ومما يزيد من فداحة المشكلة أن أمثال هؤلاء المتخصصين محدودي الأفق هم - في الأغلب - أناس مترفعون عن غيرهم، يتحدثون فيما بينهم لغتهم الغامضة الخاصة، ويتصورون أن تخصصهم فيها يكسبهم امتيازا على كل من عداهم، مع أنهم لو خرجوا عن ميدانهم الأصلي قليلا لأصبحوا مكشوفين تماما أمام الغير. أمثال هؤلاء «العلماء الجهال»، قد يكونون أحيانا أسوأ من الجهلاء غير المتعلمين؛ لأن الأخيرين على الأقل ليست لديهم ادعاءات، على حين أن الأولين يتصورون أن معرفتهم في ميدانهم الخاص تبيح لهم أن يعدوا أنفسهم «عارفين» في الميادين الأخرى، وكثيرا ما نجد هؤلاء الأشخاص يكونون مادة طريفة لسخرية مؤلفي الروايات والمسرحيات الهزلية، حين يصورونهم وقد تظاهروا بمعرفة كل شيء وهم في الواقع لا يفقهون شيئا مما يخرج عن ميدانهم الخاص، أو حين يسخرون من ميلهم إلى تطبيق لغة تخصصهم واصطلاحاته الفنية على ميادين لا شأن لها به على الإطلاق، أو يعجزون عن مواجهة موقف من مواقف الحياة المعتادة؛ لأنهم لم يعرفوا كيف يلائمون بين عقولهم التي تشكلت في قالب ضيق واحد وبين مقتضيات هذه الحياة. (2)
أما المستوى الثاني - الذي يرتبط بالمستوى السابق ارتباطا وثيقا - فهو المستوى الإنساني العام؛ ذلك لأن التخصص المفرط لا يؤدي فقط إلى عزل المشتغل بالبحث العلمي عن كافة جوانب المعرفة الأخرى، بل يعمل أيضا على توسيع الفجوة بين العلم والإنسان؛ إذ يحول العلم إلى أداة فنية مفرطة في التعقيد، وإلى مجموعة من الإجراءات التي تقتضي تدريبا وتعليما مكثفا؛ ومن ثم يتباعد العلم تدريجيا عن الإنسان في وجوه المتكامل المحسوس، وفي مشاكله الواقعية العينية، ويزداد الباحث العلمي عجزا عن رؤية الصورة الكلية للحياة الإنسانية؛ لأنه يفني عمره في قطاع شديد الضآلة من قطاعات عالم الطبيعة أو الإنسان. وإذا كان العلم في طبيعته الأصلية يستهدف أساسا أن يزيد الإنسان وعيا بإنسانيته، بعد أن أحرز هذا القدر من التقدم، إلى عكس هدفه الأصلي؛ أي إلى إقامة حواجز لا يمكن عبورها بين الاشتغال بالعلم وبين المنابع الأصيلة للحياد الإنسانية.
ومن أجل هذا لم يكن يكفي العالم - الذي يريد أن يبقي على روابطه الإنسانية - أن يكون أوسع اطلاعا في فروع المعرفة الأخرى التي تتصل بميدان تخصصه اتصالا مباشرا أو غير مباشر، بل إنه في حاجة إلى نوع من الثقافة الإنسانية التي تبعد عن العلم المتخصص بعدا تاما، وهذا مطلب يبدو تحقيقه عسيرا في ضوء الجهد الضخم الذي يقتضيه البحث العلمي في وقتنا هذا، والذي لا يكاد يترك للعالم فراغا لشيء غيره. ولكن الأمر الملفت للنظر هو أن عددا غير قليل من العلماء الكبار الذين يفخر بهم عصرنا الحاضر كانت لديهم مثل هذه الاهتمامات؛ إذ كانوا يحرصون على أن تظل لديهم هذه النافذة المفتوحة المطلة على عالم الأدب أو الشعر أو الموسيقى أو الفلسفة، وكانوا يجدون متعة كبرى في العودة من آن لآخر إلى أحد ميادين الإنسانيات بالمعنى الواسع لهذه الكلمة. وربما قدم البعض مبررات لذلك بالإشارة إلى أن مصلحة البحث العلمي ذاته تقتضي ذلك؛ إذ إن الخروج من آن لآخر عن مجال التخصص يتيح للمرء أن يعود إليه بعد ذلك بعقل أكثر تفتحا ، وبرؤية أشد خصبا، مما لو كان منغمسا فيه بلا توقف، كما أن العقل العلمي في حاجة إلى فترات من الراحة لاستعادة نشاطه وحيويته. وهذه مبررات صحيحة بغير شك، ولكنها ليست كافية؛ إذ إنها ترتد في نهاية الأمر إلى العلم المتخصص نفسه، وتجعل من العناصر الثقافية في شخصية العالم مجرد «وسيلة» يستعين بها على تحقيق هدفه الأول والأخير؛ وهو الوصول إلى نتائج أفضل في ميدان تخصصه. وواقع الأمر أن كثيرا من هؤلاء العلماء الذين يحرصون على تأكيد الروابط بينهم وبين ميادين الإنسانيات، لا يتخذون من الثقافة مجرد وسيلة تعينهم في عملهم العلمي، بل يرونها غاية في ذاتها، ويقبلون عليها لأنهم يحبون الثقافة ويستمتعون بها بالفعل، لا لكي تكون وسيلة لقضاء فترة فراغ أو جسرا يعبرون عليه من بحث علمي إلى آخر.
