن فعلان الّتي تدل على التّجدد والتّكرار والرّحمن هو من عمَّت رحمته جميع المخلوقات في الدّنيا المؤمن والكافر والمطيع والعاصي فهو رحمن الدّنيا.
هذه الرّحمة الّتي تتضمن الإيجاد والرزق والهداية والإنعام والإحسان.
الرّحيم: صيغة مبالغة من الرّحمة على وزن فعيل الّتي تدل على الثّبوت أي: دائم ثابت الرّحمة الرّحيم بعباده المؤمنين في الدّنيا والآخرة رحمة خاصة فالرّحمن صفة عامة تشمل كل مخلوق والرّحيم صفة خاصة للمؤمنين.
فكون الرّحمن الرّحيم فهو جمع الصّفتين معًا؛ أي: رحمة ثابتة دائمة لا تنقطع، وكذلك تتجدد وتتكرر لعباده لمن هو في حاجة إليها ويطلبها منه، وقدم الرحمن على الرحيم قدم العام (الرحمن) على الخاص (الرحيم).
1 / 3
سورة الفاتحة [١: ٤]
﴿مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾:
لها قراءتان مالك يوم الدّين، وملك يوم الدّين، والقراءتان صحيحتان.
﴿مَالِكِ﴾: أو ملك: أي الحاكم وحده يوم الدّين؛ أي: يوم الحساب والجزاء فيكافئ ويجازي كلًّا على عمله، وملك أي: صاحب الملك من التّملك فهو مالك وملِك السّموات والأرض وما فيهن ومالك وملك كل الأشياء والأوقات والزّمان والأيام بما فيها يوم الدّين.
﴿يَوْمِ الدِّينِ﴾: أي: يوم الحساب والجزاء والدِّين له معان كثيرة أيضًا منها الطّاعة والشّريعة والخضوع والقهر. والدِّين في اللغة: الجزاء: أي: يوم الجزاء والثواب.
فيوم الدِّين: أعمُّ وأشمل من يوم القيامة ومن يملك يوم الدّين، يعني: يملك ما يجري فيه من الأحداث ويملك الزّمان، وبما أنّه يوم الجزاء والجزاء لا ينتهي، ويمتد إلى الآخرة ليشمل الخلود في الجنة أو في النّار.
1 / 4
سورة الفاتحة [١: ٥]
﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾:
﴿إِيَّاكَ﴾: ضمير فصل وتقديم إياك على نعبد يفيد الحصر والاختصاص أي: لا نعبد إلَّا أنت.
﴿نَعْبُدُ﴾: العبادة هي طاعة العابد للمعبود فيما أمر أو نهى والعبادة لا تكون إلَّا للخالق وتعني الخضوع ولها جزاء، ولا تكون إلَّا مع المعرفة بالمعبود. ارجع إلى سورة النحل الآية (٧٣) لمزيد من البيان في معنى العبادة.
﴿وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾: أي: لا نستعين إلَّا بك وحدك، نستعين نطلب العون للوصول إلى الغاية، نستعين بك في كل حركة وقول وفعل كل أمر وكل شيء في العبادة والطّاعة والرّزق والهم والغم والعجز والكسل، وفي كل أمر من أمور الدّنيا والآخرة.
وتكرار إياك للتوكيد وفصل كلًا من العبادة عن الاستعانة فقد نعبد الله، ولا نطلب منه الاستعانة أو نستعينه ولا نعبده، ولذلك لم يقل: إياك نعبد ونستعين كيلا تصبح العبادة مشروطة بالاستعانة أو الاستعانة مشروطة بالعبادة، وإياك نعبد تدل على حق الرّب، وإياك نستعين تدل على حق العبد.
وقوله: نعبد: لم يحدد نوع العبادة، بل أطلقها لتشمل كل أنواع العبادات.
وقوله: نستعين: لم يحدِّد نوع الاستعانة وأطلقها لتشمل كل أنواع الاستعانة المادية والمعنوية، الدنيوية والأخروية، وقرن العبادة بالاستعانة؛ لأن العبد يحتاج إلى الاستعانة بالله لكي يقوم بالعبادة، ولولا عون الله تعالى ما استطاع العبد أن يعمل شيئًا.
ولم يقل: إياك أعبد وإياك أستعين بصيغة الإفراد، وإنما جاءت بصيغة الجمع إشارة إلى أفضلية الدّعاء بصيغة الجمع بدلًا من الدّعاء أو الاستعانة بصيغة الإفراد أو صلاة الفرد، وقدَّم العبادة على الاستعانة؛ لأنّ العبادة فرض وحق الله تعالى على العبد، والاستعانة ليست فرض وإنما طلب وحق للعبد فقدَّم حق الله على حق العبد والعبادة هي الغاية الأولى لخلق الإنس والجن والاستعانة وسيلة، كما قال تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ [الذاريات: ٥٦].
وملاحظة أخرى: مطلع الآيات في الفاتحة جاءت بصيغة الغائب، ثم تحولت إلى صيغة المخاطب بدءًا من قوله: إياك نعبد وإياك نستعين والسّر في ذلك أنّ الثّناء في حالة الغيبة أولى وأفضل والدّعاء في حالة الحضور «المخاطب» أولى وأفضل.
إياك نعبد تدل على الخضوع والتّواضع فهي دواء للكبر، وإياك نستعين دواء للضعف والعجز، واهدنا الصّراط المستقيم دواء للجهل.
1 / 5
سورة الفاتحة [١: ٦]
﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾:
﴿اهْدِنَا﴾: دعاء يتكرر سبع عشرة مرة في اليوم في صلاة الفرض فقط فما بالك أيضًا بصلاة السنة وغيرها من الصلوات؛ الهداية: تعني الدلالة والإرشاد والتوفيق والإلهام وتعني أيضًا: وفقنا للاستقامة على الصراط المستقيم، وأقمنا على ذلك، وتكرار هذا الدعاء يدل على أهمية المطلوب، ويدل على أن الإنسان بحاجة إلى هداية ربه مهما بلغ من العلم والإيمان؛ لأنه ليس معصوم من الزلل.
