{ ذلك } الذي سمعت من العذاب { جزآؤهم } أي: جزاء المنكرين الكافرين، وإنما عذبناهم بها { بأنهم } أي: بسبب أنهم { كفروا بآياتنا } الدالة على الحشر الجسماني { وقالوا } منكرين مستبعدين: { أءذا كنا عظاما و } صرنا { رفاتا } أي: هباء وغبارا { أءنا لمبعوثون خلقا } أي: مخلوقا موجودا { جديدا } [الإسراء: 98] مثل المخلوق الأول؟! كلا وحاشا.
{ أ } ينكرون الحشر وإعادة المعدوم بعينه، ويصرون على الإنكار أولئك المعاندون { ولم يروا } ولم يعلموا { أن الله } القادر المقتدر { الذي خلق السموت والأرض } خلقا إبداعيا اختراعيا بلا سبق مادة وزمان { قادر على أن يخلق مثلهم } بعد إعدامهم وموتهم، مع أن الإعادة أسهل وأيسر من الإنشاء والإبداء { و } لم يعلموا كيف { جعل } أي: صير وقدر { لهم أجلا } معينا { لا ريب فيه } متى وصلوا إليه ماتوا؛ بحيث لا يسمع لهم طالب التقديم والتأخير أصلا، ومع وضوح هذه الدلائل والشواهد { فأبى } وامتنع { الظالمون } الخارجون عن مقتضى العقل والنقل عن قبول الحق وتصديق الحق المطابق، للواقع، ما يزيدهم وروده ووضوحه { إلا كفورا } [الإسراء: 99] أي: جحودا وإنكارا للحق لخبث طينتهم ورداءة فطرتهم، متوهمين نفاد قدرة الله عند مراده وانقضاء تمكينه واقتداره لدى المقدور.
{ قل } للمنكرين المتوهمين نفاد قدرة الله وانصرام حوله وقوته عن مراده: لا تقيسوا الغائب على الشاهد، ولا تتوهموا الشح والبخل والعجز والاضطرار في حق الله بل الكل هو من أوصافكم وخواصكم؛ إذ { لو أنتم تملكون خزآئن رحمة ربي } مع سمعتها وعدم نفادها وتناهيها أصلا { إذا لأمسكتم } وبخلتم { خشية الإنفاق } أيك مخافة النفاد بالإنفاق بلا وضع شيء بدل ما ينفق { وكان الإنسان } خلق في أصل فطرته { قتورا } [الإسراء: 100] ممسكا لازدحام لوازم الإمكان الافتقار فيه؛ إذ هو أحوج المظاهر وأبعدهم عن الوحدة الذاتية؛ لأنه آخر نقطة قوس الإمكان، وهي نهاية الكثرة، وصار أول نقطة قوس الوجوب إن انخلع عن ملابس الإمكان، وتجرد عنها بالمرة بلا شوب شين ونقصانس.
{ و } من جملة كفورية الإنسان وفتوريته: أنا { لقد آتينا } من سعة رحمتنا وكمال حولنا وقدرتنا { موسى } المؤيد من عندنا { تسع آيات } أي: معجزات { بينات } واضحات دالة على صدقة في رسالته وحقيته في نوبته، وهي: العصا واليد البيضاء والجراد والقمل والضفادع ةالدم، وانفجار الماء من الحجر وانفلاق الحر ونتق الجبل فوقهم.
وإن شئت يأ أكمل الرسل زيادة إيضاح وإلزام المشركين اليهود { فسئل بني إسرائيل } أي: بقية أخبارهم؛ ليخبروك وقت { إذ جآءهم } موسى { فقال له فرعون } بعدما رأى منه ما رأى من الخوارق بدل من الإيمان الإطاعة { إني لأظنك يموسى } بعدما جئت بسحر عظيم وكيد كبير، وهو وإن كان من العقل والدارية: اعتقدك { مسحورا } [الإسراء: 101] مجنونا مخبطا مختل العقل بادعائك الرسالة والنبوة من خالق السماء ونزول الملك والمصحف إليك من عنده مع انسداد الطرق وانعدام السبل.
