Pensamiento científico y desarrollos de la realidad contemporánea
التفكير العلمي ومستجدات الواقع المعاصر
Géneros
فالدولة العربية-الإسلامية التي امتدت حدودها وشملت أكثر من قارة، أقامت الجيوش وتوسعت بشكل كبير، إن مثل هذه الدولة كان لا بد لها من تطوير المعرفة الجغرافية وما يستتبعها من علوم أخرى كالحساب والمقاييس والأبعاد والأوزان، ومعرفة المناخ والتضاريس والممرات المائية والبحرية؛ فإن جهل حدود الدولة وتضاريسها وأحوال سكانها وطبيعة نشاطهم الاقتصادية وعاداتهم وتقاليدهم، يجعل من المستحيل على الدولة المركزية أن تقوم بعملية جبي الضرائب والمكوس والخراج والجزية والزكاة، ودون رسم الخرائط يكون من الصعب على الجيوش أن تتحرك دون معرفة طبيعة التضاريس والممرات المائية، ويتأخر تطور التجارة الداخلية بين أجزاء الإمبراطورية نفسها ومع العالم الخارجي، سواء أكانت تعتمد على القوافل البرية، أم السفن البحرية لعدم معرفة عواصم هذه البلدان وثغورها ومناخاتها وحركة الرياح والمواسم الزراعية والتجارية.
63
ومن الأمثلة على أهمية جغرافية المدن أن «قتيبة بن مسلم الباهلي» عند غزو مدينة بخارى واجهته مشكلة عدم معرفته بهذه البلاد وتضاريسها وعاداتها فأرسل إلى «الحجاج بن يوسف» الذي كتب لقتيبة يطلب منه أن يرسم صورة أو خريطة لمدينة بخارى والمدن المحيطة بها ليسهل عليه دخولها.
64
ونجد في كتب الجغرافيين العرب عشرات الأمثلة على ارتباط علم الجغرافيا بالحاجات الاقتصادية والسياسية والعسكرية للدولة الناشئة، فهذا هو الإمام القدسي، الجغرافي الكبير يذكر أنه لقي «علي بن حازم» بساحل عدن وكان الرجل من أعلم الناس بالبحر الصيني لأنه إمام التجار، ومراكبه دائما تسافر إلى أقاصيه فسأله عن صفة البحر فمسح الرمل بكفه ورسم صور البحر أمام المقدس وبين له معارجه وشعبه وخلجانه.
65
ولا نريد الاسترسال في الأمثلة، لكن ما نود تأكيده هو أن علم الجغرافيا بدأ بدراسة كتب بطليموس وغيرها، ودراسة الخرائط التي وضعها اليونان، ولكن العرب الذين كانوا بحاجة إلى علم الجغرافيا للأسباب التي ذكرتها آنفا فاقوا اليونان وطوروا هذا العلم بحسب حاجتهم على يد خرداذبه والإصطخري وابن حوقل والمقدسي وابن فضلان وأحمد بن سهل البلخي والمسعودي والهمذاني وغيرهم، وسار تطور علم الجغرافيا بخط متواز مع تطور علوم الفلك والحساب والهندسة وصناعة الإسطرلابات والبوصلات والسفن البحرية وإقامة المراصد الفلكية.
إن ما ينطبق على الجغرافيا ينطبق هو الآخر على العلوم الرياضية برمتها من فلك وجبر وهندسة، وعلى الجغرافيا ينطبق هو الآخر على العلوم الطبيعة برمتها من كيمياء وفيزياء وطب وغيرها، فلقد تطورت تلك العلوم على أيدي العلماء العرب نتيجة حاجات التطور الاقتصادي والاجتماعي الذي فرضته الحضارة العربية الناشئة آنذاك.
66
وبهذا يتضح لنا مدى تهافت التفسيرات الساذجة التي يفسر بها بعض المستشرقين ظاهرة نشوء العلم العربي. إن هؤلاء لا شك في أنهم يتسمون بروح كسولة لا تكلف نفسها عناء البحث الموضوعي. ويلاحظ هذا عن كتب المستشرقين الألماني المنصف «فرانز روزنتال» فيقول: ومن المزالق التي يندر أن يتحاماها الباحثون الغربيون عند تقديرهم البحث العلمي عند المسلمين، أنهم يضعون مقاييس صارمة يحكمون بموجبها على ما أنتجه الفكر الإسلامي، مقاييس أشد صرامة من تلك التي نطبقها على ذواتنا نحن الغربيين؛ فإن العدل والإنصاف يقتضيان أن نميز بين مختلف أنواع النشاط الأدبي ومراتبه التي من شأنها أن تترك أثرا بعيد الغور في طبيعة النتاج العلمي الرفيع. على أننا قلما نرى عالما غربيا يراعي هذا التمييز عندما يكتب ويؤلف قصد استمالة أتباع يلتفون حول فكرته التي يبشر بها، ولا ننتظر منه أن يدعم كل قول من أقواله بمستندات وكل جملة بإثباتات، فلماذا إذن نتطلب ذلك من المسلم الذي يكتب في إحياء الدين مثلا (يقصد الإمام أبو حامد الغزالي) أن يدلل على صحة كل قول بإثبات وإسناد، حتى وإن كان هذا الكاتب المسلم يتصف بالدقة العلمية والقدرة الفكرية الممتازة؟ ومن جهة ثانية لماذا نبدي سخطنا على كاتب يجمع أسانيد تبعث على الضجر، أسانيد لا حصر لها تتعلق بسيرة رجل، أو براوية من رواة الحديث الذين عاشوا في دمشق، أو مروا بها لماما، بينما نحن إذا قرأنا مثيل هذا في كتاب من كتب الغرب قلنا صوابا إنه عمل علمي، وإن صاحبه قام بخدمات علمية جليلة؟
Página desconocida