واهدنا: بصيغة المخاطب أو الخطاب المباشر من العبد إلى ربه، والدعاء بصيغة الخطاب أولى وأقوى من الدعاء بصيغة الغائب، واهدنا بصيغة الجمع مقارنة بالقول اهدني الصراط المستقيم، والدعاء بصيغة الجمع أفضل من الدعاء بصيغة الإفراد حيث ندعو للمؤمنين كما ندعو لأنفسنا.
﴿الصِّرَاطَ﴾: هو الطّريق الواسع، أوسع الطرق أو السبل، المستقيم: الذي لا عوج فيه وبذلك يكون الأقصر والأسهل وأسلم الطّرق الموصلة إلى الغاية وهي رضوان الله تعالى والجنة، فالصراط ليس هو الغاية وإنما هو الوسيلة الموصلة للغاية.
والصراط: أفضل من السبيل أو الطريق، والصراط: في هذه الآية جاءت معرفة بأل التعريف التي تدل على الكمال، وتعني: البين الواضح وفي الآية (٧) في نفس السورة قال تعالى: ﴿صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ﴾ جاءت كلمة صراط مضافة ومعرفة بصراط الذين أنعمت عليهم، والصراط المستقيم: هو نفسه صراط الذين أنعم الله عليهم من النبين والصديقين والشهداء والصالحين.
﴿الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾: أي: دين الإسلام الدّين الحق الدّين القيم الموصل إلى الغاية بأقصر السّبل وأيسرها وأسلمها.
قال سبحانه: ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾ ولم يقل: اهدنا إلى الصّراط المستقيم أو اهدنا للصراط المستقيم.
﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾: أي: هم على الصّراط المستقيم الآن ويسألونه الهداية للسير فيه وتعريفهم عليه والثّبات والاستقامة والاستمرار للوصول إلى النّهاية والغاية.
أما اهدنا إلى الصّراط المستقيم: تعني هم خارج الصّراط الآن أو بعدين عنه، ولا يعرفونه ويسألونه لدلالة والمعرفة لكي يسلكوا الصّراط المستقيم.
وأما اهدنا للصراط المستقيم: تعني هم وصلوا إلى النّهاية والغاية أو أتموا السّير على الصّراط كالأنبياء والصّديقين والشّهداء والصّالحين الّذين سبقونا.
1 / 6
سورة الفاتحة [١: ٧]
﴿صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ﴾:
﴿صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ﴾: أي: اهدنا صراط الذين عرفوا الحق وعملوا به من النّبيين والصّديقين والشّهداء والصّالحين الذّين أنعمت عليهم بالهداية والإيمان والاستقامة على الصّراط المستقيم حتّى وصلوا إلى الغاية والنّهاية، وهي رضوان الله عليهم ﴿رَّضِىَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ﴾ [التوبة: ١٠٠]، وأنعمت عليهم تشمل: الأولين والذين جاءوا من بعدهم؛ أي: صراط الذين أنعمت عليهم من الأولين والأخرين وأنعمت تحمل معنى كثرة: الذين أنعمت عليهم بمرور الزمن.
﴿غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ﴾: غير تفيد المغايرة ذاتًا وصفة. المغضوب عليهم: أهل المعصية من اليهود والمنافقين والمشركين والكافرين (كما قال الفخر الرازي).
ولم يقل: غير صراط المغضوب عليهم لكفرهم وإفسادهم في الأرض وصدهم عن سبيل الله كثيرًا ومنهم اليهود وغيرهم.
والمغضوب عليهم: جاء باسم المفعول بدلًا من اسم الفاعل غاضب؛ أي: (الغاضب عليهم)، ليجعل الجملة اسمية تدل على ثبوت كفرهم ودوامه والواقع عليهم من غضب الله من كل الجهات من الله ومن الملائكة ومن النّاس أجمعين.
وغضب الله يعني: الطّرد والبعد عن رحمة الله ورضوانه.
﴿وَلَا الضَّالِّينَ﴾: الواو عاطفة، لا: لتوكيد النّفي وفصل كلًا من المغضوب عليهم عن الضّالين أهل الجهل وكالنّصارى وغيرهم الّذين زعموا أنّ المسيح ابن الله أو ثالث ثلاثة، والضّالين: جمع ضال وتعني عن طريق الهدى والصراط المستقيم والضّالين تشمل كل ضال في العقيدة والمنهج نتيجة فساد العلم والضّالين جملة اسمية تدل على الثّبوت واستمرار ضلالهم. ارجع إلى الآية (١٩٨) من نفس السورة لمزيد من البيان في معنى الضالين.
وقدَّم المغضوب عليهم على الضّالين لأن المغضوب عليهم جاءوا قبل الضالين ولكونهم أشد ضلالًا وجرمًا وعقوبة؛ لأنّهم عرفوا الحق وعدلوا عنه، وأما الضالين جهلوا الحق ولم يعرفوه.
1 / 7
سورة البقرة [٢: ١]
سورة البقرة
ترتيبها في القرآن السورة الثانية، وترتيبها في النّزول (٨٧)
﴿الم﴾:
بالنسبة للحروف المقطعة، في أوائل السور، يجب أنّ نعلم الحقائق التالية:
هناك (٢٩) سورة في القرآن، بدأت بهذه الحروف المقطعة، وسمِّيت مقطعة؛ لأنَّ كل حرف ينطق بمفرده، مثل: ألف، لام، ميم، والحروف المقطعة عددها (١٤) حرفًا، من حروف الهجاء الـ (٢٩).
