ثم لما اعترفوا بذنوبهم وقصورهم، وتضرعوا إلى الله نادمين تائبين عن اجترائهم ومجادلتهم معه مستحيين عنه وعمن استخلفه لنفسه - يعني آدم - بنسبة المكروهات إليه، خائبين عما نووا في نفوسهم من الأولوية في الاستحقاق، تقبل الله عذرهم وأسقط حقه عنهم، ثم أمر بسجودهم لمن استخلفه؛ استجلالا معه وإيفاء لحقه ليسقط أيضا عن ذمتهم، فقال: { وإذ قلنا } أي: واذكر يا أكمل الرسل وقت قولنا { للملئكة } النادمين عن الجراءة التي صدرت عنهم { اسجدوا لأدم } تذللوا وتواضعوا تكريما لآدم وامتثالا لأمرنا { فسجدوا } مجتمعين متذللين واضعين جباههم على تراب المذلة والندامة { إلا إبليس } منهم { أبى } وامتنع عن السجود { واستكبر } عن الانقياد له، وأصر على ما هو عليه من الجحود { وكان } بعدم ا لامتثال الأمر الوجوبي { من الكفرين } [البقرة: 34] المطرودين عن ساحة عز الحضور.
والسر في استثنائه تعالى عن هذا الحكم وعدم توفيقه إياه وعدم اقتداره على السجود، أن يظهر سر الحضور والإظهار والربوبية والعبودية، وسر الإيمان والكفر والجنة والنار وجميع القيودات الشرعية والتكاليف الإلهية؛ إذ نسبته يظهر الاثنينية ويتعدد الطرق وتتفاوت الآراء والمقالات وتبين المخالفات والمنازعات، ويظهر الباطل ويستر الحق، وهو الرقيب المحافظ لآدابه والحاجب المعتكف ببابه، حتى لا تكون شرعية لكل وارد، أو يتوجه إليه واحد بعد واحد، غيره على الله وحمية لنفسه، ولهذا تمنى كثير من المحققين مرتبته.
ومن غيرته على ربه إلهاؤهم واغترارهم بالمستلذات والمزخرفات التي مالت إليها نفوسهم بطبعها يشغلهم ويلهيهم بها عن التوجيه إلى جنابه والعكوف ببابه، والسر في طرده ولعنه وإبعاده وبكفره تحذيرهم عن الانقياد والاقتداء على أبلغ وجه وآكده، وتمرين لعداوته ورقابته معهم في نفوسهم؛ لئلا يغفلوا عنه، ومع ذلك لم يتركوا متابعته ولم يجتنبوا من إقطاعه الملهية، نعوذ بالله من شرور أنفسنا.
{ و } وبعد ما خلقنا آدم في الأرض خليفة وأنزلنا عنه قوادح القاحدين، وأمرمنا جميع خصمائه بسجوده وتكريمه، وامتثلوا بالمأمور جميعا إلا إبليس، تركه للحكمة المذكورة آنفا ولئلا يتكبر آدم ويتجه بسببه انقياد جميعهم كما تجبر كثير من أبنائه في الأرض بانقياد الشرذمة القليلة { قلنا } له على سبيل الشفقة والنصيحة: { يآءادم } المستخلف المختار، لازم العبودية إنما تحصل بامتثال أوامرنا واجتناب نواهينا، ومتى قبلت بحمل الامتثال والاجتناب { اسكن أنت } أيها الخليفة أصالة { وزوجك } تبعا لك { الجنة } التي هي دار السرور ومنزل الفراغ والحضور، ومقام الأنس من الرب الغفور { و } إذا سكنتما فيها { كلا } تمتعا { منها } من جميع محظوظاتها ومستلذاتها الروحانية والجسمانية { رغدا } واسعا بلا مقدار وعدد { حيث شئتما } بلا مزاحمة أحد { ولا تقربا هذه الشجرة } المخصوصة المعينة حتى لا تخرجا من رق العبودية وإن قربتما { فتكونا من الظلمين } [البقرة: 35] الخارجين عن حدو الله بارتكاب المنهي.
ولما استشعر إبليس التوصية والمعاهدة المذكورة المنبئة عن كمال العناية الإلهية بالنسبة إلى آدم، بادر إلى دفعها ورفضها، فوسوس لهما بأن ألقى في قلبهما الدغدغة في تخصيص هذه الشجرة المعنية بالنهي وأنساهما المعاهدة المذكورة في العبودية، وبالجملة: { فأزلهما } ألجأهما إلى ارتكاب الزلة بوسوسة { الشيطان عنها } العدو لهما والرقيب معهما فتنادوا عنها عن الشجرة المنهية { فأخرجهما مما } أي: من الحضور الذي { كانا فيه } أي: في دار السرور { و } بعدما ظهر زلتهما { قلنا } لهما ولناصحهما: { اهبطوا } من دار السرور إلى دار الغرور، ومن دار الكرامة إلى دار الابتلاء والملائمة، وعيشوا فيها مع النزاع والخصومة؛ إذ { بعضكم لبعض عدو } ينتهز الفرصة لمقته { و } بعد هبوطمم { لكم في الأرض } التي هي محل التفرقة وموطن الفتن والمحن { مستقر } موضع قرار { ومتاع } استمتاع لمزخرفاتها ومستلذاتها الغير القارة التي ألهاكم الشيطان بها عن النعيم الدائم { إلى حين } [البقرة: 36] قيام الساعة التي هي الطامة الكبرى.
ثم لما لم يكن زلة آدم من نفسه ومن مقتضى طبعه بل بسوسوة عدوه، أشفق عليه وتوجه نحوه وتطلف معه { فتلقى } استفاد { ءادم } المذنب العاصي { من ربه } المستخلف المستقبل عليه { كلمت } مشتملات على الرجوع والإنانية عما صدر عنه من زلة هي قوله:
ربنا ظلمنآ أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين
[الأعراف: 23] ولما تلقى آدم من ربه هذه الكلمات واستغفر بها، ورجع عما صدر { فتاب } الله { عليه } أي: قبل توبته ورحم عليه { إنه هو التواب } الرجاع للمذنبين المنهمكين في العصيان بالإنابة إليه عن ظهر الجنان { الرحيم } [البقرة: 37] لهم عما صدر عنهم من المعاصي والآثام بلا معاتبة ولا انتقام.
[2.38-42]
ثم لما تلقناه الكلمات التي تاب بها وقبلنا عنه توبته، أخرجناه من اليأس والقنوط وأطمعناه الرجوع إلى الجنة بأن: { قلنا } له ولذريته المتفرعة عليه، منبهين عليهم طريق الرجوع { اهبطوا } الزموا مكان الهبوط، واستقروا عليها حال كونكم خارجين { منها جميعا } ومن الجنة، وترقبوا دخولها بإذن منا { فإما يأتينكم } أيها المترقبون { مني } لا غيري { هدى } من وحي وإلهام، وهو علامة إذني ودليل رضاي برجوعكم { فمن تبع هداي } ومن رجع إلي به { فلا خوف عليهم } في المراجعة إلى المقام الأصلي { ولا هم يحزنون } [البقرة: 38] بعد رجوعهم إليها بل كما بدأكم تعودون.
Página desconocida