بسم الله الرحمن الرحيم صلى الله علي سيدنا محمد وسلم قال سيدنا وبركتنا الشيخ الفقيه العالم العلامة عز الأنام الحبر الهمام الصدر المحقق فريد دهره ووحيد عصره أبو عبد الله محمد بن عرفة المالكي: علم التفسير: القول في حقيقته، وموضوعه، ودليله، وفائدته، واستمداده، وحكمه. أما حقيقته: فهو العلم بمدلول القرآن وخاصية كيفية دلالته (وأسباب النزول) والناسخ والمنسوخ. فقولنا: خاصية كيفية دلالته هي إعجازه ومعانيه (البيانية) وما فيه من علم البديع (الذي يذكره) الزمخشري (ومن نحا نحوه) .
1 / 59
قيل (لابن) عرفة: غيره من المفسرين لم يذكرها كالطبري الذي هو إمام المفسرين؟ فقال: كان مركزا في طبعه وإن لم يكتبه. وموضوعه: القرآن. ودليله: اللغة (العربية) والبيان، لأن المفسر يفسر اللفظة بمعنى ويستدل عليها بشواهد من الشعر وكذلك يستدل على إعرابها. وفائدته: استنباط الأحكام والمعاني من أصول الدّين وأصول الفقه والعربية. وحكمه: أنه فرض كفاية وهو الآن ساقط لحصوله في الكتب وقام به جمع كثير. لكنّ الناس على أقسام: - مجتهد مفسر (كالشيخ عز الدين) (ب) ابن عبد السلام. وآخر مفسر غير مجتهد كسيبويه (ج) والفارسي (د) والزجاج
1 / 60
والزمخشري فإنّهم لم يحصلوا أدوات الاجتهاد (وحصّلوا) أدوات التفسير. وآخر مجتهد غير مفسر حسبما ذكر الغزالي (ب) في شروط الاجتهاد: " إنه لا يلزم المجتهد حفظ القرآن كلّه بل إن (حفظ منه خمسمائة آية) (يستدل بها)، وهي آيات الأحكام (ج) . والمفسر من شروطه: حفظ القرآن كله، لأن المفسر إذا استحضر آية لا يحل له أن يفسرها لاحتمال أن يكون (هنالك) آية آخرى ناسخة لها أو مقيدة أو مخصصة أو مبيّنة فلا بد للمفسر من حفظ القرآن كله. (هذا) ولا حاجة (له) بطلبه لأن التفسير من قام به موجود في الكتب. وأقل التفسير يحتاج فيه إلى المشاركة في العلوم المشترطة في المفسر ما ينقل ليفهم. ونحن الآن ناقلون لا يلزمنا حفظ القرآن كله.
1 / 61
ولقد كان الفقيه أبو القاسم بن القصير (أ) مدرسًا بمدرسة ابن اللوز يفسر القرآن فيها، وكان لا يحفظه فأنكر عليه أبو الحسن على العبيدلي (ب) . وقال له: لا يحل لك التفسير حتى تحفظ القرآن كلّه. فأخذ ذلك منه بالقبول وأقبل على درس القرآن حتى حفظه. فقيل لابن عرفة: كيف يشترط حفظ القرآن في هذا وهو ناقل للتفسير فقط، وإنما يشترط ذلك في المنقول عنه؟ فقال: ألا ترى أنا لا نجيز الفتوى (والتدريس) لمن ينظر في مسألة واحدة في الكتب حتى يشخص جميع مسائل الكتب كلها إذ قد يكون بعضها مقيدًا لبعضها. فكذلك هذا فلعل مفسرًا آخر يستحضر آية تقيدها، أو نحو ذلك، فتحصّل من هذا أنّ فرض الكفاية باعتبار أصل التفسير (قد ارتفع) قبل أن يقع البعض به وفرض الكفاية باعتبار نقل التفسير لم يزل باقيًا. قيل لابن عرفة: بل نقول: إنه فرض عين ويجب على من يقرأ (القرآن) أن يفهم المعنى؟ فقال: كان الصحابة في الزمن الأول (يعلمون) الإعجام لألفاظ القرآن بدون معانيه، وإن كان قد قال الفقهاء: فيما إذا اجتمع الأفقه والأقرأ: إنّه يقدم الأفقه (ج)، وحملوا قوله ﷺ:
"
1 / 62
يؤم (القوم) أقرؤهم " (أ) على أن الأقرأ في ذلك الزمان هو الأعلم (إذ) كانوا يتعلمون مع التلاوة ما يتعلق به من الأحكام، والمعاني قاله ابن بشير (ب) وغيره. ويحكى أن سيدي الفقيه الصالح أبا العباس بن عجلان (ج) رأى رجلًا يضبط المصحف (بالأحمر) فأنكر عليه، وضربه ضربة في وجهه (بخوصة) (د) . ثم لقيه بعد ذلك فجعل يطلب منه (العفو) وندم على (ما فعله له)، ورأى أنّه لا يستحق به تلك العقوبة. ونقل عن العبيدلي أنه كان يمنع المؤدبين الذين لا يحسنون رسم المصحف من الإقراء. (وهكذا) كان العمل بتونس لا يقرئ إلا من يحسن الضبط (بقراءة) ورش (هـ) ولا يباع في الكتبيين إلا المصحف المصحح.
