ولقد كان رائد جيتي في إنجلترا توماس كارليل وهو كاتب مر النفس كان يكره الدعوى الفرنسية ويأبى عليها قيادة الفكر في القارة الأوروبية، فكان ينحي على فلاسفة فرنسا وأدبائها وزعمائها ويضرب الأمثال بالألمان ويطنب في المقابلة بين هؤلاء وهؤلاء ليضع فردريك بإزاء نابليون ويضع جيتي بإزاء فولتير ويضع عبقرية الألمان بإزاء عبقرية الفرنسيين.
وكانت رائدة جيتي في فرنسا مدام «دي ستايل» وهي كاتبة نفيت من بلدها ونقمت على الأدباء خصومها، فكانت تضربهم بتفخيم مناقب الأدباء الألمان والإشادة بالأمة الألمانية على الإجمال؛ فهذه النوافل جميعها قد أحاطت بشهرة جيتي فزادتها ولم تزد في قيمة عمله، ولو أنها ذهبت عنه لنقصت شهرته ولم ينقص قدره في ميزان الأدب الصحيح. •••
كذلك لا نحب أن نعلق قيمة جيتي على كلمة قالها نابليون وتهافت عليها المعجبون بالشاعر كأنها شهادة الشهادات، ونعني بها قول نابليون لمن حوله بعد أن رأى الشاعر: «هاكم رجلا.» فإن هذه الكلمة التي ألقى بها نابليون بعد جلسة واحدة لا تزيد على وسام يمنحه من يرضى عنه، وكلنا يعلم شأن هذا الوسام في النقد والتمييز.
على أن حاضري الحديث وناقليه قد اختلفوا في مناسبة هذه الكلمة فجاءت في مذكراتهم على روايات، ورواية جيتي نفسه لا تدل على شيء كبير، فهو يقول: إن نابليون نظر إليه مليا ثم قال: «مسيو جيتي، إنك رجل!» ثم سأله: كم عمرك؟ فلما علم أنه في الستين قال: «إنك مدخر العافية.» فكأن نابليون كان ينظر في كلمته إلى بنية الرجل لا إلى عبقريته.
وقد كان نابليون مضحكا في نقده لقصة فرتر التي زعم أنه قرأها سبع مرات، فإنه انتقد بعض العبارات التي يظهر منها أن الطمع كان ممزوجا بالحب في حمل فرتر على الانتحار، وقال: «إن هذا لا يوافق الطبيعة البشرية، وإنه يضعف في ذهن القارئ عقيدته في سلطان الحب على نفس فرتر.» ثم سأل جيتي: لماذا كتبتها هكذا؟
وقد قبل جيتي هذا الانتقاد، ولكن القارئ يرى بغير جهد أن الصواب كان في جانب الشاعر لا في جانب نابليون، فإن المرء لا ينتحر لسبب واحد، وإنما تتضافر الأسباب وتتعاقب حتى تتجمع كلها في السبب الأخير.
وما نظن أن نابليون عني بجيتي كما عنى بنفسه، فإنه كان يحثه على تأليف رواية عن يوليوس قيصر يكون ظاهرها لقيصر وباطنها لنابليون، وقد علم أن أدباء فرنسا بين صغير لا يرضيه وكبير لا يرضى عنه، فالتفت إلى أديب الألمان المشهور.
إنما يدل على جيتي فهم أثره لا ترديد ذكره، ويدل عليه أكثر من ذلك أن الذين يفهمونه يكبرونه ولو خالفوه في الرأي وباينوه في المزاج؛ ففي طليعة خصومه وناقديه هنريك هيني الشاعر المبدع الذي يضارعه في البلاغة وعذوبة الأناشيد ويفضله عليه الكثيرون في الظرف وطرافة الموضوعات، فإنه بعد أن نقده وألم بمحاسنه ومآخذ الناقدين عليه عاد يقول: «وبعد، فإن جيتي لهو عاهل آدابنا، فإذا صوبنا مبضع النقد إلى إنسان كهذا فيحسن بنا أن نتقدم إليه بما ينبغي من التوفير، كذلك فعل الجلاد الذي عهدوا إليه أن يقطع رأس شارل الأول، فإنه قبل أداء عمله ركع أمامه والتمس منه غفرانه.»
وإن كلمة من هيني في هذا الصدد لترجح بكل ما يقوله نابليون وكل ما تقوله الاحتفالات.
بل يدل على أن جيتي تنبث أفكاره في ذهن كل مفكر حتى يكاد لا يكتب الكاتب في زماننا هذا إلا وجيتي ماثل في خلده، وقد عمد بول هازار الأستاذ في كلية فرنسا إلى إحصاء حسن الدلالة في هذا الباب، فانتقى بعض كتب المعاصرين التي لا علاقة لها بجيتي وتواليفه وراجعها فظهر له أن ثمانية - من عشرة كتب - تستحضر أفكار جيتي وتشير إليها، وتلك دولة شاسعة في عالم الثقافة لا تفتح إلا لأفذاذ الفاتحين.
Página desconocida