395

وقد تحقق عندنا أيضا { إنه من يأت ربه } القادر على الانتقام والإنعام { مجرما } مشركا طاغيا { فإن } أي: حق وثبت { له جهنم } التي هي دار البعد والخذلان أبدا { لا يموت فيها } حتى يستريح { ولا يحيى } [طه: 74] أيضا حياة يستفيد بها.

وثانيا إنه { ومن يأته مؤمنا } موقنا بذاته وصفاته وأفعاله، ومع ذلك { قد عمل الصالحات } بمقتضى أوامره { فأولئك } المؤمنون الصالحون { لهم } لا لغيرهم من الصالحين { الدرجات العلى } [طه: 75] القريبة إلى الدرجة العليا التي انتهت إليها جميع الدرجات، وهي { جنات عدن تجري من تحتها الأنهار } أي: أنهار المعارف والحقائق لأولي البصائر والأبصار الناظرين بعيون الاعتبار المستغرقين بمطالعة جمال الله بلا مزاحمة الأغيار { خالدين فيها } بلا ملاحظة زمان ومقدار { وذلك جزآء من تزكى } [طه: 76] من ذمائم الأخلاق ورذائل الأطوار.

[20.77-87]

وكيف لا يكون للتزكية هذه الآثار! { ولقد أوحينآ } من عندنا { إلى موسى } المختار بعدما هذبنا ظاهره عن ذمائم الأخلاق ورذائل الأطوار، وحلينا باطنه بأنواع المكاشفات والأسرار، إنجاء له ولقومه من يد الكفار حين عزم عليه فرعون الغدار { أن أسر بعبادي } أي: سر ليلا معهم على صورة الفرار، فمتى أخبروا بذلك، اتبعوا أثرك بمقتضى الاغترار، ومتى أردفك العدو وقربوا أن يدركوا، ومنعك البحر من العبور، قلنا لك: { فاضرب لهم } بعصاك المعين في الأمور البحر؛ ليكون لك معجزة وظهر لهم { طريقا في البحر يبسا } جافا لا وحل فيها؛ لئلا يخافوا من الغرق ومن ورائك العدو، وأنت أيضا { لا تخاف دركا } أي: أن يدركك فرعون { ولا تخشى } [طه: 77] أن يغرقك البحر، فضرب البحر بأمر به بعدما سار بإذنه، فسلك فيه مسلك قومه خلفه، فعبروا، فصول فرعون وملؤه الأرض، فرأوا عبورهم من الطريق اليابس.

{ فأتبعهم فرعون بجنوده } بلا تراخ فدخلوا اغترارا بيبسه { فغشيهم } أي: غطاهم وسترهم { من اليم } أي: البحر { ما غشيهم } [طه: 78] أي: غشاوة عظيمة بحيث يكون البحر كما كان، فهدى موسى قومه فأنجيناهم امتنانا عليه وعليهم { وأضل فرعون قومه } باتباعهم بني إسرائيل على الفور { وما هدى } [طه: 79] وأرشد لهم طريق المخلص، فأغرقناهم متبوعا وتابعا زاجرا عليه وعليهم.

ثم بعد إنجائنا بني إسرائيل من عدوهم وإهلاك عدوهم بالمرة، وإيراثهم أرضهم وديارهم وأموالهم، نبهنا عليهم التوجه والرجوع إلينا بتعديد نعمنا التي أنعمناهم؛ ليواظبوا على شكرها أداء لحق شيء منها، حتى يكونوا من الشاكرين المزيدين لنعمنا إياهم.

لذلك ناديناهم ليقبلوا إلينا، ويعلموا أن الكل من عندنا: { يبني إسرائيل } المنظورين بنظر الرحمة والشفقة { قد أنجيناكم } أولا بقدرتنا { من عدوكم } الغالب القاهر عليكم { و } أنجيناكم ثانيا عن جرائم تقصيراتكم بامتثال الأوامر الوجوبية حال { واعدناكم } نزول التوراة بصعودكم { جانب الطور } لا جميع جوانبه بل جانبه { الأيمن } ذا اليمن والكرامة؛ ليشير إلى العفو عن التقصير { و } أنجيناكم ثالثا عن شدائد التيه من جوعه وعطشه وحره وبرده بأن { نزلنا عليكم المن } الزنجبين { والسلوى } [طه: 80] السماني.

وأمرناكم بالأكل منهما مباحا بأن قلنا: { كلوا من طيبات ما رزقناكم } بعد تحملكم شدائد الابتلاء واشكروا لنعمنا لنزيدهم { ولا تطغوا فيه } أي: لا تضلوا بإسناد النعم إياكم إليكم لا إلينا، مثل فرعون وقومه، وإن كنتم مثلهم في كفرانها { فيحل } أي: فينزل { عليكم غضبي } ألبتة مثل حلولهم { و } اعلموا أن { من يحلل عليه غضبي فقد هوى } [طه: 81] سقط عن درجة الاعتبار والتقرب.

{ و } إن ابتليتم بحلول الغضب لا تيأسوا عن نزول الرحمة بعد التوبة؛ إذ { إني } بعد رجوعكم إلي بالإخلاص { لغفار } ستار { لمن تاب } عما جرى عليه { وآمن } بعد التوبة تأكيدا للإيمان السابق { وعمل صالحا } بعد ذلك نادما على ما مضى من العصيان { ثم اهتدى } [طه: 82] بالأخلاص والعمل الصالح إلى درجات القرب واليقين.

ولما كان موسى حريصا على أهداء قومه لشفقته عليهم، تسارع إلى تصفيتهم، واختار منهم سبعين رجلا من خيارهم حتى يذهبوا معه إلى الطور ليأخذوا التوراة، فساروا معه، فسارع موسى في الصعود شوقا إلى لقاء ربه، وأمرهم أن يتبعوه في الارتقاء إلى الجبل، فوصل موسى الموعد قبل وصولهم.

Página desconocida