1 / 63
تفسير الإستعاذة
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (أ) قال ابن عرفة: الاستعاذة استجارة والاستجارة إبعاد والإبعاد نفي (والنفي) متعلق بالأخص ونفي الأخص لا يستلزم نفي الأعم فلا يلزم (من) الاستعاذة من هذا الشيطان المخصوص الاستعاذة من مطلق الشيطان. وأجاب بأن قال: النعت على قسمين: نعت تخصيص ونعت لمجرد الذم، فيقال إن هذا النعت مجرد الذم، (وكل) شيطان مرجوم.
1 / 64
قال الإمام مالك في المدونة: لا يتعوذ في المكتوبة (قبل القراءة) ولكن يتعوذ في قيام رمضان (أ) وإذا بدأ - وقال في المجموعة (ب) في قوله تعالى: ﴿فَإذَا قَرَأَتْ القُرْآنَ فَاسْتَعذِ بالله مِنَ الشَّيطَانِ الرَّجيمِ) ﴿ج) - إنّ ذلك بعد أم القرآن (إنْ) قرأ في الصلاة. قال اللّخمي (د): (الشأن فيمن) افتَتَح أن لا يتعوذ ورأى ذلك لأن الافتتاح بالتكبير ينوب عنه ويجزئ عنه. قال ابن عرفة: وإذا نسى الإستعاذة فإن أطال القراءة أتمّها ولم يعد وإن لم يكن أطال ففي رجوعه إلى الإستعاذة قولان. وكره له في العتبية (هـ)
1 / 65
الجهر بالاستعاذة في قيام رمضان ورأى أنّ الأمر بالاستعاذة على الندب. ابن رشد (أ): ووجه ما في المدونة الاتباع، وخفف في العتبية (ب) أيضًا تعوذ القارئ إذا أخطأ في الصلاة لأن (ذلك) من الشيطان. وحكى (أبو عمرو الداني) في (بحار البيان) (ج) في كيفيته ثلاثة أوجه: (إما أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، وإما أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، وإما أعوذ بالله من الشيطان الرجيم إنه هو السميع العليم) (وحكى) في كتاب (الإقناع) (د) أن الأولى أن تقول: أعوذ بالله القوي من الشيطان (الغوي) .
1 / 66
وقال الشاطبي (أ):
(إذا أردت الدهر تقرأ فاستعذ ... جهارا من الشيطان بالله مسجلا)
(على ما أتى في النحل يسرا وإن تزد ... لربك تنزيها فلست مجهلا)
(وقد ذكروا لفظ الرسول ولم يرد ... ولو صح هذا النقل لم يبق مجملا)
(ب) فظاهره أنّ الآي مجملة (هو خطأ لأن المجلم عند الأصوليين هو اللفظ المحتمل معينين فصاعدا على التساوي، وليست الآية كذلك بل هي عندهم من قبيل المطلق الذي يصدق بصورة) . قال: وعادتهم يجيبون عنه بأنه من قبيل الإجمال اللغوي لا الاصطلاحي. (ثم قال):
(وفيه خلاف في الأصول فروعه ... فلا تعد منها باسقا ومظللا)
(ج) ومراده بالأصول إما (الكتب المطوله) وإما أصول الفقه. وقوله الرَّجِيم: هو بمعنى مرجوم فإن أريد المرجوم بالشهب فالنعت للتخصيص والبيان، وإن أريد به أنه مرجوم باللّعنة، والمقت وعدم الرحمة فالنعت للتأكيد، لأن كل شيطان كذلك.
