360

ومن كمال تنعمهم وترفههم يكونون { متكئين فيها على الأرآئك } والسرر، متمكنين عليها جزاء ما حملوا من المتاعب والمشاق في مواظبة الطاعات وملازمة العبادات، وبالجملة: { نعم الثواب } والجزاء جزاء أهل الجنة وثوابهم { وحسنت } المتنزهات الثلاثة { مرتفقا } [الكهف: 31] يرتفقون وينتفعون فيها أهل الكشف والشهود، بما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.

ثم أمر سبحانه حبيبه صلى الله عليه وسلم بضرب المثل لتوضيح حال المؤمن والكافر، ومآل أمرهما فقال: { واضرب لهم } يا أكمل الرسل { مثلا } بينا موضحا كان { رجلين } من بني إسرائيل هما أخوان؛ أحدهما مؤمن موحد، والآخر كافر مشرك مات أبوهما، وورثا منه أموالا عظاما فاقتسما، فصرف المؤمن ماله في سبيل الله وأنفق للفقراء واليتامى وأبناء السبيل، واشترى الكافر مكاسب ومزارع وكثر ماله إلى أن { جعلنا لأحدهما } أي: للكافر ابتلاء له واختبارا { جنتين } بستانين { من أعناب } وكروم { وحففناهما } أي: أ؛طنا كلا منهما { بنخل } لتزيد حسنا وبهاء { وجعلنا بينهما } أي: بين الجنتين { زرعا } [الكهف: 32] مزرعا ومحرثا للحبوب والأقوات من الحنظة والشعير وغيرهما.

{ كلتا الجنتين } كملتا إلى أن { آتت } وأثمرت كل منهما { أكلها } ثمرتها كاملة وافرة في كل سنة { ولم تظلم منه شيئا } أي: لم تنقص ثمرتها وحاصلهما من كل منهما شيئا من النقصان كما هو المعهود في سائر البساتين، فإن ثمرها يتوفر في عام وينقص في أخرى { و } مع ذلك { فجرنا } وأجرينا { خلالهما } أي: أوساط الجنتين { نهرا } [الكهف: 33] سقيهما.

{ و } مع تينك الجنتين المذكورتين { كان له ثمر } أي: اموال عظام وأمتعة كثيرة من أنواع الأجناس والنقود والجواهر والعبيد وغير ذلك، { فقال } الآخر الكافر يوما على سبيل البطر والمباهاة { لصاحبه } أي: للأخ المؤمن { وهو يحاوره } ويخاطبه بعض الأموال والزخارف عليه، ويشنع عليه، ويعيره ضمنا، ويقرعه تقريعا خفيا، إلى أن بطرا: { أنا أكثر منك مالا } وبالأموال تقتضي الأماني، وتنال اللذات والشهوات { وأعز نفرا } [الكهف: 34] أبناء وعشائر وأحشاما وخدمة يظاهرن ويعانون علي لدى الحاجة، ويجالسون ويصاحبون معي في الحضر والسفر.

[18.35-45]

{ و } من شدة بطره وخيلانه: { دخل } يوما { جنته } التي ذكر وصفها { وهو ظالم لنفسه } بعرضها على عذاب الله وأنواع عقابه بكفره بالله، وبطره بحطام الدنيا، وإعجابه على نفسه اتكالا على ثروته وجاهه وكثرة أعوانه وأنصاره { قال } من طول أمله وحرصه وشدة غروره وغفلته: { مآ أظن } بل ما أشك وأوهم { أن تبيد } أي: تنهدم وتنعدم { هذه } الجنة { أبدا } [الكهف: 35] بل هي على هذا القرار والنضارة دائما.

{ و } أيضا { مآ أظن } وأعتقد { الساعة } الموعودة التي أخبر بها أصحاب الدعاوي من الأنبياء والرسل { قائمة } آتية البتة بلا تردد وشك حتى تنهدم وتنعدم هذه بانعدام العالم وانقراضها { ولئن رددت } هبني أن فرضت وقدرت قيام الساعة وانقضاء النشأة الدنياوية على ما زعموا وبعثت من قبري على الوجه الذي ادعو ورددت { إلى ربي } للحساب والجزاء وعرض الأعمال وتنقيدها { لأجدن } ألبتة جنة في العقبى { خيرا منها } أي: من هذه الديناوية فآخذها { منقلبا } [الكهف: 36] أي: مرجعا ومنزلا كما أخذت هذه في الدنيا، وإنما يقول ذلك على سبيل الاستهزاء والاستخفاف، يعني: إني حقيق حري بتلك المرتبة في الدنيا والآخرة، إن فرض وجودها، فأنا حري بذلك فيها أيضا.

ثم لما تمادى في المباهاة والمفاخرة، وتطاول كلامه في الغفلة والغرور والإنكار على الله وكمال قدرته وقوته، وسرعة نفوذ قضائه وحكمه المبرم متى تعلق إرادته { قال له صاحبه } المؤمن { وهو يحاوره } على سبيل العظة والتذكير وأنواع التسفيه والتعبير: { أكفرت } وأنكرت أيها المفسد الطاغي { بالذي خلقك } أي: قدر أولا مادتك { من تراب } خسيس مزدول إلى أن صرت بكثرة التبدلات والتغييرات نطفة مهينة { ثم } قدرها ثانيا { من نطفة } دنيئة يستحقرها بل يستخبثها جميع الطباع { ثم سواك } منها وعد لك شخصا سويا سالما ورباك بأنواع اللطف والكرم إلى أن صرت { رجلا } [الكهف: 37] رشيدا عاقلا بالغا كافلا للأمور والوقائع، كافيا لإحداث الغرائب والبدائع، وافيا في جميع المضار والمنافع.

ثم كلفك بالإيمان والمعرفة والإتيان بالأعمال الصالحة والإذعان بالنشأة الأخرى، وما يترتب عليها من العرض والحساب والسؤال والجزاء وجميع المتعقدات الأخروية، فاستنكرت واستكبرت إلى أن كفرت عنادا ومكابرة، فستعرف حالك فيها أيها الطاغي الباغي المستحق لأنواع العذاب والعقاب { لكنا } أي: لكن أنا لا أكفر وأنكر مثلك ربي الذي أظهرني من كتم العدم ولم ألك شيئا مذكورا، وقدر مادتي من التراب الأدنى والأرذل من المني الأخس الأنزل، ثم عدلني وسواني رجلا رشيدا كاملا في العقل الرشد؛ لأعرف ذاته فأعبده، وأشكر نعمه، وأؤدي حقوق كرمه، وأتوجه نحوه، وأتضرع إليه، وأصدق رسله وكتبه وجميع ما فيها من الأمور والنواهي والمعتقدات التي وجب الاعتقاد بها من الأمور المتعلقة بالنشأة الأولى والأخرى.

فكيف أنكره وأكفر بنعمه وأنسى حقوق لطفه وكرمه؛ إذ { هو الله ربي } ورب جميع من في حيطة الوجود من الأظلال والعكوس، وهو المستقل في الوجود والألوهية والربوبية، وهو المتوحد المتفرد بالقيومية والديمومية { ولا أشرك بربي } الذي رباني بأنواع اللطف والكرم { أحدا } [الكهف: 38] سواه؛ إذ لا شيء في الوجود إلا هو.

Página desconocida