[5.87-89]
ثم لما بلغ النصارى في الإعراض والترهب عن حظوظ الدنيا والذاتها إلى حيث يحرمون على أنفسهم ما أحل الله لهم، وأفرطوا فيه إلى حيث لم يبق مزاجهم على الاعتدال الذي جبلوا عليه، أراد سبحانه أن ينبه على المؤمنين طريقا مستقيما، وسبيلا واضحا متوسطا بين طرفي الإفراط والتفريط؛ لئلا يؤدي إلى تخريب المزاج وتحريفه؛ إذ للحق سبحانه في إيجاد الأمزجة صنائع عجيبة، وبدائع غريبة منتشئة عن محض الحكمة الجامع لجميع الأوصاف الذاتية الإلهية من العلم والقدرة والإرادة وغيرها.
فقال مناديا: { يأيها الذين آمنوا } صدقوا بدين الإسلام، وامتثلوا ما أمروا فيه ونهوا عنه، عليكم أن { لا تحرموا طيبات مآ أحل الله لكم } في دينكم { ولا تعتدوا } عن حدود الله؛ ترهبا وتزهدا، مفضيا إلى الرياء والسمعة { إن الله } المدبر لعباده { لا يحب المعتدين } [المائدة: 87] المجاوزين عن مقتضى تدبيره وإصلاحه.
{ و } إذا سمعتم من الحق ما سمعتم { كلوا } من طيبات { مما رزقكم الله حللا } غير مسرفين في أكلها { طيبا } من كد يمينكم، وعرق جبينكم مقدار ما يقوم مزاجكم ويقويكم على إقامة أمر الله وأحكامه { واتقوا الله الذي أنتم به مؤمنون } [المائدة: 88]. موقنون مخلصون عن مجاوزة حدوده وارتكاب محظوراته، واحذروا عن بطشه وانتقامه واعلموا أن خير قوتكم في دنياكم تقواكم ورضاكم، لذلك أوصاكم سبحانه.
ومن جملة الأمور التي تجب محافظتها عليكم في معاشكم،؛ لتكونوا مع المتقين المبرورين عند الله ألا تجترئوا على اليمين والحلف بالله في الوقائع والعقود، سيما على وجه الكذب قصدا واختيارا حتى لا تنحطوا عن مرتبة العدالة الفطرية، ولا تحلقوا بالأخسرين
الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا
[الكهف: 104] إلا أن تصدر عنكم هفوة بغتة بلا قصد على ما هو المتعارف عند العرب في أثناء أكثر الكلام: " لا والله " بلا إغراء وتمويه، فإنه معفو عنكم.
كما قال سبحانه: { لا يؤاخذكم الله } المجازي عن أعمالكم { باللغو } الصادر منكم { في أيمانكم } بلا قصد وتغرير { ولكن يؤاخذكم } ويعذبكم { بما عقدتم الأيمان } أي: بالعقود التي وثقتموها بالأيمان، وحنثتم فيها، فعليكم بعدما حنثتهم أن تجبروها بالكفارة { فكفارته } المسقط نكاله { إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم } اي: كساوتهم على هذا الوجه { أو تحرير رقبة } على تفاوت رتبكم ودرجاتكم عسرا أو يسرا.
{ فمن لم يجد } شيئا منها { فصيام ثلاثة أيام } أي: فعليه أن يصوم ثلاثة أيام متوالية؛ زجرا للنفس، وجبرا لما انكسر من المروءة الفطرية { ذلك } المذكور { كفارة أيمانكم إذا حلفتم } جازمين حقيته وحنثتم، وأما إذا حلفتم كذبا وزورا - والعياذ بالله - فنكاله لا يسقط عنكم إلا بخلاص التوبة الندامة المؤكدة { واحفظوا } أيها المؤمنون { أيمانكم } التي حلفتم بها في مواقعها عن شوب الكذب والشك، بل عن شوب الظن أيضا إن أردتم أن تبروا فيها، وتقسطوا عند الله، { كذلك } الذي وعظتم به { يبين الله لكم آياته } الدالة على توحيده { لعلكم تشكرون } [المائدة: 89] رجاء أن تتحققوا في مقام الشكر، تصرفوا ما وهب لكم من العطايا إلى ما اقتضته حكمته.
[5.90-92]
Página desconocida