أما التفكير العلمي فمن أهم صفاته التنظيم؛ أي إننا لا نترك أفكارنا تسير حرة طليقة، وإنما نرتبها بطريقة محددة، وننظمها عن وعي، ونبذل جهدا مقصودا من أجل تحقيق أفضل تخطيط ممكن للطريقة التي نفكر بها، ولكي نصل إلى هذا التنظيم ينبغي أن نتغلب على كثير من عاداتنا اليومية الشائعة، ويجب أن نتعود إخضاع تفكيرنا لإرادتنا الواعية، وتركيز عقولنا في الموضوع الذي نبحثه، وكلها أمور شاقة تحتاج إلى مران خاص، وتصقلها الممارسة المستمرة.
ولكن إذا كان العلم تنظيما لطريقة تفكيرنا أو لأسلوب ممارستنا العقلية، فإنه - في الوقت ذاته - تنظيم للعالم الخارجي؛ أي إننا في العلم لا نقتصر على تنظيم حياتنا الداخلية فحسب، بل تنظيم العالم المحيط بنا أيضا؛ ذلك لأن هذا العالم مليء بالحوادث المتشابكة والمتداخلة، وعلينا في العلم أن نستخلص من هذا التشابك والتعقيد مجموعة الوقائع التي تهمنا في ميداننا الخاص، وهذه الوقائع لا تأتي إلينا جاهزة، ولا تحتل جزءا منفصلا من العالم ألصقت عليه بطاقة اسمها «الكيمياء» أو «الفيزياء»، بل إن مهمتنا في العلم هي أن نقوم بهذا التنظيم الذي يمكننا من أن ننتقي من ذلك الكل المعقد ما يهمنا في ميداننا الخاص.
وينطبق ذلك على ميدان العلوم الإنسانية مثلما ينطبق على ميدان العلوم الطبيعية؛ فحين يؤلف المؤرخ كتابا في التاريخ - وليكن مثلا كتابا عن تاريخ العالم العربي في القرن العشرين - تكون أمامه مهمة شاقة، هي أن يختار - من بين الواقع شديد التعقيد - ما يهمه في مجال بحثه؛ ذلك لأن مهمة المؤرخ هي إعادة الحياة إلى فترة ماضية، ولكنه لا يستطيع أن يعيد الماضي كاملا وبكل ما فيه من تعقيدات، فحين يعود بذهنه إلى وقائع حياة العالم العربي في الفترة التي يتناولها بحثه؛ يجد ألوفا من الظواهر المعقدة المتشابكة؛ حياة الناس اليومية، طريقة ملبسهم ومأكلهم وترفيههم، عاداتهم، أخلاقهم، حياتهم الاجتماعية والاقتصادية، علاقاتهم السياسية ... إلخ، وعليه أن ينتقي من هذا الخضم الهائل من الظواهر المختلفة ما يهمه في موضوع بحثه، ويترك ما عداه جانبا؛ أي إن عليه أن يدخل التنظيم في واقع غير منظم أصلا، وتلك هي مهمة العلم.
على أن التنظيم سمة لا تبدو مقتصرة على العلم وحده، فكل نوع من أنواع التفكير الواعي - الذي يهدف إلى تقديم تفسير للعلم - يتصف بنوع من التنظيم. بل إن الأساطير ذاتها تحاول أن توجد نظاما معينا من وراء الفوضى الظاهرية في الكون، وحين تفترض وجود آلهة أو أرواح خفية وراء كل ظاهرة من ظواهر الطبيعة، فإنها تسعى - عن طريق ابتداع هذه الكائنات الشخصية - إلى إيجاد شكل من أشكال التنظيم في الظواهر، وحين ظهر الفكر الفلسفي بعد ذلك ليحل محل التفكير الأسطوري كانت فكرة وجود نظام في الكون من أهم الأفكار التي دارت حولها الفلسفة اليونانية. بل إن نظرة اليونانيين إلى الكون - التي عبر عنها استخدامهم للفظ
cosmos
للتعبير عن الكون - كانت مبنية أساسا على فكرة التوافق والانسجام والنظام الذي يمكن فهمه بالعقل، والذي يؤدي كل شيء فيه وظيفة لها معناها داخل الكل المنظم، ويسير بأكمله نحو تحقيق غايات محدودة، ومن هنا كان الاختلاف هائلا بين ذلك الكون المنسق الذي تصوره اليونانيون، وبين تصور العلم الحديث للكون، الذي كان في صميمه تصورا آليا مضادا للغائية. أما في الفكر الديني فإن فكرة النظام أساسية، بل إن كثيرا من علماء الكلام واللاهوتيين يتخذون من وجود النظام في الكون دليلا من أدلة وجود الله ومظهرا من مظاهر قدرته. وهكذا يستحيل تصور العالم بطريقة عشوائية أو غير منظمة ما دام الخالق قادرا على كل شيء.
وإذن ففكرة وجود «نظام» في العالم هي فكرة تتردد في كل محاولة لإيجاد تفسير للعالم، فما هو الجديد الذي يأتي به العلم في هذا الصدد؟ أو على الأصح: فيم يختلف التنظيم الذي يقتضيه التفكير العلمي عن ذلك التنظيم الذي يظهر في أنماط التفكير المغايرة للعلم؟
إن الاختلاف الأساسي في أن التنظيم - كما يقول به العلم - يخلقه العقل البشري ويبعثه في العالم بفضل جهده المتواصل الدءوب في اكتساب المعرفة، على حين أن العالم - وفقا لأنماط التفكير الأخرى - منظم بذاته؛ ففي التفكير الأسطوري وفي التفكير الفلسفي نجد النظام موجودا بالفعل في العالم، وما على العقل البشري إلا أن يتأمله كما هو. أما في التفكير العلمي فإن هذا العقل البشري هو الذي يبعث النظام في عالم هو في ذاته غير منظم؛ فالكون في نظر العلم لا يسير وفقا لغايات، وإنما تسود مساره الآلية، وكلما تقدمت المعرفة استطعنا أن نبتدع مزيدا من النظام في مسار الحوادث العشوائي في العالم؛ أي إن الكون المنظم - بالاختصار - هو نقطة النهاية التي يسعى العلم من أجل بلوغها، وليس نقطة بدايته.
ولكن كيف يحقق العلم هذا النظام في ظواهر الطبيعة المتشابكة والمعقدة والمفتقرة بذاتها إلى التنظيم؟ إن وسيلته إلى ذلك هي اتباع «منهج»
method - أي طريق محدد - يعتمد على خطة واعية. وصفة «المنهجية» هذه صفة أساسية في العلم، حتى إن في وسعنا أن نعرف العلم عن طريقها، فنقول: إن العلم في صميمه معرفة منهجية، وبذلك نميزه بوضوح عن أنواع المعرفة الأخرى التي تفتقر إلى التخطيط والتنظيم، ونستطيع أن نقول إن المنهج هو العنصر الثابت في كل معرفة علمية، أما مضمون هذه المعرفة والنتائج التي تصل إليها ففي تغير مستمر. فإذا عرفنا العلم من خلال نتائجه وإنجازاته كنا في هذه الحالة نقف على أرض غير ثابتة، أما إذا عرفنا العلم من خلال منهجه فإنا نرتكز حينئذ على أرض صلبة؛ لأن المنهج هو الذي يظل باقيا مهما تغيرت النتائج.
Página desconocida