وقد يبدو هذا الوصف أمرا طبيعيا بالنسبة إلى أي نوع من النشاط العقلي أو الروحي للإنسان، ولكن قليلا من التفكير يقنعنا بأن الأمر ليس كذلك بالنسبة إلى أنواع متعددة من هذا النشاط؛ فقد عرف الإنسان منذ العصور القديمة نوعا من النشاط العقلي قد يبدو مشابها للمعرفة العلمية إلى حد بعيد هو المعرفة الفلسفية، ولكن هذه المعرفة الفلسفية لم تكن تراكمية، بمعنى أن كل مذهب جديد يظهر في الفلسفة لم يكن يبدأ من حيث انتهت المذاهب السابقة، ولم يكن مكملا لها، بل كان ينتقد ما سبقه ويتخذ لنفسه نقطة بداية جديدة. ومن هنا فإننا إذا استخدمنا التشبيه السابق كان في وسعنا أن نقول: إن البناء الفلسفي لا يرتفع إلى أعلى، بل إنه يمتد امتدادا أفقيا. وفضلا عن ذلك فإن سكان هذا البناء لا يتركون طوابقه القديمة، بل يظلون مقيمين فيها مهما ظهرت له من طوابق جديدة؛ ذلك لأن افتقار المعرفة - في ميدان الفلسفة - إلى الصفة التراكمية، يجعل المشتغلين بالفلسفة يجدون في تياراتها القديمة أهمية لا تقل عن أهمية التيارات الحديثة؛ ومن ثم تظل موضوعا دائما لدراستهم.
ومثل هذا يقال عن الفن؛ فالفن ينمو أفقيا، بمعنى أننا نظل نتذوق الفن القديم، ولا نتصور أبدا أن ظهور فن جديد يعني التخلي عن أعمال الفنانين القدماء أو النظر إليها بمنظور تاريخي فحسب، وبطبيعة الحال فإن هذا النمو الأفقي لا يعني أن أي اتجاه جديد في الفن كان يمكن أن يظهر في أي عصر سابق؛ إذ إن ظهور الاتجاهات الفنية مرتبط ارتباطا وثيقا بمجموع الأوضاع الإنسانية التي يظهر فيها كل اتجاه منها؛ أعني بالأوضاع الاجتماعية والثقافية والروحية والمادية ... إلخ، بحيث لا يمكن أن يفهم هذا الاتجاه حق الفهم إلا في سياقه التاريخي الذي ظهر فيه، ولكن الذي يعنينا هو أن تذوقنا لفن معاصر لا يمنعنا من أن نتذوق فنون العصور الماضية، وأن الروح الإنسانية التي تجد متعة في أعمال فنية حديثة تجد متعة مماثلة في أعمال السابقين، ولا تحاول أبدا أن تنسخ القديم؛ لأن هناك جديدا ظهر ليحل محله.
أما في حالة المعرفة العلمية، فإن الأمر يختلف؛ إذ إن كل نظرية علمية جديدة تحل محل النظرية القديمة، والوضع الذي يقبله العلماء في أي عصر هو الوضع الذي يمثل حالة العلم في ذلك العصر بعينه لا في أي عصر سابق، والنظرية العلمية السابقة تصبح - بمجرد ظهور الجديد - شيئا «تاريخيا»؛ أي إنها تهم مؤرخ العلم لا العالم نفسه، ومن هنا فإن سكان البناء العلمي - كما قلنا من قبل - هم في حالة تنقل مستمر، ومقرهم هو أعلى الطوابق في بناء لا يكف لحظة واحدة عن الارتفاع.
وتكشف لنا سمة «التراكمية» هذه عن خاصية أساسية للحقيقة العلمية، هي أنها نسبية؛ فالحقيقة العلمية لا تكف عن التطور، ومهما بدا في أي وقت أن العلم قد وصل في موضوع معين إلى رأي نهائي مستقر، فإن التطور سرعان ما يتجاوز هذا الرأي ويستعيض عنه برأي جديد.
وهكذا بدا للناس - في وقت معين - أن فيزياء «نيوتن» هي الكلمة الأخيرة في ميدانها، وأنها تعبر عن حقيقة مطلقة، ودام هذا الاعتقاد ما يقرب من قرنين من الزمان، ثم جاءت فيزياء أينشتين فابتلعت فيزياء نيوتن في داخلها، وتجاوزتها وأثبتت أن ما كان يعد حقيقة مطلقة ليس في الواقع إلا حقيقة نسبية، أو حالة من حالات نظرية أوسع منها وأعم.
هذا المثل يكشف لنا عن طبيعة التراكم المميز للحقائق العلمية؛ ففي بعض الحالات تحل النظرية العلمية محل القديمة وتنسخها أو تلغيها، ولكن في معظم الحالات لا تكون النظرية الجديدة بديلا يلغي القديمة، وإنما توسعها وتكشف عن أبعاد جديدة لم تستطع النظرية القديمة أن تفسرها أو تعمل لها حسابا. وهكذا يكون القديم متضمنا في الجديد، ولا يكون العالم - كالفيلسوف - عقلا يبدأ طريقه من أول الشوط، وإنما يستمد نقطة بدايته من حيث توقف غيره.