ثم لما سمع موسى من فرعون ما سمع آيس من إيمانه وقنط { قال } موبخا مقرعا: والله { لقد علمت } يقينا أن { مآ أنزل هؤلاء } الآيات القاهرة الباهرة إلي { إلا رب السموت والأرض } لكونها خارجة عن وسع غيره مطلقا، وعلمت أيضا أنه ما أنزله إلا { بصآئر } أي: بينات وشواهد دالة على صدقي في دعواي لتبصرك، وتوقظك عن مقام غفلتك، وتتفطن بها لأصل فطرتك وجبلتك { وإني } بعدما بالغت في تبليغ ما جئت من الهداية والإرشاد { لأظنك } وأعتقدك { يفرعون } المتناهي في الغفلة والغرور { مثبورا } [الإسراء: 102] مصروفا عن الخير مطرودا عن ساحة عز الحضور، مجبولا على الشر ودواعيه.
وبعدما رأى فرعون من موسى ما رأى من المعجزات الواضحات، خاف أن يميل إليه قومه ويؤمنوا له { فأراد } فرعون { أن يستفزهم } أي: بني إسرائيل، ويستأصلهم بأن يحركهم أولا { من الأرض } أي: أرض مصر، ويفرقهم بحيث لا يتأتى منهم المقاومة معه أصلا، ثم يأمر بقتل كل فرقة منهم مكرا منه وكيدا، فمكرنا له قبل مكره إياهم { فأغرقناه ومن } كانوا متفقين { معه } في مكره وكيده { جميعا } [الإسراء: 103] حين أمرنا موسى ومن معه بالفرار ليلا، فأخبر وأتبع أثره، فلقي موسى البحر وهو على عقبه، فأمرنا موسى بضرب البحر بالعصا، فضربه فانفلق وافترق وتشعب، فمر به موسى وأصحابه سالمين، فلقي فرعون على البحر الفور، فرأى البحر مفترقا فاقتحموا مغرورين، فأغرقناهم أجمعين بعدما أمرنا البحر بالخلط والاجتماع على ما كان.
{ وقلنا من بعده } أي: انقراض فرعون وانقضائه { لبني إسرائيل } على سبيل التوصية والتذكير في كتابنا المنزل عليهم، وهو التوراة { اسكنوا الأرض } التي أراد فرعون أن يستفزكم منها بالقهر والغلبة، آمنين صالحين مؤمنين بما أرسل إليكم وأنزل عليكم، عاملين بمقضتى أوامرنا ونواهينا { فإذا جآء وعد الآخرة } وقيام الساعة { جئنا بكم لفيفا } [الإسراء: 104] ملتفين مختلطين سعداؤكم مع أشقياءكم، فنميز بينكم، وندخلكم منزل الشقاوة والسعادة.
[17.105-111]
ثم قال سبحانه في حق القرآن ونزوله وعظم قدر من أنزل إليه: { وبالحق أنزلناه } أي: ما أنزلنا القرآن إلا ملتبسا بالحق المطابق للواقع بلا عروض الباطل عليه أصلا { وبالحق نزل } أي: ما نزل فيه من الأحكام والأوامر والنواهي والعبر والأمثال والرموز والإشارات والمعارف والحقائق، كلها نزل بالحق الصريح الثابت الخالص عن توهم الباطل مطلقا { و } أيضا { مآ أرسلناك } يا أكمل الرسل على كافة البرايا { إلا مبشرا } بالحق للمؤمن المطيع بأنواع الخيرات واللذات الروحانية المعنوية { ونذيرا } [الإسراء: 5] بالحق للكافر الجاحد عن أنواع العذاب العقاب الجسمانية والروحانية، وأرسلناك عليهم؛ لتكون داعيا لهم إلى التوحيد والعرفان تاليا لهم.
Página desconocida