هي: الألف، واللام، والميم، والصاد، والراء، والكاف، والهاء، والياء، والعين، والطاء، والسين، والحاء، والقاف، والنون.
إذا نظرت إلى هذه الأربعة عشر حرفًا، وجدتها مشتملة على أنصاف أجناس الحروف، يعني ذلك، فيها من المهموسة نصفها: الصاد، والكاف، والهاء، والسين، والحاء، ومن المجهورة نصفها الألف، واللام، والميم، والراء، والعين، والطاء، والقاف، والياء، والنون.
ومن الشديدة نصفها: الألف، والكاف، والطاء، والقاف، ومن الرخوة نصفها: اللام، والميم، والراء، والصاد، والهاء، والعين، والسين، والحاء، والياء، والنون، ومن المطبقة؛ نصفها: الصاد، والطاء، ومن المنفتحة نصفها: الألف، واللام، والميم، والراء، والكاف، والهاء، والعين، والسين، والحاء، والقاف، والياء، والنون.
ومن المستعلية نصفها: القاف، والصاد، والطاء، ومن المنخفضة نصفها: الألف، واللام، والميم، والراء، والكاف، والهاء، والياء، والعين، والسين، والحاء، والنون، ومن حروف القلقلة نصفها: القاف، والطاء.
بعض هذه الحروف؛ وردت كآية، مثل: ﴿الم ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ﴾: [البقرة: ١]. وبعضها، ورد كجزء من آية، مثل ﴿المر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَالَّذِى أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ﴾ [الرعد: ١].
تجمع هذه الحروف الأربعة عشر جملة: نصٌّ حكيمٌ قاطعٌ له سر، أو نصٌّ حكيم له سرٌّ قاطع. وهذه السور الـ (٢٩)، بدأت إما بحرف، مثل: ن، ص، ق، وإما بحرفين: مثل: حم، يس، طس؛ وإما بثلاثة أحرف كما في سورة يونس وهود ويوسف وإبراهيم.
ومثل الم، (سورة البقرة، آل عمران، العنكبوت، الروم، السجدة، لقمان).
وإما بأربعة أحرف: المص (سورة الأعراف)، والمر (سورة الرعد).
وإما بخمسة أحرف: كهيعص (سورة مريم)، حم، عسق (سورة الشورى).
وتقرأ هذه الحروف بالوقف، فلا تقول: ألم، كما في ﴿أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ﴾، بل نقول: ألف لام ميم.
عجز المفسرون والعلماء في معرفة معناها، ولم يتطرق رسول الله ﷺ، ولا الصّحابة الكرام إلى السّؤال عن معناها، ولا يعلمها إلَّا الله وحده سبحانه.
ونلاحظ أنه إذا بدأت بحرف أو حرفين، مثل: ق أو ص، جاء بعدها ذكر القرآن؛ ﴿ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ﴾، ﴿ص وَالْقُرْآنِ ذِى الذِّكْرِ﴾، وبحرفين مثل يس، طه: ﴿يس وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ﴾، ﴿طه مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ﴾، ﴿حم وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ﴾ (كما في سورة الزخرف والدخان).
وإذا بدأت بثلاثة أحرف أو أكثر، يأتي بعدها ذكر الكتاب؛ أمثلة:
﴿الم ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ﴾.
﴿الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ﴾.
المر (أربعة أحرف)، تلك آيات الكتاب، والذي أنزل إليك، ونلاحظ سبع سور، بدأت حم تلاها ذكر الكتاب، وأما سورة الشورى؛ حم عسق، لم يذكر بعدها الكتاب، ونلاحظ ذكرت كلمة (الكتاب) في (٢٠) سورة من (٢٩) سورة، الّتي ذكرت فيها الأحرف المقطعة. بينما ذكرت كلمة القرآن في (٦) سور، وفي سورتين ذكر (القرآن والكتاب) معًا في سورتي الحجر، والنمل.
أما ما قيل بخصوص هذه الأحرف المتقطعة:
١ - إنها نزلت لإثبات عربية القرآن، وإن القرآن نزل بلغة العرب.
فالحروف: الم، ق، ص، وغيرها؛ هي حروف عربية، فهي نزلت لإثبات عربية القرآن.
٢ - قيل: هذه الحروف المقطعة؛ نزلت لتحدي العرب؛ فالقرآن يتألف من هذه الأحرف، الّتي تتعلمون بها، فائتوا بمثل هذا القرآن أو الآيات.
٣ - قيل: هذه الحروف، تثبت أنّ القرآن منزل من عند الله سبحانه، وليس من عند الرسول؛ فلو كانت من عند الرسول ﷺ، لفسَّرها لنا؛ إذ لا الرسول ﷺ ولا الصّحابة، سألوا عن معناها.
٤ - هذه الحروف نزلت، ليتعبد الله سبحانه بها وحده، فهو أنزلها، ثم نقرؤها: ألف لام ميم، فنثاب ٣٠ حسنة، فنعبد الله سبحانه بها، وإن كنا لا ندري ما معناها، ولا الحكمة منها، فإننا نقول: سمعنا وأطعنا، ونؤمن بها، ونقول: ﴿كُلٌّ مِّنْ عِنْدِ رَبِّنَا﴾، ولا نقول: ﴿نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ﴾.
٥ - حروف استأثر الله سبحانه بعلمها، فهي من المتشابه، الذي لا يعلمه إلَّا الله -جل وعلا- .
٦ - قيل هي حروف، لها دلالة على أسماء الله الحسنى، وصفاته.
٧ - حروف، أقسم الله ﵎ بها.
٨ - قد يكون لها علاقة بسمات التعبير في السور.
1 / 8
سورة البقرة [٢: ٢]
﴿ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ﴾:
﴿ذَلِكَ﴾: ذا؛ اسم إشارة، واللام؛ للبعد، والكاف؛ للخطاب.