هذا الإقبال على الثقافة ذاتها - من جانب العلماء الكبار - لا يمكن تفسيره إلا على أساس وحدة الإنسان؛ فالروح الإنسانية ينبغي أن تظل محتفظة بوحدتها مهما ضاق نطاق اهتمامها الأصلي. والتخصص الدقيق لا ينفي على الإطلاق أن العالم إنسان، وأنه بالتالي قادر على أن يتذوق ويستوعب الجوانب الإنسانية في الثقافة بالإضافة إلى اهتمامه العلمي. وإذا كان تقدم الحضارة الإنسانية قد حتم التفرع في ميادين نشاطنا، وجعل هذه الميادين تتشعب أساسا إلى ميدان علمي وميدان أدبي أو إنساني (أو إلى ما أطلق عليه «سنو
Snow » تلك التسمية المشهورة: «الثقافتين»، العلمية والأدبية)، وإذا كان قد حتم تفرعا موازيا لذلك في ملكات العقل الإنساني، فلا بد أن نتذكر على الدوام أن أصل هذا كله ومنبعه الأول روح إنسانية واحدة. وهؤلاء العلماء الذين يحتفظون بتعلقهم بالميادين الإنسانية والأدبية هم الدليل القاطع على وحدة هذا المنبع الذي ينبثق منه كل نشاط عقلي وروحي للإنسان.
والواقع أن الروابط وجوانب التشابه بين النشاط الذي يمارسه الإنسان في العلم وفي الفنون والآداب أقوى مما يبدو للوهلة الأولى، وحسبنا أن نتأمل هنا دور «الخيال» في هذين الميدانين؛ ذلك لأننا نتصور عادة أن الخيال ملكة ذهنية لازمة للفنان والأدب وحدهما، على حين أن العالم - الذي يأخذ على عاتقه مهمة وصف الواقع على ما هو عليه دون أية إضافة من عنده - لا بد أن يستبعد الخيال من مجال عمله. ولكن حقيقة الأمر أن العالم - وإن كان يلتزم بالفعل بتلك النظرة الواقعية - يجد مجالا خصبا لممارسة ملكة الخيال في صميم عمله العلمي، وحين نتحدث هنا عن «العالم»، فنحن لا نعني المشتغلين العاديين بالعلم الذين يتعين على كل منهم أن يلقي الضوء على جانب معين من جوانب مشكلة علمية، والذين يقومون بالمهام الروتينية المألوفة في البحث العلمي، وإنما نعني العلماء الكبار؛ أي أولئك الذين يتغير بفضلهم مجرى العلم، ويتوصلون إلى كشوف أو نظريات علمية ثورية.
