{ قل } لهم يا أكمل الرسل على وجه التنبيه والإرشاد وبلسان التوحيد الذاتي بعدما انكشف لك: { لله } المنزله عن الأماكن والجهات المتجلي فيها { المشرق والمغرب } أي: جميع ما يتوهم من الزمان والمكان والجهة، إنما هي مظاهر ذاته ومجالي أسمائه وصفاته { يهدي } بحبه الذاتي { من يشآء } من عباده المتوجهين إلى جنابه { إلى صراط مستقيم } [البقرة: 142] موصل إلى ذاته من أي مكان كان، وفي أي وجهة وزمان؛ إذ هو محيط بكلها.
{ وكذلك } أي: مثل صراط المستقيم الموصل إلى ذاتنا المعتدل المتوسط بين الطرق { جعلناكم أمة وسطا } معتدلا قابلا للخلافة والنيابة، بل في تولية الأمور بين العباد { لتكونوا شهدآء } قوامين بالقسط { على الناس } الغافلين عن التوجه إلينا { و } كذلك أرسلنا إليكم رسولا منكم حتى { يكون الرسول عليكم شهيدا } حفيظا لكم عن طرق الإفراط والتفريط فيما صدر عنكم من الأمور، فعليكم أن تلازموا وتداوموا امتثال ما جاء به رسولكم من عند ربكم؛ لتكونوا مهتدين إليه سبحانه من الصراط المستقيم.
{ وما جعلنا } أي: قبلتك يا أكمل الرسل { القبلة التي كنت عليهآ } قبل هجرتك منها { إلا لنعلم } ولنميز ونفصل { من يتبع الرسول } الهادي إلى توحيد الذات { ممن ينقلب } يعود ويرجع { على عقبيه } قبل الوصول إلى توحيد الذات { وإن كانت } الوصلة إلى الوحدة الذاتية { لكبيرة } ثقيلة شاقة { إلا على الذين هدى الله } إلى ذاته بتوفيقهم على الإيمان ممن يرشدهم إليه { وما كان الله } المظهر لكم { ليضيع إيمانكم } به بعد توفيقكم إياه { إن الله بالناس } المؤمنين بالرسول المرشد إلى توحيد الذات الموقنين بما جاء به من عند ربه { لرءوف } عطوف { رحيم } [البقرة: 143] مشفق يوصلهم إلى ما يظهرم لأجله بفضله وطوله.
[2.144-147]
ولما انكشف له صلى الله عليه وسلم توحيد الذات واستغرق فيها وتوجه وحوها، وانسلخ عن الأفعال والصفات بالمرة، انتظر صلى الله عليه وسلم الوحي المطابق لهذا الانكشاف بحسب الصورة أيضا، فقال سبحانه: { قد نرى } نطلع ونعلم حين انكشافك بذاتنا { تقلب وجهك في السمآء } منتظرا للوحي المتضمن للتوجه الصوري { فلنولينك } بعد انكشافك المعنوي { قبلة } صورية { ترضاها } مناسبة لقبلتك المعنوية { فول وجهك } يا أكمل الرسل صورة { شطر } جهة { المسجد الحرام } الذي يحرم فيه التوجه إلى غير الذات البحث المسقط للإضافة { و } لا تختص بهذه الكرامة لك، بل تسري منك إلى من تبعك من المؤمنين { حيث ما كنتم } من مراتب الوجود { فولوا وجوهكم } الفائضة لكم إيها المؤمنون من ربكم { شطره } لتكونوا من المنكشفين به المهتدين بذاته { وإن الذين أوتوا الكتاب } من اليهود والنصارى { ليعلمون } يقينا بشهادة كتبهم ورسلهم { أنه } أي: شأن انكشافك وتحققك بالتوحيد الذاتي { الحق } الثابت المنزل { من ربهم } أي: رباهم بإعطاء العقل المميز بن الحق والباطل، والمحق والمبطل، ومع ذلك ينكرون عنادا { وما الله بغافل عما يعملون } [البقرة: 144] من الإخفاء والستر بعد الوضوح والكشف.
{ و } الله { لئن أتيت } يا أكمل الرسل { الذين أوتوا الكتاب بكل آية } نازلة لك دالة على توحيد الذات الذي هو مقصدك وقبلتك { ما تبعوا قبلتك } لانهماكهم في الغفلة والضلالة { ومآ أنت } أيضا بعدما انكشف لك الأمر يقينا { بتابع قبلتهم } التي توجهوا إليها ظنا وتخمينا { و } أيضا { ما بعضهم بتابع قبلة بعض } لتفاوت ظنونهم وآرائهم { و } الله { لئن اتبعت } أنت يا أكمل الرسل { أهواءهم } الباطلة { من بعد ما جآءك من العلم } اليقيني المطابق للعين بل للحق { إنك } مع اصطفائنا إياك واجتنابنا لك { إذا لمن الظالمين } [البقرة: 145] المعرضين عنا بعد توفيقنا إياك وإرشادنا لك إلى الكعبة الحقيقة.
هذا تهديد لرسول الله صلى الله عليه وسلم بعد تهديد وحث له صلى الله عليه وسلم لدوام التوجه على ما اكشف له من توحيد الذات، تحريض للمؤمنين على متابعته صلى الله عليه وسلم في دوام التوجه والميل إليه، ومثله في القرآن كثير.
ثم قال سبحانه: { الذين آتيناهم الكتاب } المبين لهم طريق توحيد الصفات والأفعال، المنبه لهم على توحيد الذات، وعلى من يظهر به وهم { يعرفونه } بالأوصاف والخواص المبين في كتابهم { كما يعرفون أبناءهم } الذين خلقوا من أصلابهم، بل أشد من ذلك لإمكان الخلاف فيه دونه { و } مع ذلك { إن فريقا منهم } عنادا واستكبارا { ليكتمون الحق } الثابت في كتابهم { وهم } أيضا { يعلمون } [البقرة: 146] حقيته جزما، ويكتمونه مكابرة.
{ الحق } الذي هو ظهورك واستيلاؤك عليهم، ونسخك أديانهم وأحكام كتبهم إنما هو ناشئ { من ربك } الذي أظهرك مظهرا كاملا لذاته { فلا تكونن } أنت ومن تبعك { من الممترين } [البقرة: 147] الشاكين في توحيد الذات كما كانوا.
[2.148-152]
Página desconocida