{ فإن لم تفعلوا } فإن لم تفعلوا الإتيان أنتم في حين التحدي والمعارضة { ولن تفعلوا } أيضا بعدما رجعتم إليهم، فلا تكابروا ولا تنازعوا، بل انقادوا وامتثلوا بأوامر الكتاب المنزل على عبدنا، واجتنبوا عن نواهيه { فاتقوا النار التي } أخبر فيه بأنه { وقودها } أي: ما يتقد به النار { الناس } الذين يعبدون غير الله { والحجارة } التي هي معبوداتهم التي نحتوها بأيديهم وما { أعدت } هذه النار إلا { للكفرين } [البقرة: 24] الجاهلين طريق توحيد الحق، والمكذبين كتاب الله ورسوله المنزل عليه.
{ وبشر } المؤمنين الموقنين الموحدين { الذين آمنوا } بالكتاب المنزل على عبدنا { وعملوا الصلحت } المؤمنون فيه، واجتنبوا عن الفاسدات المنهي عنها { أن } أي: حق وثبت { لهم } بعد رفع القيود { جنت } متنزهات من العلم والعين والحق التي هي المعارف الكلية المخلصة عن جميع القيود المنافية للتوحيد { تجري من تحتها الأنهر } أنهار المعارف الجزئية المترتبة على تلك المعارف الكلية { كلما رزقوا } حظوا منها؛ أي من تلك المعارف الكلية { منها من ثمرة } حاصلة من شجرة اليقين { رزقا } حظا كاملا يخصلهم من رتبة الإمكان { قالوا } متذكرين العهود السابقة: { هذا الذي رزقنا من قبل } من الأعيان الثابتة، أو في عالم الأسماء والصفات، أو في اللوح المحفوظ، أو في عالم الأرواح إلى غير ذلك من العبارات، ومن غايات التلذاذهم ونهاية شوقهم والتذاذهم بالثمرة المحظوظ بها { وأتوا به } متماثلا { متشبها } متجددا بتجدد الأمثال { ولهم فيهآ } في تلك المرتبة الكلية { أزوج } أعمال صالحة ونيات خالصة { مطهرة } عن شوائب الأغيار المانعة عن الوصول إلى دار القرار { وهم فيها } في تلك المراتب { خلدون } [البقرة: 25] دائمون يداومه، باقون ببقائه، مستغرقون بمشاهدة لقائه سبحانه. أرزقنا بلطفك حلاوة التحقيق وبرد اليقين.
[2.26-28]
ثم لما طعن الكفار في غاية استكبارهم وعتوهم ونهاية استعظامهم نفوسهم، واعتقادهم الأصالة في الوجود، والاستقلال بالآثار المترتبة عليه الصادرة منهم ظاهرا على الكتاب، والرسول المنزل عليه قائلين بأن ما جئت به وسميته وحيا نازلا إليك من عند الله الحكيم لا يدل على كلام من يعتد به ويعتمد عليه، فضلا عن أن يدل على أنه كلام الحكيم المتصف بجميع أوصاف الكمال المستحق للعبادة؛ لأن ما مثل به فيه هي الأشياء الخسيسة الخبيثة والضعيفة الحقيرة، مثل الكلب والحمار والذباب والنمل والنحل والعنكبوت وغيرها، والكلام المشتمل على أمثال هذه الأمثار لا يصدر من الكبير المتعال؟!
رد الله عليهم وروج أمر نبيه - صلوات الله عليه - فقال: { إن الله } المستجمع لجميع الأوصاف والأسماء، المقتضية لظواهر الكائنات، المرتبة لمراتب الموجودات الظاهر على جميع المظاهر بلا تفاوت، كظهور الشمس وإشراقها على جميع الآفاق، وسريان الروح في جميع الأعضاء { لا يستحى } استحياء من في فعله ضعف وعافية وضيعة، بل الله سبحانة { أن يضرب مثلا } بمظهر { ما } من المظاهر غير المتفاوتة في المظهرية؛ إذ له بذاته من جميع أوصافه وأسمائه ظهور في كل ذرة من ذرائر العالم بلا إضافة، فلا تفاوت في المظاهر عنده، وما ترى في خلق الرحمن من تفاوت، وسواء كانت { بعوضة } مستحقرة عندكم أو أحقر منها { فما فوقها } في الحقارة والخساسة كالبق والنمل، فلا يبالي الله في تمثيلها؛ إذ عند الكل على السواء { فأما الذين } صدقوا النبي الأمي صلى الله عليه وسلم و { آمنوا } بما جاء به من عند ربه { فيعلمون } علما يقينا أن التمثيل بهذه الأمثال { أنه الحق } الثابت الصادر { من ربهم } الذي رباهم بكشف الأمور على ما هي عليه.
{ وأما الذين كفروا } أعرضوا عن تصديق الله ورسوله { فيقولون } مستهزئين متهكمين على سبيل الاستفهام { ماذآ أراد الله } المقدس عن جميع الرذائل المتصف بالأوصاف الحميدة { بهذا } الحقير الخسيس بأن يضرب { مثلا } بهذا تعريض على رسول الله صلى الله عليه وسلم بأبلغ وجه؛ يعني: ما جئت به من عندك كلمات مفتريات بعضها فوق بعض، أسندته إلى الله لتروجها على أولي الأحلام الضعيفة، ومن غاية استكبارهم ونهاية جهلهم المقتضي لعمى القلب لم يروا الحكمة في تمثيله، ولم يعلموا أنه { يضل } الله باسمه المنتقم { به } بسبب إنكار هذا المثال { كثيرا } من المستكبرين المستحقرين بعض المظاهر { ويهدي به كثيرا } من الموحدين الموقنين الذين لا يرون في المظاهر إلا الله، ففي هذا المشهد لا يسع الإضافات المستلزمة للاستعظام والاستحقار، بل سقط هناك جميع الاعتبار، ثم بين سبب إضلاله له فقال: { وما يضل به إلا الفسقين } [البقرة: 26].
{ الذين } يخرجون عن طريق التوحيد باستحقار بعض المظاهر { ينقضون } يفصمون { عهد الله } الذي هو حبله الممدود من أزل الذات إلى أبد الأسماء والصفات سيما { من بعد } توكيده بذكر { ميثقه } الموثق بقوله:
ألست بربكم
[الأعراف: 172]، وقولهم:
بلى
Página desconocida