1 / 67
قلت: وتقدم لابن عرفة (في الختمة الثانية في عام سبعة وخمسين وسبع مائة)، قال أبو البقاء (أ): الشيطان فيعال من شطن يشطن إذا بعد، ويقال فيه: شاطن وشيطان وسمي بذلك كل متمرد لبعد (غوره) (في الشر) وقيل: هو (فعلان) من شاط يشيط إذا هلك (ب) . قال ابن عرفة: ورد هذا لمخالفة (قاعدة) الاشتقاق، لأن الشيطان فيه النون وشاط لا نون فيه - والرّجيم بمعنى مرجوم (وقيل) بمعنى فاعل أي يرجم غيره.
1 / 68
تفسير البسملة
﴿بِسْمِ اللهِ الرحمن الرَّحِيمِ﴾: قال ابن رشد في البيان (في رسم نذر سنة): لم يختلف قول مالك: إنّها لا تقرأ في الفريضة لا في أوّل الحمد، ولا في (أول) السورة التي بعدها لأنها ليست آية منها. (وليست) من القرآن إلا في سورة النمل: وإنما ثبت في المصحف الاستفتاح بها. قال: ويتحصل في قراءتها في أول الحمد في الفريضة أربعة (وجوه): قراءتها للشافعي - وكراهتها لمالك - واستحبابها لمحمد ابن مسلمة - والرابع قراءتها سرّا استحبابا -. وأما النافلة
﴿بِسْمِ اللهِ الرحمن الرَّحِيمِ﴾: قال ابن رشد في البيان (في رسم نذر سنة): لم يختلف قول مالك: إنّها لا تقرأ في الفريضة لا في أوّل الحمد، ولا في (أول) السورة التي بعدها لأنها ليست آية منها. (وليست) من القرآن إلا في سورة النمل: وإنما ثبت في المصحف الاستفتاح بها. قال: ويتحصل في قراءتها في أول الحمد في الفريضة أربعة (وجوه): قراءتها للشافعي - وكراهتها لمالك - واستحبابها لمحمد ابن مسلمة - والرابع قراءتها سرّا استحبابا -. وأما النافلة
1 / 69
فلمالك فيها في الحمد قولان، وله فيما عدا الحمد ثلاثة، فله في هذه الرواية القراءة، وله في رواية أشهب عنه عدمها إلا أن يقرأ القرآن في صلاته عرضا، وفي المدونة أنّه يخيّر - انتهى.
قال القاضي عماد الدين: ذهب مالك وأبو حنيفة إلى أنها ليست آية من الفاتحة ولا من أول كل سورة وذهب الشافعي وجماعة إلى أنها آية من الفاتحة وعنه في كونها آية من (أول) كل سورة قولان: «فمن أصحابه من حمل القولين على أنها من القرآن في أول كل سورة، ومنهم من حملها على أنها هل هي آية برأسها في أول كل سورة أو هي مع كل آية من أول كل سورة آية؟
ونقل السهيلي» في الروض الأنف (عن) داود وأبي حنيفة أنها آية مقترنة مع السورة.
1 / 70
ابن عرفة: قيل البسملة آية من كل سورة.
فقال الغزالي في المستصفى: معناه أنها آية مع كل سورة وليست جزءا من كل سورة.
وقال غيره: معناه أنها آية أي جزء من كل سورة.
وورد في الحديث عن عائشة ﵂: (ما كنا نعلم تمام السورة إلا بالبسملة) فظاهره (أنها) تكرر إنزالها مع كل سورة مثل ﴿فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ﴾ وظاهر غيره من الأحاديث أنه لم يتكَرر فإذا قلنا: إنها مع أول كل سورة فكيف (تصح) قراءة ورش بإسقاطها. قال: لكن يجاب بما (قال) ابن الحاجب بتعارض الشبهات: أي أن كل واحد من الخصمين يرى أن ما أتى به خصمه شبهة أعني دليلا باطلا وهما قويان فتعارضت الشبهات.