اسم إشارة؛ يُشير إلى بعد منزلة الكتاب، وعلو شأنه.
﴿ذَلِكَ الْكِتَابُ﴾: أي: القرآن المكتوب في اللوح المحفوظ، والكتاب هو جزء من المكتوب في اللوح المحفوظ، ويسمى الكتاب؛ لكونه مكتوبًا في السطور، وفي اللوح المحفوظ، والكتاب؛ يسمى القرآن؛ لكونه مقروءًا، ومن القراءة، ولكي يقرأ، يجب أن يكون قريبًا، ولذلك نجد أنه يستعمل مع كلمة القرآن اسم الإشارة هذا؛ الذي يدل على القرب، في ١٥ آية في القرآن.
كقوله تعالى: ﴿إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِى لِلَّتِى هِىَ أَقْوَمُ﴾ [الإسراء: ٩].
﴿وَأُوحِىَ إِلَىَّ هَذَا الْقُرْآنُ﴾ [الأنعام: ١٩].
﴿وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى﴾ [يونس: ٣٧].
﴿ذَلِكَ الْكِتَابُ﴾: جاء بأل التعريف؛ للدلالة على الكمال؛ أي: الكتاب الكامل، التام. وقد تعني كلمة الكتاب: أحيانًا التّوراة، والإنجيل، والزبور؛ أي: الكتب السماوية الأخرى، كقوله سبحانه: ﴿وَالْكِتَابِ الَّذِى نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِى أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ﴾ [النّساء: ١٣٦].
وكلمة الكتاب؛ لها معان أخرى، سنراها في آيات أخرى، وله أسماء كثيرة؛ منها: الفرقان، الروح، الذكر، النور، البرهان، موعظة وشفاء، بصائر.
﴿لَا رَيْبَ فِيهِ﴾: لا: النّافية للجنس، تنفي كل الأزمنة؛ الماضي والحاضر، والمستقبل، تنفي عن القرآن الريب، في الماضي، والحاضر، والمستقبل.
والريب: مصدر راب، يريب، وجاءت نكرة، (ولم يقل الريب) لتشمل نفي كل أنواع الريب، والقليل، والكثير.
وتعريف الريب؛ هو الشك، مع التهمة، والشك؛ تعريفه هو تساوي طرفي النفي، والإثبات، والريب أعم من الشك، فالكفار، والمشركون، كانوا يشكون في القرآن، أنه منزل من عند الله.
وكانوا يتَّهمون رسول الله ﷺ، بأنه افتراه، أو أنه إفك، وأساطير الأولين، اكتتبها، فهي تملى عليه بكرة وأصيلًا.
وانتبه إلى تقديم كلمة الريب على كلمة فيه، للدلالة على التّوكيد، توكيد النفي، نفي الريب عن القرآن، وكذلك نفي الريب، عن سائر الكتب السماوية الأخرى، كونها منزلة من عند الله -جل وعلا- .
﴿هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ﴾: أي: مصدر هداية، أو هو الهدى، والهادي للحق، والهادي إلى الصّراط المستقيم، والغاية، وهي السعادة، والكمال في الدارين.
﴿لِّلْمُتَّقِينَ﴾: اللام في المتقين، لام الاختصاص، والمتقين؛ جمع متق، والمتقي اسم فاعل، من اتقى. والتقوى: هي طاعة أوامر الله وتجنب نواهيه الّتي تقي من النار. ومن سخطه وغضبه.
وكما هو هدى للمتقين، هو هدى للناس، وللمسلمين، وللمؤمنين، وللمحسنين، فهو هدى للجميع، والكل بحاجة إلى هذا، كما قال تعالى في سورة البقرة آية ١٨٥: ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِى أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ﴾، وفي سورة النحل آية ١٠٢: ﴿قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ﴾.
وفي سورة النمل الآية (٢): ﴿هُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ﴾.
وفي سورة لقمان الآية (٣): ﴿هُدًى وَرَحْمَةً لِّلْمُحْسِنِينَ﴾.
وهل المتقون بحاجة إلى هداية؟
الجواب: نعم. كي يرتقوا لدرجة الإحسان، ومن بعدها لدرجة إسلام الوجه، كقوله سبحانه: ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِّمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ﴾ [النّساء: ١٢٥]، ﴿وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى﴾ [مريم: ٧٦].
﴿هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ﴾: أي: ما جاء به، من أحكام، وتعاليم، وأوامر، ونواهٍ، وقصص، ومواعظ وأمثلة، ووعد، ووعيد، وحلال، وحرام كلها هدى للمتقين، ولهؤلاء المتقين ست صفات:
1 / 9
سورة البقرة [٢: ٣]
﴿الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ﴾:
الصفة الأولى؛ الإيمان بالغيب.
﴿الَّذِينَ﴾: اسم موصول.
﴿يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ﴾: يصدقون ﴿بِالْغَيْبِ﴾، والباء للإلصاق، والمصاحبة، والتصديق يكون بالقلب، واللسان، والجوارح.
﴿يُؤْمِنُونَ﴾: جاء بصيغة المضارع؛ ليدل على التجدد، والتكرار، والاستمرار في إيمانهم.
وقمة الإيمان بالغيب؛ الإيمان بالله تعالى، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وقدره؛ خيره، وشره.
﴿بِالْغَيْبِ﴾: الغيب؛ تعريفه: ما غاب عن العباد، واستتر؛ أي: ما غاب عن العيون، مثل الجنة، والنار، والملائكة، واليوم الآخر، وحياة البرزخ وعذاب القبر والبعث والحشر والحساب والموازين والصراط، وكل ما أخبر الله تعالى به رسله من علم الغيب.
