ولما كانت مادة الفن الموسيقي لا تستخلص مباشرة من أي مصدر سوى الوسائل التي أعدت لأجل التعبير عن هذا الفن، أي: الآلات أو الغناء المدرب؛ فقد بلغ هذا الفن حدا من الاستقلال جعل له كيانا قائما بذاته، ويستحيل أن يرد إلى غيره. فبينما نجد الشعر مثلا قابلا - في معانيه على الأقل - لأن يفهم إذا ترجم إلى لغة أخرى، هي لغة النثر، وبينما نجد الفنون المقلدة تفهم بالرجوع إلى الأصول التي تقلدها؛ نجد الموسيقى لا تقبل أن تترجم إلى أية لغة أخرى؛ فتجربة الموسيقى تجربة لا نظير لها، وتذوقها يتم عن طريق عملية فريدة لا تفهم إلا من خلال سياقها الداخلي وحده. والانفعال الذي تثيره الموسيقى يستحيل أن يعبر عنه بلغة أخرى، أو بوسيلة أخرى من وسائل التعبير، ولا يمكن تصوره إلا بسماع هذه الموسيقى ذاتها. ومن هنا قيل: إن الموسيقى لغة مستقلة، مكتفية بذاتها.
ولكن هل الاستقلال هو الصفة الوحيدة التي يتميز بها الفن الموسيقي؟ الحق أن الموسيقى تنفرد عن سائر الفنون بصفتين أساسيتين: صفة العمومية، والذاتية:
أما العمومية، فترجع إلى ما تبيناه في الفن الموسيقي من استقلال واكتفاء ذاتي. فلما كانت لغة الموسيقى لا ترتبط بموضوعاتها أي ارتباط مباشر، ولما كانت لا تستمد عناصرها من الطبيعة مباشرة، بل تخلقها في مجالها الخاص؛ فقد استحال على الموسيقى أن تقدم وصفا مباشرا لأي موضوع خاص، وإنما تصور دائما انفعالات وأحاسيس عامة. ومهما حاول المرء أن يأتي بروابط بين المؤلفات الموسيقية وبين موضوعات معينة، فلا بد أن يعترف بأن الموسيقى لا تصور في هذه الموضوعات جوانبها الجزئية، وإنما تعبر عن الأوجه العامة فيها. والذي لا شك فيه أن الفنون الأخرى أقدر على تصوير الخصوصيات والجزئيات من الموسيقى. وإذا كان العمل الفني السليم - سواء أكان قصيدة أم لوحة أم تمثالا - قادرا على أن ينقلنا من موضوعه الجزئي المباشر إلى الموضوع العام الذي تندرج تحته كل الجزئيات؛ فلا شك في أن هذا الانتقال يتم عن طريق قدرة تذوقية خاصة لا تتوافر إلا لمن اكتسب خبرة وفهما عميقا لطبيعة العمل الفني في هذه المجالات. أما في حالة الموسيقى، فالتأثير المباشر لها هو الأحاسيس العامة، ومن المحال حين تسمع قطعة تثير فيك معنى الحزن أو الحماسة أن تقول: إن هذا حزن شخص معين، أو تحمس إلى نوع معين من الأفعال، وإنما الذي نحس به مباشرة هو شعور عام بالحزن أو بالحماسة، لا يمكن تخصيصه إلا فيما بعد، وبطرق ووسائل متكلفة.
وأما صفة الذاتية، فترجع إلى ما بين الموسيقى وبين الزمان من ارتباط وثيق؛ ذلك لأن فنون النحت والتصوير فنون مكانية، تخلق في بعدين؛ كالتصوير، أو ثلاثة أبعاد؛ كالنحت، وتتذوق مكانيا أيضا؛ أعني أن أعمالها الفنية تدرك في لمحة واحدة، ولا تأثير لمعنى الزمان في إدراكها إلا من حيث إنه يجلو بعض غوامض هذا الإدراك السريع الأول. أما الموسيقى، فهي فن زماني بالمعنى الصحيح: أعني أن أداءها يتم خلال التعاقب الزماني، ولا تتصور أنغامها أو إيقاعها أو مجموعاتها التوافقية إلا متتالية. وبعبارة أخرى، فالموسيقى تسير في خط زماني رأسي، أما فنون التصوير والنحت فتتبع مسارا مكانيا أفقيا. ولا شك في أن هذا الاختلاف راجع إلى طبيعة الوسائط الحسية التي تنقل بها هذه الفنون؛ فالموسيقى تنقل بالأذن، وهي حاسة تعتمد على التعاقب الزماني، أما الفنون التصويرية والتشكيلية فتنقل بالعين، وهي حاسة مكانية تلاحظ الأبعاد الخارجية وتدركها إدراكا مباشرا.
ولقد ربط الفلاسفة منذ عهد غير قريب بين الزمان وبين الذاتية؛ ذلك لأن إحساساتنا التي تصاغ في قالب مكاني، كالمرئيات والملموسات، هي إحساسات موضوعية، ندركها مباشرة بوصفها خارجة عنا، مستقلة عن ذاتنا، بل إن هذه الإحساسات هي أساس اعتقادنا بوجود عالم خارجي. أما الإحساسات التي تصاغ في قالب زماني، كالمسموعات، فهي بطبيعتها ذاتية، أعني أنها تعتمد على الذات التي تتلقاها اعتمادا أساسيا، وتبعث فينا شعورا بأنها صادرة عن أعماقنا الباطنة. وليس أدل على ذلك من أن التفكير بدوره - وهو عملية باطنة تماما - يتخذ قالبا زمانيا، يتمثل في تعاقب الأفكار بعضها وراء بعض، ولكنه يستحيل أن يتخذ قالبا مكانيا، أي: أن تشاهد الأفكار فيه خارجيا! فالموسيقى - على هذا الأساس - ألصق الفنون بأعماق الذات الإنسانية.