قال ابن عرفة: ولا بد من زيادة ضميمة أخرى وهي الإجماع على أنها قرآن من حيث الجملة، فلذلك صح التعارض.
1 / 71
قال بعضهم: والنافي هنا دليله أقوى، وظاهر كلام ابن عطية في آخر سورة الحمد (أنّ عدد آي السور قياسي لا سماعي) لأنّه قال: أجمع الناس على أنّ (عدد) آي الحمد سبع. (ربّ) العَالمين آية - الرّحْمَان الرحِيمِ آية - (مَالِكِ يَوْمِ) الدّينِ آية - نَسْتَعينُ آية - أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ آية - وَلاَ الضّالّينَ آية.
ونص الغزالي (في المستصفى) على أنه مسموع وكذلك قال الزمخشري في أول سورة البقرة في تفسير قوله: الم.
قال الزمخشري: وذكر الزجاج أنه يفخم (لاَمَهُ) وعلى ذلك العرب كلهم وإطباقهم عليه دليل على أنهم ورثوه كابرا عن كابر.
قال ابن عرفة: إنما يفخم في الرفع، والنصب أما الخفض فلا.
1 / 72
قال ابن عرفة: وكان الفقيه أبو عبد الله محمد بن سعيد (بن عثمان) بن أيوب (الهزميري) يحكي عن علماء الشافعية بالمشرق أنهم يقسمون البسملة ثلاثة أقسام: قسم هي فيه آية في أول الفاتحة، وقسم هي فيه بعض آية، وذلك في (سورة) النمل، وقسم بعضها فيه آية، وهو: ﴿الرحمن الرَّحِيمِ﴾ .
﴿بِسْمِ اللهِ﴾:
إما متعلق بفعل أو اسم وقدّره الزمخشري (في) «بسم الله أقرأ وأتلو» وقدره ابن عطية: بِسم الله أبتدئ.
قال (ابن عرفة): وكان الشيوخ يستصوبون تقدير الزمخشري، فإنه يجعل (قراءته) من أولها إلى آخرها مصاحبة لاسم الله تعالى.
وقد قال الشيخ عز الدين في قواعده: في قول الإنسان عند الأكل ﴿بِسْمِ اللهِ﴾ معناه: آكل باسم الله، وليس معناه:
1 / 73
أبدأ باسم الله، ولهذا كانوا ينتقدون على الشاطبي في قوله: في (النّظم) أولا «وهلا قال» نظمت باسم الله (في الذكر أولا «) . (حتى تكون التسمية مصاحبة له في جميع نظمه)
فإن قلت: لِمَ قدر الفعل متأخرا؟
فالجواب: (إنّه إنما) قدره كذلك ليفيد الاختصاص لأنهم كانوا يقولون: واللاّت والعزى ويبدؤون بآلهتهم، قُدّم اسم الله هنا (للتوجيه والحصر) كما في إياك نعبد.
وابن أبي الربيع وغيره كانوا يقولون: إنّما قدم بِسْمِ الله (هنا) للاهتمام به.
1 / 74
قوله تعالى: ﴿الرحمن الرَّحِيمِ﴾:
إن قلت: لِمَ قدم الوصف بالرّحمان مع أنه أبلغ على الوصف بالرحيم فيلزم أن يكون تأكيدا للأقوى بالأضعف.
1 / 75
(فأجيب) (بوجهين):
- الأول: الرّحمان لما كان خاصا بالله تعالى جرى مجرى (الأسماء) الأعلام التي تلي العوامل فقدم على الرحيم.
1 / 76
- (الثاني): إن الرّحمان دال على جلائل النعم والرّحيم على دقائقها. قاله الزمخشري.
قال ابن عرفة: وكان (يسبق) لنا تقريره بأنّهما يختلفان (
1 / 77
باعتبار) المتعلق، فالرحمة قسمان لأنّ الرحمة بالإنقاذ من الموت أشد من الرّحمة بإزالة شوكة، فقد يرحم الإنسان عَدُوّهُ بالإنقاذ
1 / 78