وجمعه غيوب. والغيب نوعان: المطلق، وهو ما غاب عن كل العباد، والذي ينفرد به الله سبحانه، والغيب النسبي: هو الذي أطلع الله تعالى رسله عليه، والاكتشافات العلمية، لا يطلق عليها غيب.
﴿وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ﴾: هذه؛ هي الصفة الثانية.
﴿وَيُقِيمُونَ﴾: الواو؛ عاطفة، ﴿الصَّلَاةَ﴾؛ أي: الصلوات الخمس، ﴿وَيُقِيمُونَ﴾ من أقام العود، إذا قومه، إذا أزال عوجه؛ أي: إتمام فعلها على الوجه المأمور به في القرآن والسنة.
والمحافظة على مواقيتها، ووضوئها، وأركانها، وسننها، وآدابها، وخشوعها، والدوام عليها، كما قال تعالى: ﴿الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ﴾ [المعارج: ٢٣].
﴿وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ﴾ [المؤمنون: ٩].
والصلاة؛ اسم جنس لفعل (صلَّى) الرباعي، والألف في الصلاة، منقلبة عن واو (صلوة)، وجمع صلاة صلوات.
وجيء بصيغة الفعل المضارع ﴿وَيُقِيمُونَ﴾؛ للدلالة على التجدد، والاستمرار؛ خمس مرات في اليوم.
﴿وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ﴾: هذه هي الصفة الثالثة ﴿يُنْفِقُونَ﴾، من أنفق على وزن أفعل، والنفقة هي إخراج المال من المُلك.
﴿وَمِمَّا﴾: من ابتدائيه ومن البعضية، وما اسم موصول، بمعنى الذي، (وما) أوسع شمولًا من الذي ﴿يُنْفِقُونَ﴾، من بعض أموالهم، ولم يبين في هذه الآية المقدار، أو أوجه الإنفاق.
﴿يُنْفِقُونَ﴾: تشمل: الصدقات، والزكاة، وسائر النفقات، الواجبة شرعًا، وجاء بصيغة المضارع؛ لتجدد، وتكرر الإنفاق، وفي آية أخرى، ﴿وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ﴾ [التوبة: ٧١]، والفرق بين هاتين الآيتين: ﴿وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ﴾: أوسع وأعم من آية الزكاة، ﴿وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ﴾، فالزكاة تنطوي تحت مما رزقناهم ينفقون.
الرزق: هو كل ما ينتفع به، وليس حرامًا ولا يكون الرزق إلّا حلالًا، وقدَّم ﴿وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ﴾ على ﴿يُنْفِقُونَ﴾، تقديم المفعول على الفاعل للاهتمام والتوكيد على أنه من رزق الله والرزق لا يقتصر على المال، كما يظن البعض، بل يشمل العلم، والصحة، والأولاد، والطعام. وغيرها.
1 / 10
سورة البقرة [٢: ٤]
﴿وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ﴾:
﴿وَالَّذِينَ﴾: الواو عاطفة، الذين: اسم موصول، وتكرار الّذين للتوكيد وفصل كل صفة عن الأخرى.
﴿يُؤْمِنُونَ﴾: يصدقون، و﴿يُؤْمِنُونَ﴾ من الإيمان؛ وهو التصديق الجازم، في القلب، والإقرار باللسان، والعمل بالأركان، وما أقره الشرع.
﴿بِمَا﴾: الباء للإلصاق، للاهتمام، والتعظيم؛ ما: اسم موصول، بمعنى الذي أنزل إليك؛ أي: القرآن الكريم. أو الوحي.
وآمن به؛ تصديق عقدي، إيمان عقيدة، مثل: الإيمان بالله، وبالملائكة، والكتب، والرسل، وأمن له: أي: صدقه سواء أكان قولًا أم عملًا. وتأتي في سياق التصديق بالرسل…
الفرق بين أنزل ونزل:
١ - أنزل تعني: جملة واحدة، أو مرة واحدة. من اللوح المحفوظ إلى السماء الدّنيا، ونزل تعني: منجمًا على دفعات خلال ٢٣ سنة.
٢ - أنزل إليك أو عليك منسوبة إلى الله ﷿ . بينما نزل إليك أو عليك قد تنسب إلى جبريل ﵇ أيضًا.
٣ - أنزل أقل قوةً وتأكيدًا من نزل. أي: نزل تستخدم في مواطن الاهتمام والتوكيد والشدة، وأنزل تستخدم في سياق الأمور الأقل توكيدًا وشدة واهتمامًا.
٤ - وأنزل تأتي في سياق العام، ونزل فيما هو خاص.
أما الفرق بين إليك وعليك: إليك تفيد معنى النهاية والغاية، وتأتي في سياق التبليغ أي: أنزل إليك لينتهي إلى النّاس أي: يصل أو لتبلغه للناس.
عليك تفيد العلوية والمشقة وفي الشؤون الخاصة بالرسول أو العامة.
﴿وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ﴾: وما اسم موصول، بمعنى الذي أنزل من قبلك، من الكتب السماوية، كالتوراة والإنجيل، والزبور.
وتكرار ما أنزل لفصل الإيمان بالقرآن عن الإيمان بالكتب السماوية الأخرى، فهناك من يؤمن بالقرآن، ولا يؤمن بالكتب الأخرى، أو يؤمن بالكتب الأخرى، ولا يؤمن بالقرآن، أو لا يؤمن بكلا النوعين: فمن صفات المتقين: الإيمان بالقرآن، والإيمان بالكتب الأخرى، مثل التّوراة، والإنجيل، والزبور، فلا يؤمنون ببعض، ويكفرون ببعض.
﴿وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ﴾: الباء للإلصاق، (والمصاحبة)، ﴿وَبِالْآخِرَةِ﴾: سمِّيت بالآخرة؛ لأنّ الدّنيا تسبقها، وتسمى بالأولى. أو العاجلة.
