المقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين
الحمد لله الذي يرث الأرض ومن عليها، وهو خير الوارثين، الذي كتب على عباده الفناء، واستأثر بالبقاء، وصلى الله على محمد عبده ورسوله، وعلى آله الطيبين الأخيار وسلم كثيرًا.
قال أبو العباس محمد بن يزيد الأزدي النحوي، المعروف بالمبرد رحمه الله تعالى: دعانا إلى تأليف هذا الكتاب واجتلاب محاسن من تكلم في أسباب الموت من المواعظ والتعازي والمراثي على قدر ما يحضر فإنا ابتدأناه عن غير خلوةٍ بفكرٍ ولا تمييز لكتب، وإنما اقتضبناه اقتضابًا ثقةً بالله وتوكلًا عليه مصابنا برجل استخفنا لذلك وبعثنا عليه، وهو أبو إسحاق القاضي إسماعيل بن إسحاق ابن إسماعيل بن حماد بن زيد بن درهم. وإنما نسبناه التماسًا للتنويه باسم سلفه الصالحين.
ولقد كان ﵀ عليه في أكثر
1 / 39
الأمور أنجع وأنفع. ولو عد كاملٌ لا سقطة فيه لكان إياه، لكن الله جل ثناؤه جعل في المخلوقين النقص، وجعلهم ضعفاء، وحكم بأنهم لم يؤتوا من العلم إلا قليلًا. ولقد كانت أنصباؤه في ذلك القليل كالمحتوية على أكثره رحمة الله عليه مع ما جمع الله جل وعز فيه من حكم عادل، ورأي فاصل، وأدب بارع، ولبٍ ناصع، وتصرفٍ في العلوم، وحلمٍ يربي على الحلوم، وفي الله تعالى ذكره خلفٌ من كل هالك، وعزاء من كل مصيبة. وبرسول الله ﷺ الأسوة والقدوة، وكل خطب، إذا ذكرت وفاته، صغير، وكل رزء حقير؛ عليه رحمة الله وبركاته.
ويروى عن علي بن أبي طالب رحمة الله عليه من وجوهٍ، سمعنا ذلك وبعضها يزيد على بعض، أنه قال: لما توفي رسول الله ﷺ تولى غسله العباس، وعلي، والفضل، فقال علي: لم أره يعتاد فاه في الموت ما كنت أراه في أفواه الموتى. ثم لما فرغ علي من غسله وأدرجه في أكفانه، كشف الإزار عن وجهه، ثم قال: بأبي أنت وأمي، طبت حيًا، وطبت ميتًا، انقطع بموتك ما لم ينقطع بموت أحد ممن سواك من النبوة والإنباء، خصصت حتى صرت مسليًا عمن سواك، وعممت حتى صارت المصيبة فيك سواء. ولولا أنك أمرت بالصبر ونهيت عن الجزع لأنفدنا عليك الشؤون، ولكن ما لا يدفع كمدٌ وإدبارٌ محالفان وهما داء الأجل، وقلا لك. بأبي أنت وأمي. أذكرنا عند ربك، واجعلنا من همك. قال:
1 / 40
ثم نظر إلى قذاةٍ في عينه فلقطها بلسانه ثم رد الإزار على وجهه.
وقال رسول الله ﷺ: تعزوا عن موتاكم بي.
وهذا كلام تلقاه عنه المؤمنون ثم أدوه إلى من بعدهم من إخوانهم المؤمنين، فاحتذى هذا المثال يقينًا وإيمانًا جماعة كلهم سلكه فاهتدى، ووصفه فأحسن، فمنهم عبد الله بن أراكة الثقفي، فإنه أصيب بابن له فأسرف أخوه عبد الله ابن عبد الله في البكاء فوعظه وعزاه فقال: الطويل
وقلت لعبد الله إذ جدّ باكيًا: ... تعزّ وماء العين منهملٌ يجري
لعمري لئن أتبعت عينيك ما مضى ... به الدّهر أو ساق الحمام إلى القبر
لتستنفدن ماء الشؤون بأسره ... ولو كنت تمريهنّ من ثبج البحر
تأمّل! فإن كان البكا ردّ هالكًا ... على أحدٍ، فاجهد بكاك على عمرو
ولا تبك ميتًا بعد ميتٍ أجنّه ... عليٌّ وعبّاسٌ وآل أبي بكر
1 / 41
باب من التعازي
وهو أكثر ما تكلم فيه الناس، لأنه لم يعر أحد من مصيبة بحميم، ذلك قضاء الله على خلقه. فكل تكلم إما متعزيًا وإما معزيًا، وإما متصبرًا محتسبًا.
