قال الشيخ: قوله) أنت له (أي أنت عاشقة نفسك ساويت في محبتك إلا أنك معافاة من ضنى المحبين وشوقهم إليك) وفتنت نفسك (أي أحللت بها فتنة، وأصل الفتن قلب الشيء عما هو عليه.
إنَّ لَحْظًا أدَمْتِهِ وأدَمْنا ... كان عَمْدًا لنا وحَتْفَ اتَّفاق
قال ابن جني: أي كان النظر عن تعمد لنا، فاتفق لنا فيه الحتف من غير قصد.
لَوْعَدَا عَنْكَ غَير هَجْرِكِ بُعْدُ ... لأرَارَ الرَّسيمُ مُخَّ المَناقِي
وَلَسِرْنَا وَلَوْ وَصَلْنَا عَلَيْها ... مِثْلَ أنْفاسِنا على الأرْماقِ
قال ابن فورجة: أما البيت الأول فهو كقوله:
أبْعَدَ نَأي المَليحَةِ البخَلُ ... في البخل ما لا تُكَلَّفُ الإبلُ
أي إنما البعد بيننا هجرك ولو كان بعدًا حقيقيًا لأعملنا الإبل حتى نصل إليك والبيتان معًا من قول العباس بن الأحنف:
لو كُنتِ عاتبةُ لسكَّنَ رَوعَتي ... أمَلي رِضاكِ وزرتُ غيرَ مُراقِبِ
لكنْ مَلَلْتِ فلم تَكُنْ لي حِيلةُ ... صَدُ المَلُولِ خِلافُ صَدَّ العَاتِبِ
وقوله في البيت الثاني:) وصلنا عليها أنفاسنا على الأرماق (يعني نحافًا قد أذهب الضنى ثقلنا حتى نحن في الخفة كأنفاسنا وهو كقوله أيضًا:
براني السُّري بَريَ المُدى فرَددْنَنِي ... أخفَّ على المركوب من نفسي جِرمِي
والرمق بقية الحياة أي لم يبق منها إلا القليل يريد أن إبلنا أيضًا نحاف لا أثقال لها وهذا كقول القائل: أنْضَاءُ شَوْقٍ على أنْضَاءِ أسْفارِ
كاثّرَتُ نائِلَ الأميرِ من الما ... لِ بِمَا نَوَّلْتَ من الإيْرَاق
قال الشيخ: الإيراق هاهنا يحتمل وجهين أحدهما: أن يكون من قولهم أورق الصائد إذا لم يصد شيئًا، وأورق طالب الحاجة إذا لم يصل إليها، وأصل ذلك أن الصائد إذا خاب جمع ورق شجر في مخلاته، فيكون المعنى أن هذه المذكورة كاثرت نائل الأمير بضده لأنه جواد وهي بخيلة وعطاؤه نعم وعطاؤها لا يوصل إليه، والآخر: أن يكون من قولهم أرق الرجل وأرقه غيره إذا أسهره فيكون المعنى أن إيراقها للناس أي منعها إياهم من النوم كثير يكاثر به نائل الأمير وكلا الوجهين حسن.
فوْق شَقَّاءَ لِلأشَقّ مَجَالُ ... بَينَ أرْساغِها وَبَيْنَ الصَّفاقِ
قال الشيخ: الأشقّ فرس متباعد ما بين القوائم، وهم يحمدون ذلك في الخيل وروى أصحاب الأخبار أن جيشًا من العرب غزا فهزم، فجاء شيخ من الفل فاجتمع إليه جواري الحي يسألنه عن أخبار آبائهن، فقال: أخبرنني عن آبائكن أخبركن عنهم. فقالت إحداهن: كان أبي على شقاء مقاء، طويلة الأنقاء، تمطق أنثياها بالعرق، تمطق الشيخ بالمرق. فقال: سلم أبوك وقالت أخرى: كان أبي على قصير ظهرها، رحيب صدرها، هاديها شطرها، فقال: نجا أبوك. وقالت الأخرى: كان أبي على ضئيلة اللوح، يكفيها لبن لقوح. فقال: قتل أبوك. فلما قدم الفل كان الأمر على ما ذكر الشيخ. وقد أسرف أبو الطيب في هذا البيت، لأنه جعل الأشق في الخيل له ما بين أرساغ هذه الفرس وبين صفاتها، والصفاق جلد تحت الجلد الأعلى، أو لحم دقيق، وإنما جاء به للقافية.
كُلُ ذِمْرِ في المَوْتِ حُسْنًا ... كُبدُورٍ تَمامُها في المُحاقِ
قال ابن جني: الذمر الشجاع، وجمعه أذمار. والمحاق والمحاق جميعا نقصان القمر في الثلاث الأواخر من الشهر، وقوله) تمامها في المحاق (. كلام متناقض الظاهر لأن المحاق غاية النقصان فهو ضد الكمال ولكنه سوغ له ذلك قوله) يزيد في الموت حسنًا (أي هو من قوم أحسن أحوالهم عندهم أن يقتلوا في طلب المجد والشرف كما قال أبو تمام.
يَسْتَعْذُبونَ مَنَايَاهمْ كأّنُهمُ ... لا ييأسُونَ مِنَ الدُّنْيا إذَا قُتِلُوا
فقوله يستعذبون مناياهم مثل قوله يزيد في الموت، فلما كانوا كذلك شبههم ببدور تمامها في محاقها، فجاز له هذا اللفظ على سبيل الاستظراف له، والعجب منه، فشبه ما يجوز أن يكون بما لا يجوز أن يكون اتساعا وتصرفا، ألا ترى قول الشاعر:
إذا شابَ الغُرابُ أَتيتُ أَهلي ... وصارَ القَارُ كاللَبنِ الحَليبِ
فعلق ما يجوز وقوعه بما لم يشاهد على حال من الأحوال.
1 / 53