﴿هُمْ﴾ ضمير منفصل، يفيد التّوكيد؛ أي: هم أهل اليقين حقًا وغيرهم أدنى درجة منهم.
﴿يُوقِنُونَ﴾: من اليقين؛ واليقين في اللغة يعني: التحقيق والثبات والطمأنينة، وفي الشرع يعني: العلم بالحق، الذي لا يتغير ولا يتبدل والمزيل للشك والرياء مصدق به في عالم الواقع ومصدق به بالقلب بحيث لا يحتاج إلى التفكير به من جديد ليناقش أو يدرس، وله مراحل المرحلة الأولى علم اليقين والثانية عين اليقين والثالثة حق اليقين، ويوقنون جاءت بصيغة المضارع الدالة على التجدد والاستمرار، وقد ترد بصيغة اسم الفاعل الموقنون أو يرد بلفظ اليقين.
وفي هذه الآية؛ نرى تقديم الآخرة على هم، بدلًا من: وهم بالآخرة يوقنون؛ لأنّ الإيمان بالآخرة؛ من أصعب الأمور، والتقديم للاهتمام، وللتوكيد، حتّى يدرك الّذين آمنوا أنّ إيمانهم غير مقبول، حتّى يؤمنوا بالآخرة، واليوم الآخر.
وفي سورة لقمان آية ٤: ﴿وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ﴾؛ ولمعرفة الفرق، ارجع إلى سورة لقمان.
1 / 11
سورة البقرة [٢: ٥]
﴿أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَّبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾:
﴿أُولَئِكَ﴾: اسم إشارة، واللام للبعد، يشير إلى المتقين.
﴿عَلَى هُدًى مِنْ رَّبِّهِمْ﴾: على تفيد الاستعلاء، والدلالة على ثباتهم، على الهدى، وتمكنهم منه.
﴿هُدًى﴾: نكرة؛ تشمل كل أنواع الهدى؛ أي: كأنهم ركبوا على مركب الهدى، واستقروا على ظهره، وثبتوا عليه، وهو يجري بهم ليبلغوا غايتهم. ففي سياق الهدى يستعمل على، وفي سياق الضّلال تستعمل كلمة في ضلال مبين؛ لأنّ الضال هو ساقط في الضلالة، والمهتدي هو ثابت ومستعلٍ على طريق الهدى.
﴿أُولَئِكَ﴾: تكرار اسم الإشارة ﴿أُولَئِكَ﴾؛ يفيد التعظيم، ويشير إلى علو منزلتهم. والتوكيد.
﴿هُمُ﴾: ضمير منفصل، يفيد التّوكيد. أي: هم في أوائل المفلحين أو كأنهم هم وحدهم المفلحون حقًا.
﴿الْمُفْلِحُونَ﴾: جمع مفلح، ومفلح اسم فاعل، من الفعل (أفلح).
والفلاح؛ هو نيل الخير، والنفع الباقي أثره، وأصل الفلاح البقاء، والفوز، والظفر، وإدراك ما يتمناه العبد، وهو الفوز بالجنة، والنجاة من النار، ومشتقة من الفلْح؛ بسكون اللام، وهو الشق والقطع، ومنها: فلاحة الأرض؛ أي: حرثها، وبذرها، كي تأتي بالخير الوافر. وقيل: الفلاح هو السلامة من المرهوب والظفر بالمرغوب فالمفلحون؛ هم: الفائزون بالجنة، والناجون من النار.
والمفلحون: جملة اسمية تفيد الثبوت أي: صفة الفلاح أصبحت صفة ثابتة عندهم.
1 / 12
سورة البقرة [٢: ٦]
﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ ءَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ﴾:
بعد ذكر المتقين، وذكر بعض صفاتهم باختصار، يأتي على ذكر الذين، كفروا، وبعض صفاتهم، وجزائهم في الآخرة.
﴿إِنَّ﴾: للتوكيد.
﴿الَّذِينَ كَفَرُوا﴾: أي: السائرون على درب الكفر.
والكفر في اللغة: هو الستر، وكفر ستر: أي ستر وجود الله، وستر نعم الله تعالى؛ أي: أنكر وجوده؛ أي: الجحود، ويعني: عدم التصديق بالله، وما أنزل.
الكفر في الشرع: هو إنكار شيء، جاء به القرآن، أو النّبي ﷺ، بطريق يقيني، قاطع.
أنواع الكفر:
١ - الكفر الجحودي: ومن أسبابه؛ الاستكبار، مثل: كفر فرعون، وإبليس، وغيرها.
٢ - الكفر الجهلي: ومن أسبابه الغفلة، والجهل.
٣ - الكفر الحكمي: كالكفر بوحدانية الألوهية، أو الربوبية، أو الصفات، والأسماء. وبأركان الإيمان كالإيمان بالملائكة والرسل والكتب والنبيين واليوم الآخر، أو تكذيب بالغيب، كالجنة، والنار، والصراط، والميزان، أو الاستهزاء بالله، وآياته، ورسله، والدِّين.
والمكفرات ترجع إلى: مكفرات اعتقادية: كإنكار الخالق سبحانه، أو وحدانيته، وربوبيته، وصفاته، كاتخاذ الزوجة، والولد أو عجزه، أو عدم عدله، أو إنكار صفة له من صفاته، وإنكار الأنبياء، والرسل، ويوم القيامة، أو الكتب السماوية، أو القرآن، ولو آية فيه، والبعث، والحساب، والجنة والنار.
إنكار فرض من فروض الإسلام؛ صلاة، زكاة، صيام، حج، جهاد.
مكفرات قولية؛ كالاستهزاء بالدِّين، والعقائد، والأحكام، وسب الرسل ﵈.