ذلك لأن هؤلاء العلماء الكبار هم الذين يستطيعون - بفضل النظريات التي يتوصلون إليها - أن يجمعوا بين عدد هائل من الوقائع والظواهر في إطار واحد، ويعبروا عن جوانب شديدة التعدد بصيغة واحدة، ولكي يصلوا إلى هذه الصيغة يلجئون إلى عالم وهمي، هو عالم الرموز والمعادلات الرياضية الذي لا يوجد في الواقع الفعلي، بل يوجد في ذهن العالم وحده، ولو تأملنا النظرية التي يتوصل إليها العالم الكبير - بعد أن تكتمل - لوجدناها نموذجا فريدا لعمل متناسق أشبه بالعمل الفني الرائع؛ ذلك لأن أهم ما يميز الفن هو الانسجام والتوافق، وهذا التوافق يؤلف بين عناصر متباينة في وحدة متناغمة، والنظرية العلمية مشابهة لذلك إلى حد بعيد؛ فحين توصل عالم مثل نيوتن إلى نظرية الجاذبية، واستطاع أن يجمع علاقات الأجسام الكونية كلها، سواء منها الحجر الذي يسقط على الأرض، والقمر الذي يدور حول المريخ في صيغة واحدة تتسم بالبساطة الشديدة، كان في ذلك أشبه بمن يبده عملا فنيا رائعا. ومن المؤكد أن قدرة النظرية على تفسير مجال شديد الاتساع، وضم عدد هائل من الظواهر في وحدة واحدة، تعطي مكتشف النظرية - وكذلك كل من يطلع عليها ويفهمها - إحساسا جماليا واضحا. صحيح أن هذا الإحساس الجمالي - في حالة الأعمال الفنية - يكون متعلقا بأشياء محسوسة أو ملموسة، وأنه في حالة النظرية العلمية يكون متعلقا «بالمجردات»، بالعلاقات الذهنية غير المحسوسة بين الظواهر، ولكن التشابه بين الحالتين واضح؛ لأنه ينصب في هذه الحالة على جمع ما هو مشتت في وحدة متآلفة.
ونستطيع أن نستشعر في أنفسنا الإحساس الجمالي الذي تبعثه الفكرة العلمية المجردة إذا رجعنا إلى ما يفعله التلميذ الذي يدرس الحساب أو الهندسة في المدارس العادية. فحين يعمل هذا التلميذ على حل مسألة حسابية أو تمرين هندسي، قد يلجأ إلى خطوات مطولة معقدة، يرهق فيها نفسه حتى يصل في النهاية - وبعد تعقيد شديد - إلى الحل المطلوب، ولكنه قد يهتدي إلى هذا الحل في حالات أخرى بطريقة مختصرة توصل إلى الهدف مباشرة وتوفر عليه عددا كبيرا من الخطوات. وحين يتأمل المرء هذا الحل المباشر المختصر، يجد فيه نوعا خاصا من الجمال، هو جمال عقلي مجرد، تعبر عنه بساطة الحل وسهولته، على حين أن الحل المعقد المطول - وإن كان بدوره حلا - يثير في النفس إحساسا بالقبح والافتقار إلى التوافق والانسجام.
ولقد كان إدراك النظام الرياضي الذي تسير عليه القوانين الطبيعية - في مطلع العصر الحديث - باعثا لعدد من أقطاب العلم في ذلك العصر إلى أن يروا في الكون عناصر جمالية تتحكم فيه، وهكذا تصور كبلر
Kepler - العالم الفلكي المشهور - أن النسب الهندسية الرشيقة البسيطة هي التي تسيطر على الكون، وعندما وجد أن الظواهر الطبيعية الشديدة التعقيد ذات بناء هندسي محكم، وقابلة للتعبير عنها بمعادلات بسيطة؛ بهره هذا الكشف إلى حد أنه تصور أن الله «مهندس» الكون؛ بمعنى أنه هو الذي يشرف على جعل الحوادث الطبيعية المعقدة خاضعة لنسب رياضية بسيطة، ولم يكن ذلك راجعا إلى أن نقص في إيمانه، بل إنه كان يؤمن حقا بأن المعجزة الإلهية الكبرى في هذا الكون هي الإحكام والتوافق والاتساق الرياضي الذي تتمثل عليه القوانين المتحكمة في مساره، وتكرر ظهور هذه الفكرة - التي تربط بين الله وبين الرياضة أو الهندسة - لدى كبار الفلاسفة في ذلك العصر، مثل ديكارت وليبنتس، وكان الجميع يؤمنون بأن في الكون انسجاما عقليا مجردا وتناسبا في العلاقات بين الظواهر، هو الذي تتمثل فيه أعظم الآيات الإلهية.
Página desconocida