288

Tafsir Al-Muntasir Al-Kattani

تفسير المنتصر الكتاني

Géneros

تفسير قوله تعالى: (ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجًا منهم)
قال تعالى: ﴿وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى﴾ [طه:١٣١].
هذه الآية أمر لرسول الله ﷺ وهي أمر لأمته، وكما هي العادة في كتاب الله أن يؤمر النبي ﵊ وهو أمر للناس جميعًا.
قوله: ﴿وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا﴾ [طه:١٣١]: مد العين: النظر مع التشوق وهو أزيد من النظر، فلا يقال: لا تنظر، ولكن يقال: لا تمد عينك، أي: لا تطمع لا تشتق لا تتمن أن يكون لك ما لأولئك مما أعجبك من نساء ودور وأموال وجاه وسلطان ونفوذ.
قوله: (أزواجًا): أي: أصنافًا من الناس.
وقد متعهم بذلك زينة وتفاخرًا ومتعة، ﴿زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ﴾ [طه:١٣١]، أي: ليكون ذلك فتنة واختبارًا ليرى هل سيشكرون الله تعالى ويحمدونه على هذه النعم بأداء الحقوق فيزكون من جاههم وأموالهم ورفاهيتهم، ويشكرون الله بعد ذلك باللسان.
والزهرة: الزينة والزخرف والمتعة، وقد قال ﵊: (والله ما الفقر أخشى عليكم، ولكن زهرة الدنيا وزينتها).
كان الناس في الحياة النبوية على غاية ما يكونون من الحاجة والفقر وشظف العيش، وكان يقول لهم ﵊ وهم يشتكون الفقر ويطلبون منه أن يدعو الله لهم بالغنى: لا أخاف الفقر ولكن أخاف أن يغنيكم الله فتتنافسوا على الدنيا فيسفك بعضكم دماء بعض، أو كما قال ﷺ، وهكذا حدث.
والمقصود: أن الخطاب للنبي، وهو خطاب لأتباعه ﷺ، وإلا فالنبي ﵊ قد عرضت عليه الدنيا وعرضت عليه الجبال أن تكون ذهبًا وفضة، وعرض عليه أن يكون ملكًا نبيًا، فأبى كل ذلك وأعرض عنه، وطلب أن يكون عبدًا رسولًا يجوع يومًا فيصبر، ويشبع يومًا فيشكر.
والنبي ﵊ أتته الدنيا غنائم وأموالًا، وكل ذلك كان يوزعه ويفرقه من ليلته ولا يدع عنده منها قليلًا ولا كثيرًا.
كان ﵊ يلبس ما وجد، وينتعل ما وجد، فإذا لم يجد مشى حافيًا، وكان ﷺ أحيانًا يلبس القلنسوة بلا عمامة، وأحيانًا عمامة بلا قلنسوة، وأحيانًا لا تكون عنده عمامة ولا قلنسوة، وكان يقول: (نهينا عن التكلف).
كان يصبح فيقول: هل عندكم شيء يؤكل؟ فيقولون له: لا.
فيصوم إلى المغرب، وقد يبقى ليالي وأيامًا لا يذوق فيها طعامًا.
وكان إذا اشتد به الجوع يربط على بطنه الحجر صلى الله عليه وعلى آله.
وفي ذات مرة دخل عليه عمر وهو في المشربة بعد أن هجر أهله شهرًا، فوجده على حصير من النخل قد أثر في جنبه ﷺ فقال له: يا رسول الله! كسرى في أمواله وقيصر في رفاهيته وأنت في هذه الحالة! وكان متكئًا فجلس وقال: (أفي شك أنت يا ابن الخطاب؟ أولئك قوم عجلت لهم طيباتهم في الحياة الدنيا).
وهكذا عاش النبي ﵊ عبدًا نبيًا برضا منه واختيار، وهكذا عاش بعده الخلفاء الراشدون، ومن هنا كان يقول ﵊: (تمسكوا بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي، عضوا عليها بالنواجذ).
وكانوا يلبسون الثياب المرقعة، وذات مرة جاءت عمر الغنائم فوزع على الكل ثوبًا ثوبًا، ثم خرج على المسلمين وعليه ثوبان اثنان فقال: يا أيها الناس! اسمعوا وأطيعوا.
فصاح أحد الحاضرين وقال: يا ابن الخطاب لا سمع ولا طاعة، قال: ولم؟ قال: هل وزعت على المسلمين ثوبًا وأعطيت لنفسك ثوبين؟ فقال عمر: أهنا عبد الله؟ قال: نعم، قال: قم فأجبه، قال: يا هذا! إن الثوب الذي رأيته على أمير المؤمنين هو ثوبي؛ لأن ثوبه لا يكفيه لطول قامته، فقال الآخر: الآن يا أمير المؤمنين! السمع والطاعة.
وكان النبي ﵊ يعيش صائمًا في أكثر أوقاته، ومع ذلك ما كان يتم صيام شهر كامل سوى رمضان، وأكثر ما يصوم في شهر شعبان، وشهر محرم، وكان يصوم الإثنين والخميس، وكان يصوم الليالي النيرة بالقمر وهي اليوم الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر.
وكان ﵊ إذا أعطى يعطي عطاء من لا يخشى الفقر، وكانت هذه سيرته وهي سيرة السلف الصالح من الصحابة والتابعين ومن اهتدى بهديهم ممن بعدهم.
قوله تعالى: ﴿لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ﴾ [طه:١٣١]، أي: لنبتليهم هل سيشكرون الله على هذه النعمة أم لا؟ ولذلك كان ﵊ يقول: (هلك المكثرون إلا من قال هكذا وهكذا وهكذا)، أي: إلا من كان يوزع ماله وزكاته وصدقاته ونفقاته في القريب والبعيد.
وكان يقول ﵊: (نعم المال الصالح للرجل الصالح).
وكان يقول: (إن لله عبادًا لا يصلحهم إلا الغنى ولو أفقرهم لأفسدهم، وإن لله عبادًا لا يصلحهم إلا الفقر ولو أغناهم لأفسدهم).
وهذا شاهدناه ولا نزال نشاهده، فقد كان معنا أطفال ونحن أطفال في المدارس على غاية من التقى والصلاح، فلما كبروا أصبح لهم جاه ومال وسلطان فنسوا الله وتركوا الصلوات وكادوا يتركون الدين كله، فالفقر أصلح لهؤلاء، فمن العصمة أن تجد الفاجر يريد أن يفجر فلا يجد المال فيكون هذا من نعمة الله عليه وكرامته، لأنه لو أعطاه المال وصرفه في ذلك لكانت عقوبته مضاعفة، حيث صرف هذا المال في غير حله، ولا يشكر نعمة الله عليه مع فعل الفاحشة والذنب والمعصية.
قال تعالى: ﴿وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى﴾ [طه:١٣١]: الرزق الحلال بالكسب الحلال خير من هذا المال الكثير الذي لا يزيد الغني إلا فتنة، وأبقى بما يقدمه من زكاة وصدقة ونفقة.
ورزق ربك في الآخرة -يا هذا الذي زهد في الدنيا عن طواعية وإذا أغناه الله صرف الغنى في حله ولم يرتكب به الحرام ولم يوزعه في أنواع الفواحش بأشكالها- خير وأبقى من ذلك المال الفاسد الذي ابتلي به من لم يطع الله ولم يتقه، وأبقى وأدوم من حيث الأجر والثواب من ذلك المال الفاسد.

45 / 7