والشرك الأكبر؛ أن يُعبد مع الله إلهٌ آخر؛ ويعتبر ذلك من الكفر.
﴿سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ﴾: أي: استوى عندهم الإنذار، أو عدمه؛ أي: لم يعد هناك فائدة من إنذارهم، أو عدم إنذارهم، فهم لن يؤمنوا. ولمقارنة سواء عليهم وقوله تعالى وسواء عليهم بزيادة الواو؛ ارجع إلى سورة ياسين آية (١٠) للبيان.
﴿ءَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ﴾: الإنذار؛ هو الإعلام، المصحوب بالتحذير، والتخويف.
﴿ءَأَنذَرْتَهُمْ﴾: الهمزة همزة تسوية. أي: استوى أو تساوى عندهم الإنذار أو عدمه.
﴿أَمْ﴾: المتصلة للإضراب الانتقالي، وتفيد الاستفهام، المصحوب بالإنكار، والتوبيخ.
﴿لَمْ تُنذِرْهُمْ﴾: لم؛ حرف نفي، يفيد استمرار النفي؛ أي: سيستمرون على كفرهم.
﴿لَا﴾: النّافية؛ تنفي كل الأزمنة، نفي الإطلاق، والعموم، تنفي الماضي، والحاضر، والمستقبل.
﴿لَا يُؤْمِنُونَ﴾: لا يصدقون بالله، وبما أنزل، ويتكرر، ويتجدد عدم إيمانهم، ويستمرون عليه.
1 / 13
سورة البقرة [٢: ٧]
﴿خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾:
﴿خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ﴾: الختم؛ يعني: السد، والإغلاق، والخاتم هو ما سُدَّ به، وأغلق به، والختم على القلب؛ يعني: بأن لا يدخله أي إيمان، ولا يخرج منه أي كفر.
وشبه القلب، هنا؛ بالوعاء، يمكن سده وإغلاقه، فلا يدخله نور الإيمان، ولا يخرج منها كفر، فقلوبهم كالأوعية، الّتي أبت عن الحق، واستمرت على ذلك، فختم عليها.
وأسند الختم إلى ذاته تعالى على قلوب هؤلاء الكفرة بعد أن تمادوا في كفرهم وبلغوا أقصى غاياته وابتعدوا عن الحق، فلم يعد ينفعهم الإنذار أو عدمه.
فهم الّذين ختموا على قلوبهم، وعلى سمعهم، وعلى أبصارهم بأنفسهم، وهم الّذين اختاروا ذلك على الإيمان، فتركهم الله سبحانه؛ لما اختاروا، وتخلى عنهم.
والطبع أشد من الختم، وأقوى، وأشمل، ولا يفك أبدًا، والذي يطبع على قلبه، يُفقد الأمل منه في غالب الأحوال، إلَّا من رحم الله، وأما الذي يختم على قلبه، فقد يختم على قلبه، ولا يختم على سمعه، وبصره، فقد يكون هناك بريق أمل في عودته إلى الإيمان.
وقدَّم القلوب على السمع؛ لأنّ السياق في الآيات، يتحدث عن القلوب المريضة ﴿فِى قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ﴾.
﴿وَعَلَى سَمْعِهِمْ﴾: الختم على السمع؛ يعني: تعطلت عندهم حاسة السمع، عن سماع الحق، وما ينفعهم لآخرتهم، فهم لا يستمعون لأي آية، ولا لأي موعظة، أو إنذار، رغم أنهم يسمعون الكلام العادي، وآذانهم ليس بها مرض عضوي، هم الذين اختاروا أن يسدُّوا آذانهم، وختموا عليها، فأذن الله تعالى لهم ذلك.
﴿وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ﴾: الغشاوة؛ هي الغطاء، والستر، وأبصارهم جمع بصر، والبصر؛ يشمل العين، والبصيرة.
والبصيرة: منطقة بالدماغ، هي الّتي تدرك، وتفكر، وتقوم بالرؤية القلبية، ﴿وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ﴾؛ جملة اسمية، تفيد الدوام، والثبات؛ أي: على أبصارهم غشاوة منذ البداية؛ فهم لم يسبق أنّ أبصروا (من البصيرة).
بينما قوله ﵎: ﴿وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً﴾ [الجاثية: ٢٣]، جملة فعلية، تدل على التجدد، والتكرار، فهذا كان مبصرًا قبل تردي حالته.
وإذا قارنا آيات سورة البقرة: ﴿خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾؛ بآيات سورة الجاثية (٢٣)، ﴿وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ﴾.
نجد أنّ آيات البقرة؛ جاءت في سياق من هم أشد كفرًا وضلالًا؛ من الكفار المذكورين في آيات سورة الجاثية.
وقدَّم القلوب في آية البقرة؛ لأنّ السياق في الحديث عن القلوب المريضة، والختم على القلب؛ أهم من الختم على السمع والبصر.
وأما في الجاثية؛ فالسياق في السمع لقوله: ﴿وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ﴾.
﴿وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ﴾: تمنع وصول الضوء؛ أي: نور الإيمان، والنظر في آيات الله تعالى، وما أنزل، نظرة تبصر، واتعاظ.
﴿وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾: ولهم: اللام لام الاستحقاق، والاختصاص العذاب العظيم، هو أشد أنواع العذاب على الإطلاق، مقارنة بكل أنواع العذاب، فهو يشمل الأليم، والمبين والشديد، والمقيم.
وتكرار كلمة ﴿عَلَى﴾ ثلاث مرات: ﴿عَلَى قُلُوبِهِمْ﴾، و﴿وَعَلَى سَمْعِهِمْ﴾، و﴿وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ﴾، يفيد التّوكيد، وكذلك لفصل واستقلال كل أداة عن الأخرى، فالختم قد يحدث لواحدة منها، أو أكثر، وهنا الختم أصاب الكل؛ القلب، والسمع، والأبصار.
