وقال ابن فورجة: قد اعترض عليه من لا علم له بطريقة الشعر فقال: وحقيقة هذا المعنى غير متصور، إذ لو كان المتنبي تلك الصورة فخفي ليظهر لكان ظهوره للناس مالا يفيد أبا الطيب، وإنما ظهوره للناس يفيد وهو فيهم ليراه. وقائل هذا لا معرفة له بطرق المعاني إذ كان للشاعر أن يتمنى المحالات، على أن أبا الطيب لم يتمن محالًا، وإنما رأى سترًا يحول بينه وبين حبيبه فقال: لو كنت مكان ذاك الستر لخفيت حتى يظهر ذلك المحبوب ولم يرد أن يظهر له ولغيره، بل تمنى ظهوره فقط، والفائدة نزهة الأبصار في رؤيته.
لا تَتْربِ الأيْدي المُقِيمَةُ فَوْقَهُ ... كِسْري مَقامَ الحاجِبَيْنِ وَقَيْصَرَا
قال الشيخ: لا تترب يدك إذا دعا له بأن لا يفتقر، ودعا للأيدي التي صورت كسرى وقيصر، وجعلتها كالحاجبين لهذا الشخص المستور، أي أنه أهل أن يكون هذان المكان له حاجبين، وكأن هذا المعنى ينظر إلى قول الحكمي:
بَنْيَنا على كسرى سماءَ مُدَامةٍ ... مُكلَّلَة حافاتُها بنجُومِ
يريد أن صورة كسرى كانت في الكأس وهو نحو قوله في الأخرى:
قَرارَتُها كِسْرَى وفي جَنَباتها ... مَهًا تَدَّربها بالقِسيّ الفَوارِسُ
يَقيانِ في أحَدٍ الهَوَادِجِ مُقْلَةً ... رَحَلَتْ فَكانَ لها فُؤادِي مَحْجِرَا
قال ابن جني: أي كانت ضياء قلبي، بمنزلة عين القلب زالت عني عمي قلبي، والتبس أمري علي، وفقدت ذهني، وبقي كمقلة ذهبت وبقي المحجر.
وقال الشيخ ﵀: الغرض أنه أن هذه المرأة كانت كالعين، وفؤاده كالمحجر، فهو مشتمل عليها بالذكر، كاشتمال المحجر على العين، ولم يرد أنها قد فارقته، لأنه لو زعم ذلك لكان قلبه قد خلا من ذكرها، وإذا روي تقيان عني بهما الصورتين الممثل بها كسرى وقيصر. وإذا رويت بالياء فهو أشد مبالغة في وصف الشخص المحجوب، لأنه جعل الملكين كأنهما توليا الحجابة لا صورتاهما اللتان لا تحسان.
وقال الأحسائي: تقيان يعني الصورتين، أي يستران مقلته عن أن ينظر إلى أحد، أو ينظر إليها أحد) فكان لها فؤادي محجرا (أي أثرت في فؤادي أثرًا مثلها. أي لذلك الأثر الذي أثرته فصار كالعين في الفؤاد.
وإذَا السَّحابُ أخُو غُرابِ فِراقِهمْ ... جَعَلَ الصَياحَ بِبَيْنِهِمْ أنْ يُمْطِرَا
قال الشيخ: ﵀: من شأنهم أن يصفوا التفرق والظعن إذا أصابت السحب، لأنهم يتفرقون لانتجاع الكلأ، ولا يمكن أنْ يجتمعوا في مكان واحد بل يؤم كل قوم منهم ناحية فأدعى الشاعر أن السحاب كأنه أخو الغراب، وأمطاره جارية يرى صياحه بالبين.
فَإذا الحمائِلُ ما يَخِدْنَ بِنَفْنَفٍ ... إلاَّ شَقَقْنَ عَلَيهِ ثَوْبًا أخْضَرَا
قال الشيخ: الحمائل جمع حمولة وهي الإبل الحاملة، وهذه الهاء تدخل في) فعولة (إذا كانت في معنى) فعولة (مثل قولهم لما يركب ركوبة. ولما يحلب حلوبة ولما يعلف علوفة، والتفتف الأرض الواسعة يقول هذه الحمائل تمر بالنفنف فتطؤه بأخفافها وترعاه، فكأنها تشق عليه وثوبًا أخضر لأنها ترعى النبت فتبين التراب، وكان كأنه كاس بالنبات.
أرَجانَ أيَتُها الجِيادُ فإنَّهُ ... عَزْمي الذي يَذَرُ الوَشيجَ مَكَسَّرَا
قال ابن جني: نصب أرجان بفعل مضمر على التخصيص كأنه قال اقصدي أرحان وأصل هذا الاسم أرجان بتشديد الراء فاضطر إلى تخفيفه.
لوْ كنت أفعَلُ ما اشْتَهَيْتِ فَعالهُ ... ما شَقَّ كَوْكَبُكِ العَجاجَ الأكدَرَا
قال الشيخ: يخاطب الخيل لو كانت أفعل ما تؤثرين من الراحة والدعة لأقمت ولم أكابد السفر، ولم يشق كوكبك العجاج، واستعار الكوكب للخيل، ويقال المقدمة الكتيبة كوكب، ويجوز أن يعني بالكوكب نفسه لأنه يفتخر كثيرًا بالحرب وإيثاره لقاء الأعداء.
أمَّي أبا الفَضْلِ المُبِرَّ التَّي ... لأُيَّممنَ أجَلَّ بَحْرٍ جَوْهَرَا
قال ابن جني: أي لما حلفت لأقصدن أجل البحار جوهرًا برَت يميني.
وقال الشيخ: قوله) لأيممن أجل بحر جوهرا (يحتمل وجهين: أحدهما: أن يكون قال النصف الأول فتم الكلام، ثم ابتدأ اليمين، فلا يكون النصف الثاني تعلق بالنصف الأول قبل موعد الإعراب، والآخر: قوله لأيممن وما بعده مفسرا للآلية فيكون موضعه نصبًا على البدل منها.
1 / 42