288

ثم قال من تمام هذا الخبر الصحيح: يا عبادي، لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد، فسألوني، فأعطيت كل واحد منكم مسألته، ما نقص ذلك من ملكي شيئا. الحديث.

وما نشك انه ما من أحد إلا وهو يكره ما يؤلمه طبعا، فما من أحد إلا وقد سأله أن لا يؤلمه، وأن يعطيه اللذة في الأشياء، ولا يقدح ما أومأنا اليه في الحديث إذا تعلق به المنازع في المسألة إدخال " لو " في ذلك، فإن السؤال من العالم قد علم وقوعه بالضرورة من كل مخلوق، فإن الطبع يقتضيه، والسؤال قد يكون قولا، وحالا، كبكاء الصغير الرضيع وإن لم يعقل عند وجود الألم الحسي بالوجع أو الألم النفسي لمخالفة الغرض إذا منع من الثدي، وقد أخذت المسألة حقها. والأحوال التي ترد على قلوب الرجال لا تحصى كثرته، وقد أعطيناك منها في هذا الباب أنموذجا على هذا الأسلوب ". انتهى كلامه.

وقال العلامة القيصري في شرح الفص الهودي من الفصوص: اعلم أن من اكتحلت عينه بنور الحق، يعلم أن العالم بأسره عباد الله، وليس لهم وجود وصفة وفعل إلا بالله وحوله وقوته، وكلهم محتاجون الى رحمته، وهو الرحمن الرحيم، ومن شأن من هو موصوف بهذه الصفات، أن لا يعذب أحدا عذابا أبديا، وليس ذلك المقدار من العذاب أيضا إلا لأجل ايصالهم الى كمالاتهم المقدرة لهم، كما يذاب الذهب والفضة بالنار لأجل الخلاص مما يكدره وينقص عياره، وهو متضمن لعين اللطف والرحمة كما قيل:

وتعذيبكم عذب وسخطكم رضى

وقطعكم وصل وجوركم عدل

والشيخ - رضي الله عنه - إنما يشير في أمثال المواضع، الى ما فيه من الرحمة الحقانية، وهو من المطلعات المدركة بالكشف، لا انه ينكر وجود العذاب وما جاءت به الرسل من أحوال جهنم، فإن من يبصر بعينه أنواع التعذيب في النشأة الدنيوية بسبب الأعمال القبيحة، كيف ينكر في النشأة الأخروية، وهو من أكبر ورثة الرسل صلوات الله عليهم، فلا ينبغي أن يسيء أحد ظنه في حق الأولياء الكاملين الكاشفين لأسرار الحق بأمره ".

انتهى.

وقال في موضع آخر من شرحه للفصوص: اعلم أن المقامات الكلية الجامعة لجميع العباد في الآخرة ثلاثة، وإن كان كل منها مشتملا على مراتب كثيرة لا تحصى وهي: الجنة والنار، والأعراف الذي بينهما، على ما نطق به الكلام الإلهي.

ولكل منها اسم حاكم عليه يطلب بذاته أهل ذلك المقام لأنهم رعاياه، وعمارة الملك بهم، والوعد شامل للكل، إذ وعده في الحقيقة عبارة عن ايصال كل واحد منا الى كماله المعين له أزلا، فكما أن الجنة موعود بها، كذلك النار والأعراف موعود بهما. والإيعاد أيضا شامل للكل؛ فإن أهل الجنة إنما يدخلونها بالجاذب والسائق، قال تعالى:

وجآءت كل نفس معها سآئق وشهيد

Página desconocida