وقوله تعالى: ﴿وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ﴾: أفرد السمع، وجمع البصر، ولم يقل: ختم على أسماعهم، إنما قال: سمعهم.
لأنّ السمع؛ مصدر جنسي، لا يجمع، ولكن الأذن، تجمع بآذان، آلة السمع.
ولأنّ أسماعهم تسمع نفس الآيات، والأنباء، وما يخبرهم به رسول الله ﷺ فالذي يسمعونه، هو نفس الكلام، والذي يختلف هو أبصارهم، وقلوبهم، فكل فرد يرى، ويبصر، ويفكر، بطريقته الخاصة. ولمعرفة سبب تقديم السمع على البصر، ولمزيد من البيان، راجع سورة هود آية (٢٠)، وسورة الملك (تبارك) آية (٢٣).
1 / 14
سورة البقرة [٢: ٨]
﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ﴾:
وهؤلاء هم الصنف الثالث من النّاس، وهم المنافقون، وصف الله حالهم في ثلاث عشرة آية:
﴿وَمِنَ﴾: الواو عاطفة.
﴿مَنْ﴾: اسم موصول تستعمل للعقلاء، وتشمل المفرد والمثنى والجمع.
﴿النَّاسِ﴾: وكلمة النّاس تعني بني آدم، ولمعرفة كيف اشتقت كلمة النّاس ارجع إلى الآية (٢١) من نفس السورة.
﴿مَنْ يَقُولُ﴾: من: كالسابقة؛ يقول: مضارع يدل على التجدد والاستمرار، الباء: للإلصاق والتوكيد.
﴿آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾: أي: من الذين ﴿قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ﴾ [المائدة: ٤١] أو ﴿يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِم مَا لَيْسَ فِى قُلُوبِهِمْ﴾ [الفتح: ١١].
آمنا أي: صدقنا بالله ربًا وباليوم الآخر، ويتظاهر بالإيمان ويبطن الكفر. فالإيمان بالله تعالى يعني اليقين بأن الله رب كل شيء ومليكه وخالقه، وأنه الإله الحق الذي يستحق وحده العبادة.
الإيمان الذي يتضمن توحيد الربوبية والإلوهية، وتوحيد الصفات والأسماء.
والإيمان باليوم الآخر: أي يوم القيامة، وسمي بذلك؛ لأنه لا يوم بعده، وله أسماء أخرى كثيرة: يوم الدين، يوم الحساب… ويعني الآخرة، أو الدار الآخرة، والجنة والنار.
وإذا قارنا هذه الآيات:
١ - آية التوبة رقم (٩٩): ﴿وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾. فهذه جاءت في سياق المؤمن.
٢ - وآية البقرة رقم (٢٦٤): ﴿كَالَّذِى يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾. جاءت في سياق الكافر.
٣ - وآية البقرة رقم (٨): ﴿مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾ جاءت في سياق المنافق، وبزيادة الباء (وباليوم الآخر) التي تفيد في توكيد نفي تهم النفاق عن نفسه.
نرى أنّ الكافر المعلن كفره أو شركه، كما في الآية (٢٦٤) من سورة البقرة، فرغم كونه كافرًا ملحدًا، لكنه أصدق من المنافق الذي يدَّعي الإيمان، كما في الآية (٨) من سورة البقرة.
﴿وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ﴾: الواو حالية. وما النّافية تنفي الحال وأقوى في النفي من ليس.
﴿هُمْ﴾: ضمير منفصل يفيد التّوكيد.
﴿بِمُؤْمِنِينَ﴾: الباء تفيد توكيد نفي الإيمان عنهم بكونهم غير مؤمنين.
1 / 15
سورة البقرة [٢: ٩]
﴿يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ﴾:
﴿يُخَادِعُونَ اللَّهَ﴾: ولم يقل: يخدعون، بل يخادعون؛ أي: بقصد، ونية، وتكرار، وجهد.
والمخادعة: مفاعلة، لابدَّ من طرفين، يخدع أحدهما الآخر.
والخداع؛ هو أن يظهر الطرف الأول للثاني خلاف ما هي الحقيقة، أو يستر عنه وجه الصواب، كي يجلب لنفسه منفعة، أو يدفع عنها مضرة، والخداع نوع من الحيلة والمكر، ويعتمد على الذكاء فقد يفشل أحيانًا، وسمِّيت خديعة؛ لأنها تدبير في الخفاء، واشتقت من خدع الضب؛ أي: توارى في جحره.
﴿يُخَادِعُونَ﴾: جاءت بصيغة المضارع؛ لتدل على تجدد، وتكرار خداعهم، ولم يتوقف، ومستمر.
﴿يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا﴾: كيف يخادعون الله تعالى، وهو خالقهم؟! نقول: هم في الحقيقة، يخادعون الرسول ﷺ، والّذين آمنوا، فنسب خداع المنافقين للرسول ﷺ، كأنه خداع لله سبحانه للتنبيه؛ أولًا، على علو منزلة رسول الله ﷺ ومن يخادع النّبي ﷺ، كأنه يخادع الله سبحانه، إضافة إلى كونهم يخادعون الّذين آمنوا.
﴿وَمَا يَخْدَعُونَ﴾: وما؛ الواو حالية، تفيد التّوكيد، ما: النّافية للحال.
﴿إِلَّا أَنفُسَهُمْ﴾: إلَّا أداة حصر؛ أي: ذواتهم.
﴿وَمَا﴾ وما: ما النّافية للحال.
﴿وَمَا يَشْعُرُونَ﴾: يشعرون: من الشعور وهو العلم الكامل الخفي أنّ عاقبة، أو وبال خداعهم عائد عليهم، وأنهم لن يحققوا لأنفسهم إلَّا الخسران المبين.
1 / 16