هذه معاذير نسوقها لإنصاف ذلك العبقري الكبير وتصويره على جليته بغير إجحاف، ولكننا لا نعرف بينها عذرا هو أوجه من حب الراحة أو السكون الذي فطر عليه ولا حيلة له فيه، فإن كان جيتي لم يكدح لغيره فهو لم يكدح لنفسه، وإن كان قد أحجم عن تدبير الخيرات فهو قد أحجم كذلك عن تدبير الشرور.
ولقد قال مرة إنه يلمح القاتل في أعماق ضميره، وما من فنان إلا وهو مستطيع أن يقول ذلك على معنى التصوير الفني لا معنى الإجرام؛ فإنه مطالب على الأقل بأن ينتزع من شخصه كل شخوص خياله، فعلى هذا الاعتبار كان جيتي يضمر الشر ويلمحه في أعماقه، أما أن يقارف الشر وينصب لتدبيره فبينه وبين ذاك حائل الطبع، وحائل الكياسة.
فكل ما يؤخذ على جيتي من نقيصة فهو نقيصة فنية بالمعنى الذي ألمعنا إليه أو نقيصة المطاوع المستجيب الذي لا يجاهد في مكافحة المغريات، وفي هذه الضرورة شفيع! وفي العبقرية شفيع آخر، فإن أثرة العبقري الكبير أثرة إنسانية تعني الناس جميعا لأنها تشتغل بكل ما يعني بني الإنسان، فعسى أن ينفعه هذان الشفيعان.
عقيدة جيتي وآراؤه
من عرف صفات جيتي وخصائص عبقريته لم يصعب عليه أن يعرف عقيدته في الدين وآراءه في الأخلاق والاجتماع والسياسة، أو لم يصعب عليه أن يعرف الأشياء التي يمكن أن تنطوي عليها تلك العقيدة والأشياء التي لا يمكن أن تنطوي عليها؛ فإنما عقيدته وآراؤه خلاصة من صفاته وخصائص عبقريته، وهو كان رجلا يأبى الجهد ويكره أن يزعج نفسه، وكانت له عبقرية مستجيبة مستسلمة تأخذ الدنيا جزءا جزءا كما يأخذها الفنان الذي يتملى جمالها والشعور بها ويجد في ظواهرها الكفاية لحبها وتعظيمها؛ فعقائده لن تخرج عن هذه الصفات ولا عن هذه الخصائص، وكل ما هو عويص أو مجهد أو بعيد عن طريق الفن والجمال فلك أن تستثنيه من آراء جيتي في جميع الشئون، وأنت مطمئن إلى ذلك كل الاطمئنان.
وقد قلنا: إن جيتي صاحب عبقرية متعددة الجوانب ولكنها تئول كلها إلى طبيعة واحدة؛ فمما يؤيد ذلك ولا ريب أنك تعرف عقائده من صفاته وجملة أفكاره، فإن الجوانب المتعددة التي ترجع إلى معادن متعددة تستعصي على مثل هذا التقدير ولا يغنيك العلم بالكثير منها عن العلم بأيسر يسير؛ إذ ربما كانت عقيدة صاحبها مناقضة لأخلاقه أو لفكره أو لمزاجه، أما في جيتي فالجوانب تختلف ما تختلف والآفاق تتسع ما تتسع ولكنها لا تشذ أبدا عن تلك الطبيعة الواحدة التي أجملناها في الكلام على عبقريته وأخلاقه. •••
جيتي مؤمن بالله مسلم بالقدر: «إن الله أحكم منا وأقدر، فله أن يتصرف بنا كما يشاء.»
هذا هو التسليم بالقدرة الكبرى والحكمة الإلهية في الوجود.
وللقدرة الإلهية دلائل كثيرة يلتمسها الباحثون في أخفى نواحي البحث وأظهرها ويعبرون إليها بحارا من الفسلفة والتصوف لا يسهل عبورها، فأما جيتي فثق أنه لا يغوص على إيمانه ولا يركب إليه المراكب العصية، فحسبه الجمال في العالم دليلا على الجبلة الإلهية فيه وفينا، أو كما قال لصديقه موللر: «إن القدرة على تجميل الحس وبث الحياة في المادة الصماء بتزويجها من الفكر لهي أقوى حجة على فطرتنا العلوية.» والدين عنده لا يكون إلا واحدا من اثنين: «فإما دين يعرف القدس ويعبده حيث يتراءى فيما حولنا بغير شكل ولا قالب، وإما دين يعرف القدس ويعبده حيث يتراءى في أجمل الأشكال والقوالب، وكل ما بين هذا وذاك فهو وثنية وجهالة»، وما دمنا نشعر بالجمال حولنا فنحن نشعر بالقدرة الإلهية في العالم وفي أنفسنا معا، قال كبلر: «أمنيتي أن أدرك الله في عالمي الداخلي كما أدركه في كل مكان من العالم الخارجي.» فقال جيتي متهكما: «إن الرجل الطيب لا يدري أنه حين يدرك الله فيما حوله فالإلهي فيه متصل هنالك بالإلهي في الكون أوثق الصلات.»
كذلك قال لجاكوبي: «إن الأقدمين في أوج رفعتهم كانوا ينشئون القداسة من الجمال، فزيوس كبير آلهتهم لم يبلغ التمام إلا في تمثال الأولمب.»
Página desconocida