ففي الحضارات الشرقية القديمة تراكمت حصيلة ضخمة من المعارف ساعدت الإنسان في هذه الحضارات على تحقيق إنجازات كبرى، ما زالت آثارها تشهد بعظمتها حتى اليوم، ولكن هذه المعارف لم تكن سوى خبرات موروثة، ربما كانت راجعة في أصلها إلى أقدم العصور البدائية للإنسان، وقد ظلت تورث جيلا بعد جيل، وساعدت على إثراء حياته العقلية.
ذلك لأن هذه الشعوب التي عاشت في الشرق القديم كانت بارعة في الاستخدام «العلمي» للمعارف الموروثة، ولكنها لم تكن تملك نفس القدر من البراعة في التحليل العقلي «النظري» لهذه المعارف، كانت لديها خبرات تتيح لها أن تحقق إنجازات عملية هائلة ولكنها لم تتوصل إلى النظريات الكامنة وراء هذه الخبرات، ولم تخضعها للتحليل العلمي الدقيق. أما الحضارة التي توصلت إلى هذه المعرفة «النظرية»، والتي توافرت للإنسان فيها القدرة التحليلية التي تتيح له كشف «المبدأ العام» من وراء كل تطبيق عملي، فهي الحضارة اليونانية.
وهكذا يمكن تشبيه العلاقة بين حضارات الشرق القديم والحضارة اليونانية - فيما يتعلق بنشأة العلم - بالعلاقة بين المقاول والمهندس؛ فالمقاول هو - في معظم الأحيان - شخص اكتسب قدرا هائلا من الخبرات العملية، سواء عن طريق التلقين أو الممارسة، ولولا القوانين التي تسنها الدول في عصرنا الحديث لكان في استطاعة معظم المقاولين أن يشيدوا أبنية سليمة تؤدي كل الأغراض التي نتوقعها من البناء، أما المهندس فهو - إلى جانب إلمامه ببعض الخبرات العملية - يمتلك «العلم النظري» الذي يتيح له معرفة «أسس» عملية البناء، ويمكنه من التصرف بحرية والخروج عن القواعد المألوفة في حالة وقوع أي طارئ. ولو قارنا بين المقاول والمهندس من حيث النتائج العملية للجهد الذي يقومان به، لما كان الفارق بينهما كبيرا؛ لأن كلا منهما يستطيع - في الغالب - أن يشيد بناء متماسكا متينا. أما الاختلاف بينهما فهو في نوع المعرفة التي يعمل وفقها كل منهما، وهل هي معرفة تطبيقية مستمدة من خبرات متراكمة، أم معرفة نظرية تعتمد على التحليل والبراهين المقنعة للعقل؟
وهناك مثل مشهور يضرب في معظم المراجع التي تتناول هذا الموضوع لتوضيح الفارق بين هاتين الحضارتين في هذا الصدد؛ فقد اهتدى المصريون القدماء بالخبرة إلى أن مجموع المربعين المقامين على ضلعي المثلث القائم الزاوية يساوي المربع المقام على وتر هذا المثلث، وكانوا يستخدمون هذه الحقيقة بطريقة عملية في أعمال البناء؛ فعندما كانوا يريدون التأكد من أن الجدار الذي يبنونه عمودي على سطح الأرض، كانوا يصنعون مثلثا أبعاده 3 و4 و5 أو مضاعفاتها؛ حتى يضمنوا أن هذا المثلث سيكون قائم الزاوية، ومن ثم يكون الجدار عموديا بحق (لأن مربع 3 هو 9، ومربع 4 هو 16، ومجموعهما هو مربع 5، أي 25)، وقد ظلت هذه الحقيقة تستخدم عندهم بطريقة عملية تطبيقية، دون أن يحاولوا إثباتها بالدليل العقلي المقنع. بل إن الرغبة في إيجاد مثل هذا الدليل لم تتملكهم على الإطلاق؛ لأن كل ما يهدفون إليه هو الوصول إلى نتيجة عملية ناجحة ، وهذه النتيجة الناجحة تتحقق بتطبيق القاعدة فحسب، ولن يزيدها الاهتداء إلى الدليل العقلي نجاحا.
وفي مثل هذا الجو يستحيل أن يظهر العلم؛ لأن العلم هو في أساسه بحث عن المبادئ العامة، لا عن التطبيقات الجزئية، وهو سعي إلى القاعدة النظرية، وليس اكتفاء بتحقيق أهداف عملية؛ ولذلك فإن العلم لم يظهر - للمرة الأولى - إلا عند اليونانيين القدماء الذين كان يتملكهم حافز آخر - يضاف إلى حافز الإنجاز العملي - هو الرغبة في الاقتناع، ولم تكن عقولهم تهدأ إلا حين تهتدي إلى الدليل القاطع والبرهان المقنع.
