قال ابن فورجة: وقد كثر كلام الناس في هذا البيت وادعي عليه قلب الكلام واحتجوا باحتجاجات، وزعموا أنه أراد كيف لا يموت من يعشق، وليس الأمر عندي على ما زعموا ولو قال ذلك أو أرده لكان معنى رذلا متداولًا خلقًا والذي أراده أبو الطيب معنى حسن صحيح اللفظ والمعنى، أحسن مما ذهبوا إليه، وإنما يقول عجبت كيف يكون الموت من غير هذا هو أعظم الأدواء، والخطب الذي هو أشد الخطوب لأنه لاستعظامه العشق يتعجب كيف يكون موت من غيره.
حرف الكاف
ومن التي أولها:
رُبَّ نَجيعٍ بَسْيفِ الدَّوْلَة انْسَفَكا ... وَرُبَّ قَافَيةٍ غاظَتْ به مَلِكا
قال الشيخ: لم يزاحف أبو الطيب زحافا تنكره الغزيرة إلا في هذا البيت، ولا ريب أنه قاله على البديهة، ولو أن لي حكمًا في البيت لجعلت أوله) كم من نجيع بسيف الدولة انسفكا (لأن) رب (تدل على القلة، وإنما يجب أن يصف كثرة سفكه دماء الأعداء، ويحسن ذلك أن رب جاءت في النصف الثاني وهي ضد) كم (.
ومن التي أولها: بكَيْتُ يا رَبْعُ حتى) كِدْتُ (أبْكِيكا قوله:
ولو نَقَصْتُ كما قد زِدتَ مِن كَرَم ... على الوَرَى لرأوْني مِثلَ قَالِيكا
قال الشيخ: وضع هذا البيت على أنه يحب الممدوح محبة مفرطة، كما أن كرمه مفرط، فلو نقص حبه إياه لزيادة في كرمه لرآه الناس مثل من يبغضه، وإن كانت محبته في غاية الزيادة.
ومن التي أولها:
لم تَرَ مَنْ نادَمْتُ إلاَّكا ... لا لِسِوَي وُدّكَ لي ذَاكا
قال ابن جني: الوجه أن تكون) من (ههنا نكرة بمنزلة أحد أو رجلٍ ويكون) نادمت (صفة لا صلة فكأنه قال لم تر إنسانًا نادمته غيرك كما أنشد سيبويه.
يا رُبَّ مَنْ يُبْغِضُ أذْوادَنا ... رُحْنَ على بَغْضائِهِ واغْتَدينْ
وقوله) إلاّكا (قبيح لا يجوز إلا في ضرورة الشعر، والوجه إلا إياكا؛ لأن) إلا (ليس لها قوة الفعل، ولا هي عاملة عمل كان ونحوها، وقد أنشدوا بيتًا وصلت فيه إلا بالكاف وهو:
فما نُبالي إذَا ما كُنُتِ جارَتَنا ... ألاَّ يُجاوِرَنا إلاَّكِ دَيَّارُ
وهذا شاذُّ لا يُقاس عليه، ومعنى البيت أنه يعتد عليه بمنادمته إياه، فيقول: لم تر أحدًا نادمته سواك، وليس ذاك لسوى ودك لي ومحبتك إياي.
ومن التي أولها:
فَدىً لَكَ مَنْ يُقَصَّرُ عَنْ مَدَاكا ... فَلا مَلِكُ إذَنْ إلاَّ فَدَاكا
قال ابن جني: أي لو أجبيت هذه الدعوة فداك جميع الملوك لأنهم كلهم يقصرون عن مداك.
وقال الشيخ: المراد أن الخلق كلهم فدى للممدوح لأنهم يقصرون عن مداه.
ولو قُلْنا فدىً لَكَ مَنْ يُساوي ... دَعَوْنا بالبَقاء لَمنْ قَلاكا
قال الشيخ: يقول لو قلنا فدى لك من يساويك لكان ذلك دعاء لأعدائك بطول البقاء إذ ليس لك مساو في الخلق.
قال ابن فورجة: هذا الكلام كأنه محمول على دليل الخطاب، وكأنه إذا قال فداك من يساويك فقد قال لا فداك من يساويك، وهذا مجازلا حقيقة وقد تناول هذا المعنى أبو إسحاق الصابي الكاتب، فوقع دون أبي الطيب فقال:
أيُهذا الوَزير لا زَال يَفِديكَ ... منَ النَّاسِ كلُّ مَن هو دونكَْ
وإذا كانَ ذَاك أوَجب قولي ... أنْ يكونواُ بأسْرهِمْ يَفدُونَك
وبين الفقهاء في دليل الخطاب خلاف، فمنهم مثبت ناف، يعني أن من قلاك ناقص غنك، فإنما يقليك لنقصانه عنك، وهذا أيضا مجاز، فكان من الواجب أن يقول جميع الناس ناقصون بالقياس إليك ولكن لما كان من يقليه أيضًا أحد الناقصين حسن أن يقول ذلك.
وآمنَّا فِدَاءَكَ كُلَّ نَفْسٍ ... وإنْ كانَتْ لَمملَكةٍ مِلاكا
قال ابن جني: ملاك الشيء قوامه، أي هذه النفوس وإن كانت قواما لمهالك فهي مع هذه مقصرة عن شأوك، فقد أمنت أن تفديك إن أجيبت هذه الدعوة.
وقال الشيخ: هذا البيت معطوف على ما قبله أي لو قلنا فدي لك من يساويك لآمنا كل نفس أن تفديك وإن كانت نفس ملك.
وَمَنْ يَلَغَ التُّرَابَ بهِ كَرَاهُ ... وَقَدْ بَلَغَتْ بِهِ الحالُ السُّكاكا
قال الشيخ: السكاك الهواء بين السماء والأرض، يقول: لو قلنا فدي لك من يساوي لأمنت هذه الجماعة أن تفديك وفيهم من كأنه في كرى من غفلته، قد خفض ذلك منزلته، وإن كانت حالته قد رفعته في الهواء.
1 / 55