[النور: 40].
اذكر يا أكمل الرسل لمن تبعك من مدائحها وقت { إذ قالت الملائكة } منادين على سرها مبشرين لها: { يمريم } المخترة المصطفاه { إن الله } المتفضل عليك بأنواع اللطف والكرم { يبشرك بكلمة } صاردة { منه } مكونة لك منك ابنا بلا أب؛ إظهارا لقدرته ليكون معجزة لابنك، وإرهاصا لك { اسمه } من عنده { المسيح } لفظ سرياني معناه: المبارك؛ لأنه سبحانه بارك عليه، وعلمه الشخصي بين الأنام { عيسى } وهو من الأعلام العجمية، وكنيته { ابن مريم } إذ لا أب له حتى يكنى به، وهو مع كونه بلا أب { وجيها } مشهورا معروفا مرجعا للأنام { في الدنيا } بالنبوة والرسالة، يتوجه إليه الناس في أمور معاشهم ومعادهم { و } في { الآخرة } أيضا لرجوعهم إليه للشفاعة { و } كيف لا يشفع للعصاة وهو { من المقربين } [آل عمران: 45] عند الله.
{ و } علاقمة تقربه أنه { يكلم الناس } بما يتعلق بأمور الدنيا والدين حال كونه طفلا { في المهد و } حال كونه { كهلا } على طريق واحد بلا تفاوت زيادة ونقصان { و } هو لنجابة عرقه في حالتي الطفولة والكهولة { من الصالحين } [آل عمران: 46] للرسالة والنبوة.
[3.47-50]
فلما سمعت مريم ما سمعت تضرعت إلى ربها واشتكت حيث { قالت رب } يا من رباني بالستر والصلاح والعبادة والفلاح { أنى } من أين { يكون لي ولد و } وأنت تعلم يا رب أني { لم يمسسني بشر } ومن سنتك إيجاد الولد بعد مباشرة الزوج؟ { قال } سبحانه إشفاقا لها وإزالة لشكها: { كذلك } أي: مثل حالتك التي تعجبين منها، وهي ولادتك بلا مساس أحد وجود جميع الأشياء الظاهرة من كتم العدم ظهورا إبداعيا؛ إذ { الله } بقدرته { يخلق } يظهر جميع { ما يشآء } بلا سباق مدة ومادة بل { إذا قضى } أراد { أمرا } إيجاد أمر وإظهاره من الأمور المكانية الثابتة في حضرة العلم { فإنما يقول له } تنفيذا لقضائه مجرد كلمة: { كن فيكون } [آل عمران: 47] بلا تراخ ولا مهلة، بلا توقف على شرط وارتفاع مانع، وحالك التي تتعجبين منها وتستبعدين وقوعها من هذا القبيل.
ولا تحزني ولا تخافي من التهمة والفضيحة والتعبير والتشنيع؛ إذ لابنك خصائص ومعجزات رفعت عنك جميع ما يعيبك ويشينك؛ إذ لا يشتبه على ذي عقل إن ولد الزنا لا يتصف بأمثال هذه الخصائل والخوارق { و } من جملتها أنه { يعلمه } من لدنه لا تعليم أحد { الكتب } أي: العلوم المتعلقة بالأمور الظاهرة والتدابير الملكية الشهادية { والحكمة } أي: العلوم الباطننة المتعلقة بالحقائق الغيبية { و } يعلمه أيضا { التوراة } المنزل على موسى صلوات الله عليه { و } ينزل عليه خاصة { الإنجيل } [آل عمران: 48] من عنده.
{ و } بعد إنزال الإنجيل يرسله { رسولا إلى بني إسرائيل } يدعوهم إلى طريق الحق ويهديهم إلى صراط مستقيم، ويؤيده بالآيات الساطعة والمعجزات الباهرة الظاهرة من يده الدالة على تصديقه إلى حيث يقول: { أني } بأمر ربي { قد جئتكم بآية } دالة على نبوتي ورسالة نازلة { من ربكم } وهي { أني أخلق } أصور وأقدر { لكم } بين أيديكم بإقدار الله أياي { من الطين } الجماد صورة { كهيئة } كصورة { الطير } ومثاله جمادا بلا حس وحركة { فأنفخ فيه } أي: في ذلك المثال { فيكون طيرا } حيوانا طيارا مثل سائر الطيور، ذلك التقدير والنفخ يصير صادرا مني { بإذن الله } بقدرته وإرادته { و } كذا { أبرىء الأكمه } المكفوف العينين { والأبرص } الذي لا يرجى يرؤهما { و } أعظم من جميع ذلك أن { أحي الموتى } القديمة كل ذلك { بإذن الله } وقدرته وإرادته، فهو إجمالا لا إطلاع لكم على لميته بعد وقوعها أيضا { و } مما لكم إطلاع عليه بعد قوعه { أنبئكم } أخبركم { بما تأكلون } من الطعام والفواكه { وما تدخرون } منها { في بيوتكم إن في ذلك } المذكور من المعجزات والخوارق التي ما جاء به أحد { لآية } ظاهرة دالة على نبوتي ورسالتي { لكم } لإهدائكم { إن كنتم مؤمنين } [آل عمران: 49] بالله وإرسال الرسل وإنزال الكتب.
{ و } مع هذه الآيات والمعجزات الظاهرة الباهرة جئتكم { مصدقا لما بين يدي من التوراة } المنمزل على موسى - صلوات الرحمن عليه - بل على جميع الكتب المنزلة على الأنبياء الماضين - صلوات الله عليهم أجمعين - وأديانهم وشرائعهم؛ إذ من جملة أمارات النبوة تصديق الأنبياء الذين مضوا من قبله { و } جئتكم أيضا { لأحل لكم } في دينكم، وملتكم المنزلة من عند الله علي { بعض الذي حرم عليكم } في الأديان الماضية؛ إذ من سنته سبحانه نسخ بعض الأديان ببعض، وإن كان الكل نازل من عنده، ولمية أمر النسخ ما مر في سورة البقرة في قوله:
ما ننسخ من آية
[البقرة: 106] { و } الحاصل أني { جئتكم بآية } قاطعة ساطعة { من ربكم } دالة على توحيده سبحانه، أفردها من عنده باعتبار أن كل واحد من المذكورات يكفي لثبوت نبوته، وبعدما ظهر منه الكل { فاتقوا الله } أي: فاحذروا الله من غضبه ألا تؤمنوا بعد وضوح الدلائل { وأطيعون } [آل عمران: 50] في جميع ما جئت به من عنده سبحانه.
Página desconocida