هذه باختصار هي الصور التقليدية التي كان مؤرخو العلم يصورون بها العلاقة بين الحضارات الشرقية القديمة والحضارة اليونانية في موضوع نشأة العلم، ونود أن نبدي على هذه الصورة بضع ملاحظات نعتقد أنها على جانب كبير من الأهمية: (1)
فهذه الصورة لا تخلو من التحيز الحضاري؛ إذ إن الأوروبيين المحدثين هم أحفاد الحضارة اليونانية، وهم ينتسبون إليها انتسابا مباشرا، على حين أن الحضارات الشرقية القديمة لا تمت إليهم بصلة، ومن هنا فقد دأب المؤرخون الأوروبيون - وخاصة في عصر اشتداد الروح القومية خلال القرن التاسع عشر - على تمجيد الحضارة اليونانية - حضارة الأجداد - وتحدثوا طويلا عن «المعجزة اليونانية»؛ أي عن ذلك الإنجاز الهائل الذي حققه اليونانيون فجأة دون أية مقدمات تذكر، ودون أن يكونوا مدينين لأي شعب سابق، وعن ذلك الوليد الذي ظهر إلى الوجود يافعا هائل القوة ... وكلها تعبيرات لا يمكن أن تخلو من عنصر التحيز، لا سيما وأن أحفاد الحضارات الشرقية القديمة كانوا هم الشعوب الواقعة تحت قبضة الاستعمار الأوروبي في ذلك الحين، وكانوا يعاملون على أنهم شعوب «من الدرجة الثانية»؛ ومن ثم كان من الطبيعي أن تكون الحضارات التي انحدروا منها حضارات «من الدرجة الثانية» أيضا. (2)
وتفترض هذه الصورة التقليدية الشائعة انفصالا تاما بين ميدان الخبرة العملية وميدان البحث العلمي النظري، فهي ترتكز على الاعتقاد بأن شعبا معينا يستطيع أن يكدس خبرات موروثة لمدة آلاف السنين ويحقق بواسطتها إنجازات هائلة - كالهرم الأكبر مثلا - دون أن يكون قد توصل خلال ذلك إلى النظريات العلمية التي تكون أساسا لهذه الخبرات، ومثل هذا الاعتقاد ينطوي على مبالغة في الفصل بين الجوانب العملية والجوانب النظرية للمعرفة، وهو فصل لا تبرره تجربة البشرية ذاتها في مختلف العصور؛ فعندما تتراكم لدى مجتمع معين خبرات عملية طويلة، يكون من الطبيعي أن تقوده هذه الخبرات ذاتها إلى بعض النظريات العلمية على الأقل، وليست النظرية ذاتها إلا حصيلة لتطبيقات عديدة؛ فالعلاقة بين النظرية والتطبيق علاقة متبادلة، بحيث إن الممارسة العملية تمهد الطريق إلى كشف النظرية العلمية، كما أن الوصول إلى النظرية يفتح الباب أمام كشف تطبيقات جديدة مثمرة. أما القول بأن هناك شعبا لم يعرف طوال تاريخه إلا تطبيقات وخبرات عملية وشعبا آخر توصل لأول وهلة - ومن تلقاء ذاته - إلى الأسس النظرية للعلم، فإنه زعم يتنافى مع التجارب الفعلية للبشرية، فضلا عن تناقضه مع المنطق السليم. (3)
على أن هذه الصورة التقليدية قد أخذت تتغير ملامحها بالتدريج، وساعدت على ذلك عدة أمور: (أ)
أولها تقدم البحث العلمي والتاريخي ذاته؛ فقد أحرز العلم التاريخي - في ميدان الحضارات القديمة - تقدما هائلا في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، وما زال هذا التقدم مستمرا حتى يومنا هذا، وفي كل كشف جديد كان العلماء يلقون مزيدا من الضوء على حياة القدماء وفكرهم، حتى أصبحنا نعرف اليوم عن هؤلاء القدماء أكثر مما كانت الإنسانية تعرف عنهم في عهود قريبة منهم - من الناحية الزمنية - كل القرب، وكانت كل هذه الكشوف الجديدة في الميدان التاريخي تشير إلى حقيقة واحدة؛ هي أن التضاد بين الحضارة اليونانية والحضارات الشرقية القديمة ليس بالحدة التي كان يصور بها، وأن عوامل الاتصال بين اليونانيين والشرقيين القدماء كانت أقوى مما كنا نتصور، وكان كل كشف تاريخي جديد يؤكد - بشكل متزايد - أن اليونانيين كانوا مدينين بالكثير للسابقين عليهم من الشرقيين، لا سيما وأن الاتصالات بين هاتين المنطقتين لم تنقطع لحظة واحدة، سواء أكانت اتصالات سلمية عن طريق التجارة وتبادل الخبرات والسلع، أو اتصالات حربية في المعارك التي لم تتوقف بين اليونانيين وبين الشعوب الشرقية. (ب)
Página desconocida