ولكن إذا كانت الحقيقة العلمية نسبية على هذا النحو، فكيف جاز للبعض أن يصفوها بأنها «مطلقة»؟ إننا نصف مشاعرنا الانفعالية وأذواقنا الفنية بأنها «نسبية»، ونعني بذلك أنها تختلف من فرد لآخر، وأنه ليس من حق أحد أن يفرض ذوقه - مثلا - على الآخرين، ولكننا نقول عن الحقيقة العلمية إنها «مطلقة»، بمعنى أنها لا تتجاوز نطاق الاختلافات بين الأفراد، ولا تتقيد بظروف معينة، بل تتخطى الحدود الجزئية لكل عقل على حدة، لكي تفرض نفسها على كل عقل إنساني بوجه عام. وهذه التفرقة بين طريقة حكمنا على عمل فني وطريقة اقتناعنا بالحقيقة العلمية هي تفرقة صحيحة، فكيف إذن نوفق بين الاعتقاد - الذي قلنا إنه صحيح - بأن الحقائق العلمية مطلقة وبين ما قلناه منذ قليل من أنها نسبية؟
الواقع أن الحقيقة العلمية - في إطارها الخاص - تصدق على كل الظواهر وتفرض نفسها على كل عقل، وبهذا المعنى تكون مطلقة. فحين نقول: إن الماء يتكون من أكسجين وهيدروجين بنسبة 1 إلى 2، لا نعني بذلك كمية الماء التي أجرينا عليها هذا الاختبار، بل نعني أية كمية من الماء على الإطلاق، ولا نوجه هذه الحقيقة إلى عقل الشخص الذي أجري أمامه هذا الاختبار فحسب، بل إلى كل عقل بوجه عام، ولكننا قد نكتشف في يوم ما أملاحا في الماء بنسبة ضئيلة، أو نصنع «الماء الثقيل» (المستخدم في المجال الذري) فيصبح الحكم العلمي السابق نسبيا، لا بمعنى أنه يتغير من شخص إلى آخر، بل بمعنى أنه يصدق في إطاره الخاص، وإذا تغير هذا الإطار كان لا بد من تعديله، وهذا الإطار الخاص قد يكون هو المجال الذي تصدق فيه الحقيقة العلمية، كما هي الحال في أوزان الأجسام، التي يظل مقدارها صحيحا في إطار الجاذبية الأرضية، ولكنها تختلف إذا نقلت إلى مجال القمر، كما قد يكون هذا الإطار زمنيا، بمعنى أن الحقيقة التي تعبر عن المستوى الحالي للعلم تظل صحيحة وتفرض نفسها على الجميع في حدود معرفتنا الراهنة، وبذلك يكون هناك تعارض بين الطابع النسبي للحقيقة، وبين قولنا إنها مطلقة، بل إن الحقيقة المطلقة كثيرا ما يعبر عنها بعبارات نسبية، كما يحدث عندما نقول: إن ضغط الغاز يتناسب تناسبا عكسيا مع درجة حرارته مقيسة بمقياس كلفن؛ ف «النسبة» ذاتها تصبح في هذا القانون مطلقة، وإن كانت قيم الضغط والحرارة مختلفة فيها باستمرار. وهكذا فإن صفة «التراكمية» في التفكير العلمي تجمع بين الطابع النسبي والطابع المطلق للعلم دون أي تناقض.
هذه السمة «التراكمية» التي يتسم بها العلم هي التي تقدم إلينا مفتاحا للرد على انتقاد يشبع توجيهه - في بلادنا الشرقية على وجه الخصوص - إلى العلم، وهو الانتقاد الذي يستغل تطور العلم لكي يتهم المعرفة العلمية والعقل العلمي بالنقصان؛ فمن الشائع أن يحمل أصحاب العقليات الرجعية على العلم لأنه متغير، ولأن حقائقه محدودة، ولأنه يعجز عن تفسير ظواهر كثيرة، وهم بذلك يفتحون الباب أمام أنواع أخرى من التفسير الخارجة عن نطاق العلم أو المعادية له، وواقع الأمر أن هذا ليس اتهاما للعلم على الإطلاق، فإذا قلت: إن العلم متغير، كنت بذلك تعبر بالفعل عن سمة أساسية من سمات العلم، وإذا اعتبرت هذا التغير علامة نقص فإنك تخطئ بذلك خطأ فاحشا؛ إذ تفترض عندئذ أن العلم الكامل لا بد أن يكون «ثابتا»، مع أن ثبات العلم في أية لحظة، واعتقاده أنه وصل إلى حد الاكتمال، لا يعني إلا نهايته وموته؛ ومن ثم فإن الثبات في هذا المجال هو الذي ينبغي أن يعد علاقة نقص. إن العلم حركة دائبة، واستمرار حيويته إنما هو مظهر من مظاهر حيوية الإنسان الذي أبدعه، ولن يتوقف هذا العلم إلا إذا توقفت حياة مبدعه ذاته. والتغيير الذي يتخذ شكل «التقدم» والتحسين المستمر هو دليل على القوة لا على الضعف، ومن المؤكد أن هذا هو طابع التغير العلمي، بدليل أن النظرية الجديدة في كثير من الحالات تستوعب القديمة في داخلها وتتجاوزها، وتفسر الظواهر على نطاق أوسع منها كما قلنا من قبل.
ومجمل القول أن المعرفة العلمية متغيرة حقا، ولكن تغيرها يتخذ شكل «التراكم»؛ أي إضافة الجديد إلى القديم؛ ومن ثم فإن نطاق المعرفة التي تنبعث من العلم يتسع باستمرار، كما أن نطاق الجهل الذي يبدده العلم ينكمش باستمرار. ومن هنا لم يكن انتقال العلم إلى مواقع جديدة على الدوام علامة من علامات النقص فيه، بل إن النقص إنما يكمن في تلك النظرة القاصرة التي تتصور أن العلم الصحيح هو العلم الثابت والمكتمل.
Página desconocida