قال ابن جني: كلمته في) يتزيا (فقلت له هل تعرفه في شعر أو كتاب من كتب اللغة؟ فقال: لا، فقلت له: كيف أقدمت عليه؟ فقال: لأنه قد جرت به عادة الاستعمال، فقلت: افترضي بشيء تورده باستعمال العامة، ومن لا حجة في قوله؟ فقال: ما عندك فيه شيء؟ فقلت: قياسه يتزيى. فقال: من أين ذلك؟ فقلت: لأنه من الزي والزي ينبغي أن تكون عينه واوا، وأصله زوي، فانقلبت الواو ياء لسكونها وانكساره ما قبلها، ولأنها أيضا ساكنة قبل الياء، ويدل أيضا على أن عين الزاي واو أنه لا يقال لفلان زي، إذا كان له شيء واحد مستحسن حتى يجمع له أشياء كثيرة حسنة، فحينئذ يقال له زي. فقال: فكأنك تقول إنه من قوله ﷺ " زويت لي الأرض "، ومن قول الأعشى: زَوَى بَينَ عَيْنَيْهِ عَلَّى المحَاجمُ أي جمعت وجمع. فقلت له: إلى هذا ذهبت، فأصغى نحوها ثم قال: لم ترد في الاستعمال إلا يتزيا.
بَكيتُ على الأطلال إنْ لمْ أقِفْ بهَا ... وقَوفَ شَحيحٍ في التُرْبِ خَاتُمه
قال ابن جني: طعن بعضهم في عجز هذا البيت فقال: ليس لفظه في جزالة لفظ صدره، ولا في وقوف الشحيح على طلب خاتمه مبالغة يضرب بها المثل، فأما اللفظ فليس ببدع، بل تقدم بنظيره فحول الشعراء فأولهم امرؤ القيس في قوله:
ولَيْلٍ كَمَوْجِ البَحْرِ أرْخَى سُدُولَه ... عليَّ بأنْواعِ الهُمُومِ ليَبْتَلِي
فليت شعري أين لفظ أول هذا البيت من لفظ آخره ومثله كثير، وأما ذهابهم إلى نقصان المعنى، وأن وقوف الشحيح على طلب خاتمه مما يتباهى في ضرب المثل به فساقط أيضا، لأن الله ﷾ لا يقاس به شيء يقول في محكم كتابه) الله نور السموات والأرض مثل نوره كمشكاه فيها مصباح (فليت شعري هل يبلغ من ضوء الكوة التي فيها مصباح أن يفي بنور الله تعالى، ولكن العرب كما تبالغ في وصف الشيء وتتجاوز الحد، فقد تقصد أيضا فيه، وتستعمل المقاربة، وقد جاء مثل ذلك في الشعر الفصيح. قال الراجز: فَهُنَّ حَيرَى كَمُضِلاَّتِ الخَدمْ جمع خدمة وهي الخلخال.
وقال الشيخ ﵀: لا يجوز إلا كسر التاء في قوله) خاتمه (إذا كان في القافية لأنه إن فتح التاء صار في القصيدة عيب وهو السناد وكان أبو الطيب يختار فتح التاء في قوله) وأنكر خاتماي الخنصرا (.
قال ابن فورجه: وقد سمعت بعض أهل الأدب يحكي أنه صحف هذا المصراع، فخرج من هذا الاسترذال فقال) وقوف شجيج ضاع في الترب خاتمه (والشجج من صفات الوتد، يريد وقوف الوتد المتروك في الدار) وصاع (بمعنى تفرق، بمعنى صارت له عروق في التراب، وعلق فأورق وبيت الشيخ أبي العلاء ﵀ في هذا المعنى في السماء جودة وهو: غصْنُ الشَبابِ عصَى السَحابَ فلم يَعُدْ ذَا خُضْرةٍ إذ كلُّ غُصْنٍ أَخْضَرُ
قد لأوْرَقَتْ عُمدُ الخيامِ وأعشَبَتْ ... شُعُبُ الرّحالِ ولوْنُ رأسي أغبَرُ
ولقد سَلَوْتُ عن الشَباب كما سَلا ... غَيري ولكنْ للحَزين تَذكر
وخاتمه بمعنى ثابته وقد فعل ذلك في قوله:
وأَكَبرُ آيات التهاميّ آيةً ... أبُوكَ وأحدَى ما لَكمْ منَاقِبِ
من التصحيف فخرج من أن يكون كفرا، وأكبر آيات التهامي آية أبوك، يعني به علي ابن أبي طالب ﵁، ولا ينكر أنه آية من آيات رسول الله ﷺ ومعجزانه.
قفي تَغْرَمِ الأولى مِنَ اللَّحْظِ مُهجَتي ... بثانِيةٍ والمُتْلِفُ الشيءَ غارِمُه
قال ابن جني: سألته وقت القراءة فقلت: الأولى هي الفاعلة فقال: نعم، يريد أنه نظر إليها نظرة فأتلفت النظرة مهجته، فأراد أن يلحظها لحظة أخرى، لترجع إليه نفسه، فجعل الأولى كأنها في الحقيقة هي الغارمة، لأنها كانت سبب التلف، ومثله في استعادة النظر قول جرير:
ولقد نَظرتُ فرَدَّ نَظَرَتِي الهَوى ... بحزِيزِ رامَةَ والمَطي سَوامِ
أي حملني على أن أعدت النظر كذا فسروه.
وقال الشيخ أبو العلاء: " الولي " رفع بفعلها، ومهجتي نصب، لأن الغرامة وقعت عليها، والمراد قفي يا محبوبة ليغرم اللحظة الأولى التي لحظتك مهجتي، أي يغرمها بلحظة ثانية، وذلك لأنه أراد أن اللحظة الأولى أتلفت مهجته، ووجبت عليها الغرم، فإن لحظ ثانية عاش حتى قال ابن فورجة: هذا المعنى مثل قول القائل ولا اعلم أقبل أبي الطيب أم بعده.
1 / 79