[4.74-76]
{ فليقاتل } المخلصون المبادرون إلى الفناء { في سبيل الله } مع المشركين { الذين يشرون } ويختارون { الحياة الدنيا بالآخرة } أي: بدلها، ويبيعونها بها { ومن يقاتل في سبيل الله } ترويجا لتوحيده مع هؤلاء المشركون المصرين على الشرك { فيقتل } في أيديهم { أو يغلب } عليهم { فسوف نؤتيه } من لدنا { أجرا عظيما } [النساء: 74] لا كأجر الدنيا ولا كأجر الآخرة المتربتة على الأعمال الصالحة، بل الشهداء منهم أحياء عند الله يرزقون، فرحين بما آتاهم الله من فضله، والغزاة فهم في حمى الله وكنف حفظه وجواره.
{ وما } عرض ولحق { لكم } أيها المؤمنون المبشرون بهذه البشارة العظمى { لا تقتلون في سبيل الله } مع أعداء الله { و } لا تنقذون { المستضعفين } منكم من أيديهم { من الرجال والنسآء والولدن } الذين بقوا في مكة بعد الهجرة، فآذوهم واستذلوهم إلى أن استعبدوهم، وهم { الذين يقولون } من غاية حزوننهم، ونهاية مذلتهم متضرعا إلى الله مستشكيا إليه: { ربنآ أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها } إذ لا طقاة لنا بظلمهم { واجعل لنا من لدنك وليا } يولي أمرنا، وينقذنا من أيديهم، ويخرجنا من بينهم { واجعل لنا من لدنك نصيرا } [النساء: 75] ينصرنا عليهم لينتقم عنهم، فاستجاب الله دعاءهم بأن ألحق بعضهم إلى المهاجرين، ونصر بعضهم بالنبي والمؤمنين حين فتحوا مكة - شرفها الله - فوصلوا إلى ما طلبوا من الله.
{ الذين آمنوا يقتلون في سبيل الله } تقربا إليه وطلبا لرضاه، وترويجا لدينه ونصرة نبيه المبعوث لإعلاء كلمة توحيده { والذين كفروا يقتلون في سبيل الطغوت } المضل عن طريق الحق، وسبيل الهداية إلى متابعة الشيطان وموالاته { فقتلوا } أيها المؤمنون المخلصون { أولياء الشيطن } ولا تبالوا بعددهم وعددهم { إن كيد الشيطن } بالنسبة إلى كيد الله ومكره { كان ضعيفا } [النساء: 76] لا عبرة له ولا تأثير.
[4.77-78]
{ ألم تر إلى } المؤمنين { الذين قيل لهم } عند ضعفهم، وثاثة حالهم حين كانوا في مكةك قبل الهجرة يريدون أن يقاتلوا: { كفوا أيديكم } عن القتال إلى أن يأذن الله لكم به ويرد الأمر عليه { وأقيموا } أديموا { الصلوة } المقرب لكم نحوه بجميع الأعضاء والجوارح { وآتوا الزكوة } المصفية لنفوسكم عن الميل إلى زخرفة الدنيا، وانتظروا إلى أن يأمركم الله بالقتال والجهاد { فلما كتب عليهم القتال } بعدما قوي حالهم، وزال ضعفهم { إذا فريق منهم } بضعف يقينهم، وقلة وثوقهم بنصر الله وتأييده { يخشون الناس } أي: يخالفون من الكفار { كخشية الله } مثل خوفهم من الله { أو } بل { أشد خشية } لوهن اعتقادهم، واعتمادهم على الله؛ إذ هم في أوائل ظهور الإسلام حين كانوا متزلزلين، لا يصفوا يقينهم بالتوحيد { وقالوا } حين سمعوا نزول أمر القتال مسوفين متأخرين: { ربنا لم كتبت علينا القتال } مع أنا على ضعفنا { لولا أخرتنا إلى أجل قريب } يزداد فيه قوتنا وشوكتنا وعدتنا، وإنما قالوه خوفا من الموت وفوات المال { قل } لهم يا أكمل الرسل تذكيرا وتنبيها: { متاع الدنيا قليل } عمل قصير بالنسبة إلى عطاء الله، وشرف لقائه { والآخرة } المعدة لجزيل العطاء وشرف اللقاء { خير لمن اتقى } عما يشغلهم عنه وعن عطائه { و } اعلموا أيها المؤمنون أنكم { لا تظلمون } لا تنقصون ولا تهملون مما قدر لكم في القضاء { فتيلا } [النساء: 77] مقدر فتيل النواة.
واعلموا أيضا أن تسويفكم وتأخيركم لا يفيدكم نفعا في أمر الموت، بل وقته مبهم وأمره مبرم.
{ أينما تكونوا يدرككم الموت } عند حلول الأجل المقدر له من عده { ولو كنتم } متحصنين { في بروج } قلاع وحصون { مشيدة } بأنواع التشييدات والتحصنات؛ إذ لا مرد من قضاء الله ولا معقب لحكمه، يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد { و } هم أيضا من غاية تزلزلهم وتذبذهم، وعدم رسوخهم في جادة التوحيد { إن تصبهم } حسنة فتح وغنيمة تفرح بها نفوسهم وتنبسط { يقولوا هذه من عند الله } تفضلا علينا، وامتنانا { وإن تصبهم سيئة } بلية واختبار تنقبض بها نفوسهم { يقولوا هذه من عندك } أي: اضافوها إليك مشتائمين بك، كما تشاءمت اليهود حيث قالت: منذ دخل محمد المدينة نقصت ثمارها وغلبت أسعارها { قل } لهم كلاما ناشئا عن محض الحكمة والإيقان: { كل } من الحوادث الكائنة سواء كانت مفرحة أو مملة، مقبضة أو مبسطة نازل { من عند الله } حسب قدرته وإرادته، لا يسأل عن فعله ولا في أمره، بل له التصرف مطلقا { فمال } عرض { هؤلاء القوم } المنحطين عن درجة التوحيد والعرفان { لا يكادون يفقهون } ويفهمون { حديثا } [النساء: 78] يخلصهم عن التزلزل، وتردد المرتبة على الإضافات المنافية للتوحيد، ولو أنهم من أهل التدبير والتأمل في سرائر كلام الله ومرموزاته لفتح عليهم مما يخلصهم عن دغدغة الكثرة مطلقا، فكيف إضافة الحسنة والسيئة.
[4.79-82]
ثم لما أراد سبحانه أن ينبه على خلص عباده طريق توحيده، وأن ظهوره في المظاهر كلها خير محض لرسوله صلى الله عليه وسلم لأن تحمل أمثال هذه الخطابات، وأن الشر إنما هو من الإضافة العارضة بسبب التعينات العدمية، فقال مخاطبا لرسوله صلى الله عليه وسلم؛ لأن تحمل أمثال هذه الخطابات الصادرة عن محض الحكمة، إنما يليق بجنابه ليصل منه إلى أمته: { مآ أصابك من حسنة } مسرة لنفسك { فمن الله } وعلى جري عادته، وظهوره على مظاهره بالخير والحسنى { ومآ أصابك من سيئة } محزنة مملة لنفسك { فمن نفسك } تظهر، ومن إضافتك تحصل، وإلا فهو خير في نفسه لا شر في الوجود أصلا { وأرسلناك للناس رسولا } تنبه لهم ما نبهت من لدنا { وكفى بالله شهيدا } [النساء: 79] على إرسالك وتبليغك.
Página desconocida