من أجل هذه الصفات الفريدة؛ كان للموسيقى مكانة خاصة لدى المفكرين والفلاسفة، وعدها بعضهم عنصرا من عناصر فهمه للكون بأسره. ودارس الفلسفة لا يغيب عن ذهنه رأي قديم يتمثل فيه قولنا هذا أصدق تمثيل؛ وأعني به رأى الفيثاغوريين، الذين فسروا الكون كله بأنه عدد ونغم. وإذا كانت عبارتهم هذه عبارة مجازية، تفسر بأنها إشارة إلى أن للكون وجها كميا، هو العدد، ووجها كيفيا، هو ما عبروا عنه بكلمة النغم، فلا ينبغي أن ننسى أن استخدام الرمز ذاته أمر له دلالته العميقة، وأن تعبيرهم عن كل الاختلافات والتنوعات الكيفية الهائلة في الكون بكلمة النغم، يدل على مدى اتساع مدلول الأنغام عندهم، ومدى ارتباطها بالطبيعة العامة للكون في نظرهم.
وإذا شئنا أن نعرض مثلا لفيلسوف حديث، فأهم الشخصيات في هذا الصدد هي شخصية شوبنهور. ولنقتبس هنا كلمات لها دلالتها العميقة، شرح بها شوبنهور طبيعة الموسيقى في الجزء الأول من كتابه «العالم بوصفه إرادة وتمثلا»: «إن كل النوازع والخلجات والسورات التي تنتاب الإرادة، وكل ما يجري في باطن الإنسان، ويطلق عليه العقل اسما سلبيا خالصا هو «الشعور»؛ كل ذلك يجد خير تعبير عنه في الألحان التي لا تتناهى إمكانياتها. ولكن ذلك التعبير في عموميته أشبه بالصورة الخالصة التي تجردت عن كل مادة؛ فهو يعبر عن الشيء في ذاته، لا عن مجرد الظواهر ... من تلك الصلة الوثيقة بين الموسيقى وبين الماهية الحقيقية لكل شيء، يتضح لنا أنه إذا عبرت الموسيقى تعبيرا ملائما عن منظر أو سلوك أو حادث أو جو، فإن كلا من هؤلاء يتبدى لنا ويبين معناه الباطن أمامنا بوضوح، وبهذا تكون الموسيقى خير شارح ومفسر له - كذلك يبدو لمن استجاب لتأثير سيمفونية، أنه يرى كل أحداث الحياة والعالم في ذاتها، مع أنه لو فكر في الأمر بروية لما وجد أي وجه للتشابه بين صوت الألحان وبين الأشياء التي تحيط به؛ ذلك لأن الموسيقى تختلف عن كل ما عداها من الفنون في أنها ليست صورة مقلدة للمظاهر، أو على الأصح للمظاهر الموضوعية للإرادة، وإنما هي صورة مباشرة للإرادة ذاتها، تعرض المعنى الميتافيزيقي لكل ما هو طبيعي في هذا العالم، وتوضح ما يكمن وراء كل ظاهرة من شيء في ذاته. وعلى ذلك، فكما يمكن تسمية العالم إرادة متجسدة، كذلك يمكن تسميته موسيقى متجسدة.»
لن نجد فيلسوفا تأثر بالطابع الفريد للموسيقى أكثر مما تأثر بها شوبنهور، على النحو الذي عبر عنه في النص السابق. وحسبنا أن نشير إلى أن هذا الفيلسوف، الذي رأى الكون كله مظاهر للإرادة، ولم يستطع أن يهتدي إلى هذه الإرادة ذاتها مباشرة، قد اهتدى إليها في الموسيقى، التي لا تقلد موضوعات خارجية، ولا تنقل أحاسيس النفس بطرق غير مباشرة، بل تعبر عن كل أوجه الإرادة تعبيرا مباشرا لا وسائط فيه، ومن هنا كانت في رأيه تصلح لفهم الطبيعة الكامنة للعالم ذاته، الذي هو تجسد الإرادة، أو إن شئت فقل: تجسد الموسيقى.
على أننا لا نود أن نطيل الكلام في هذه النظرة الصوفية إلى الموسيقى، وإنما الذي يعنينا هنا أن نشير إلى أن الطبيعة الخاصة للفن الموسيقي هي التي أوحت بمثل هذا الفهم لها.
والأمر الذي يجب أن نتنبه إليه، هو أن الموسيقى دائما فن إنساني قبل كل شيء؛ أعني أنها فن مرتبط بحياة الإنسان الواقعية، وبصراعه خلال هذه الحياة. فمن المحال أن نفهم موسيقى أية فترة من الفترات، إلا إذا عرفنا كيف كان الناس يعيشون فيها، وماذا كانت نظرتهم إلى الحياة وإلى العالم وإلى المجتمع.
Página desconocida