قال الشيخ ﵀: لم يكشف معنى هذا البيت إلا رجل يعرف) بالمخزومي (له تصنيف في شعر أبي الطيب، وذلك أن الشاعر قال: إن رحيلا واحدًا حال بيننا، وهو الرحيل في الدنيا، وبعده رحيل ثان وهو الموت. فإن يكن بيننا رحيل واحد أقرب من أن يكون بيننا رحيلان، فدعى لنفسه بالحياة، لأنه ما دام يشم الروح فهو أقرب إليهم منه إذا صار تحت الأرض.
وقال ابن فورجة: الأولى عندي أن يعني: إذا بعدتم عني، وحيل بيني وبينكم فلم أصل إلى شيء منكم إلا إلى شم الروح، وتشبيهي النسيم الهاب من الرياض بنسيمكم، فلا فارقتني روضة وقبول يهيج ذلك النسيم لي لأشمه، وهذا المذهب متعارف عندهم في الرضي بقليل الراحة من الشوق إذا لم يصلوا إلى الحبيب كقول الهذلي:
ويُقرُّ عَيْني وهي نازحَةُ ... ما لا يُقرُّ بَعْينِ ذي الحِلمِ
أنّي أرَى وأظنُّ أنْ سَتَرى ... وَضَحَ النَّهارِ وعَاليَ النَّجمِ
وقول القائل:
إذا هَبَّ عُلْويُّ الرّياحِ وَجَدتُني ... كأنَّي لعُلوِيّ الرّياحِ نَسيبُ
وإنما يرتاح لعلوي الرياح لأنها من قبل أرضها، وفي هذا البيت معنى قول الله تعالى:) ولما فَصَلت العِيُر قال أبوهُم إنّي لأجِدُ ريحَ يُوسُفِ لولا أن تُفَنَّدُونِ (. ومعنى البيت من معنى بيت البحتري:
يُذِكُّرنا رَيَّا الأَحِبَّةِ كُلَّما ... تَنَفَّسَ في جُنْحٍ من اللَّيلِ بارِدُ
وقال الاحسائي: إذا كان شم الروح، يعني الحياة أدنى إليكم من الموت، فلا زلت حيًا ولا برحتني روضة وقبول، فذلك مما يعين على الحياة.
وَما شَرَقي بالمَاءِ إلاّ تّذَكرًا ... لَماءٍ بهِ أهْلُ الحَبيبِ نُزُولُ
قال الشيخ ﵀: الرواية بنصب) تذكر (مصدر تذكرت لأنه مفعول له، أو مفعول من أجله ولو رفع) تذكر (لم يبعد.
وقال الأحسائي: كنى بالماء عن الحبيب، يريد أنه من وجهه في رقة الماء، وأنه ينقع الغلة، كما ينقعها الماء، ولذلك قال) يحرمة لمع الأسنة حوله (فدل على ما قلناه، ولو أراد نفس الماء لكان مستبعدًا أن يمنع الماء المشروب بالأسنة في غالب الأمر.
لَقِيتُ بدَرْبِ القُلَّةِ الفَجْرَ لُقْيةً ... شَفَتْ كمَدي واللَّيلُ فيه قَتِيلُ
قال ابن جني: سألته وقت القراءة عن معنى هذا البيت فقال: وافينا القلة وقت السحر فكأني لقيت بها الفجر ثم سرنا صبيحة ذلك اليوم إلى العصر، وشننا الغارات وغنمنا، وقوله:) شفت كمدي (لانحسار الليل عني) والليل فيه قتيل (أي في ذلك الموضع وكأن الموضع وكأن النهار أشرق ضوؤه على الليل فقتله وظفر به.
وقال الشيخ ﵀: ويحسن ذلك أن الفجر يشبه بالسيف، فكأنه قتل الليل وزعم قوم أن سيف الدولة أوقد نيرانا عظيمة بدرب القلة، فكأنه أزال بها الليل، وقد تجوز مثل هذه الحكاية.
وَيوما كأنَّ الحُسْنَ فيه عَلاَمةُ ... بَعَثْتِ بها والشَّمسُ مِنْكَ رَسولُ
قال ابن جني: في هذا البيت رائحة من قول الشاعر:
إذا طَلَعَتْ شَمْسُ النَّهارِ فإنَّها ... أمارَةُ تَسْلٍمي عَلَيكِ فَسلَّمي
وقال الشيخ ﵀: عطف) يومًا (على قوله) لقيت العجز (وهذا معنى لطيف أراد أنه يوم حرب، فالحسن فيه خفي لا يعلم به إلا الشجاع، كما أن العلامة التي توجه بها حبيبة مكتومة،) والشمس منك رسول (أي تستتر بالغبار كما يستتر رسولك.
قال ابن فورجة: جعل الحسن في هذا اليوم كأنه علامة من حبيبته، والشمس وكأنها رسول منها، لسروره عند مطلع الشمس، وارتياحه بها، وكمال سروره في هذا اليوم، وهو مع هذا يريد أن يجعل هذه القصة تخلصًا من الغزل إلى مدح سيف الدولة، عاشق وقد أثارت وطلبت ذحلي عند الظلام فقتلته يريد تلك الحمرة التي تظهر من الشفق. ولقد أجاد الشيخ أبو العلاء أحمد بن عبد الله بن سليمان إذ نقل هذا المعنى فجعله في مدح أهل البيت ﵈ فقال:
وعلى الدَّهرِ مِنْ دِمَاءِ الشَّه ... يدَينَ عَليّ ونَجَلهِ شَاهِدانِ
فَهما في أواخِرِ اللَّيلِ ... فَجرانِ وفي أُولَياته شَفَقَانِ
ثَبَتَا في قَميصِهِ لِجيءَ ... الحَشْرَ مُسْتعدِيًا إلى الرَّحمنِ
وأما قوله:
وما قَبلَ سيفِ الدَّولةِ أثَّارَ عاشِقُ ... ولا طُلِبتْ عند الظلام ذُحُولُ
1 / 64