قال ابن فورجة: قال الشيخ ابن جني: إذا خلت الحسناء مع محبها أدى ذلك إلى تأذيه بها، إما لشغل قلبه عما سواها، أو لغير ذلك من المضار التي تلحق مواصل الغواني، وهذا كلام لم ينضجه التأمل، وكأنه ظن أن الحسناء لا يخلو بها إلا بعلها ولا أذى للبعل في الخلوة بها، كل قرة عينه فيها، وليس وصاله لها داعية إلى مضرة على الإطلاق ولو لم يكن في النساء غير المضرة لما خلقهن الله تعالى، فضلا عن إباحتهن والأمر بالاستعفاف بهن، وما ورد في الآثار من الوصاة بهن ولا يكون صد المرأة الحسناء بعلها عن غيرها من الأمور أذى، ولا يقول ذلك ذو منطق بليغ إلا متأولًا، والذي أراده أبو الطيب أن المرأة ذات البعل ليس ينال منها من خلا بها غير بعلها إلا أذاه، يريد أن اللذة منها قاصرة عن أن تكون لذة في الحقيقة، وإنما الحاصل منها أذى البعل فقط، يزهد بذلك في الولد، وفي طلب اللذة بأعراض الدنيا كلها، أي إذا كانت هاتان اللتان لا حقيقة لهما فما سواهما أولى بالترك والزهد فيه، هذا عندي الأليق لمذهبه، والذي قاله أبو الفتح متحمل.
ومن التي أولها: لا الحُلْمُ جادَ بِهِ ولا بِمثالهِ قوله:
إنَّ المُعِيدَ لنا المَنامُ خَيالَهُ ... كانَتْ إعادَتُهُ خَيالَ خَيالِهِ
قال ابن جني: يقول إنما رأينا الآن في النوم شيئا كنا رأيناه في النوم قبل، فصار ما رؤي ثانيا خيال ما رؤي أولًا، والذي رؤي أولًا هو خياله، فصار الثاني خيال خياله يصف بعده عنه وتعذر طيفه عليه) وخيال (منصوب لأنه خبر كان، وليس) إعادته (وأقام المصدر مقام المفعول، لأنه يريد بالإعادة الشيء المعاد، كما يقع الخلق وهو مصدر موضع المخلوق وهو المفعول.
قال ابن فورجة: هذا الذي ذكره المعنى الجيد الذي يسبق إليه كل خاطر ووهم، وقد يحتمل معنى آخر لطيفًا، وهو أن يعني أن ذلك الوصال واللقاء لهذا الحبيب كان أيضًا خيالًا على معنى قوله:
نَصِيبُكَ في حَيَاتِكَ من حَبيبٍ ... نَصِيُبكَ في مَنامكَ من خَيالِ
فيقول إن وصاله أيضا كان خيالا تراءى لي في منام، تقليلًا له وتقصيرًا لزمانه، فلما زار الخيال كان خيال ويحتمل أيضا معنى آخر أدق من هذا وهو أن لا تكون) إعادته (مصدرًا لمعنى المفعول، بل يريد أن الإعادة نفسها كانت لخياله إذ كان أيضا معادًا، يريد بذلك كثرة رؤيته إياه في منامه، فكل رؤيا يراه فيها إعادة لخيال رآه معادًا من قبل فافهمه فهو أحسن.
نجْنِي الكَواكبَ مِن قَلائدِ جيدةِ ... ونَنالُ عَينَ الشَّمسِ من خَلْخالِه
قال ابن جني: شبه ما في قلائده من الدر بالكواكب، وخلخاله بعين الشمس.
قال الشيخ ﵀: استقدت استفعلت من القود، وأصل ذلك أن الرجل يقتل الآخر فيقاد قاتله إلى أهله، يقول إن كان الهوى قد لحقتني منه بلابل فقد استقدت منه، وأذقته من عفتي ما هو جزاء له، والهوى في البيت يحتمل وجهين أحدهما: أن يريد به الهوى الذي هو عرض، فيكون هذا من مبالغة الشعر التي ليس لها حقيقة، لأن القود لا يصح من شيء يخطر في القلب، والآخر أن يريد بالهوى المرأة التي شبب بها، لأنهم يقولون فلانة هواي التي أهواها، وهذا على حذف المضاف كأنهم يريدون ذات هواي.
وكأنّما جدواه من إكثاره ... حَسدُ لسائِلهِ على إقْلاِلِه
قال ابن جني: جاذبته معنى هذا البيت فقال: أردت إفراطه في الجود، حتى كأنه يطلب أن يكون مقلا كسائله، فهو مفرط في إعطائه طلبًا للإقلال، قال: وإذا تمكن الحاسد من المحسود فحسبك به وهذا معنى لفظه.
إنَّ الرَياحَ إذَا عَمَدنَ لناظِرٍ ... أغْناهُ مُقْبلُها عَنِ اسْتعجالهِ
قال الشيخ: يقول الرياح إذا عمدن للناظر لم يحتج إلى أن يستعجلها، وإنما ضرب هذا مثلا لأن الممدوح ينيل قبل أن يسأل.
وَهَب الذي ورثَ الجُدودَ وما رأى ... أفْعالَهمْ لابنٍ بلا أفْعالِهِ
قال الشيخ ﵀: هذا مأخوذ من قول الليثي:
إنّا وإنْ أحسابُنَا كَرُمَتْ ... لَسْنا على الأحسْابِ نَتَّكِلُ
نَبني كما كانتَ أوئِلُنا ... تبني ونفعلُ مِثلَ ما فَعلوا
والهاء في) أفعاله (راجعة إلى) الابن (و) لا (في معنى غير) ورأى (هاهنا تؤدي معنى رضي واختار، كما يقال فلان يرى أن تكون كذا أي يشير به ويرضاه.
1 / 60