قال أبو الحسن المدائني: كانت العرب في الجاهلية وهم لا يرجون ثوابًا ولا يخشون عقابًا يتحاضون على الصبر، ويعرفون فضله، ويعيرون بالجزع أهله، إيثارًا للحزم وتزينًا بالحلم، وطلبًا للمروءة، وفرارًا من الاستكانة إلى حسن العزاء، حتى إن كان الرجل منهم ليفقد حميمه فلا يعرف ذلك فيه. يصدق ذلك ما جاء في أشعارهم، ونثي من أخبارهم. قال دريد بن الصمة في مرثيته أخاه عبد الله: الطويل
قليل التّشكّي للمصيبات حافظٌ ... مع اليوم أدبار الأحاديث في غد
صبا ما صبا حتّى إذا شاب رأسه ... وأحدث حلمًا قال للباطل ابعد
1 / 42
قال أبو عبيدة: كان يونس بن حبيب يقول: هذا أشعر ما قيل في هذا الباب.
وقال أبو خراش الهذلي: الطويل
تقول أراه بعد عروة لاهيًا ... وذلك رزءٌ لو علمت جليل
فلا تحسبي أنّي تناسيت عهده ... ولكنّ صبري يا أميم جميل
وقال أبو ذؤيب: الطويل
وإنّي صبرت النّفس بعد ابن عنبسٍ ... وقد لجّ من ماء الشّؤون لجوج
لأحسب جلدًا أو لينبأ شامتٌ ... وللشّرّ بعد القارعات فروج
وقال أوس بن حجر: المنسرح
أيّتها النّفس أجملي جزعا ... إنّ الّذي تحذرين قد وقعا
1 / 43
وقال أبو ذؤيب: الكامل
وتجلّدي للشّامتين أريهم ... أنّي لريب الدّهر لا أتضعضع
والشيء يذكر بالشيء: يروى أن الحسين بن علي بن أبي طالب رحمهما الله دخل على معاوية وهو في علة له غليظة، فقال معاوية: ساندوني ثم تمثل بهذا البيت:
وتجلّدي للشامتين أريهم ... أني لريب الدهر لا أتضعضع
فسلم الحسين ﵀ ثم تمثل:
وإذا المنيّة أنشبت أظفارها ... ألفيت كلّ تميمةٍ لا تنفع
فاستظرف الجواب كون البيتين من قصيدة واحدة.
وقال عمرو بن معدي كرب: مجزوء الكامل
كم من أخٍ لي صالحٍ ... بوّأته بيديّ لحدا
ما إن هلكت لفقده ... ليس البكاء يردّ زندا
ألبسته أثوابه ... وخلقت يوم خلقت جلدا
وقال حارثة بن بدر الغداني: البسيط
1 / 44
الصّبر أجمل والدّنيا مفجّعةٌ ... من ذا الّذي يجرّع مرةً حزنا؟
وما جاء في هذا أكثر من أن يؤتى على غابره.
وتعزيك الرجل تسليتك إياه. والعزاء هو السلو وحسن الصبر على المصائب وخير من المصيبة العوض منها والرضى بقضاء الله والتسليم لأمره تنجزًا لما وعد من حسن الثواب، وجعل للصابرين من الصلاة عليهم والرحمة. فإنه يقول ﵎: وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون. أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون. وقال وبشر المخبتين الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم والصابرين على ما أصابهم. وقال تبارك اسمه: ما أصاب من مصيبة إلا بإذن الله ومن يؤمن بالله يهد قلبه يقول الاسترجاع. خبرني بذلك غير واحد من الفقهاء.
وروى أبو الحسن عن الفضل بن تميم قال: قيل للضحاك بن قيس: من قال عند المصيبة: إنا لله وإنا إليه راجعون، كان ممن أخذ بالتقوى وأدى الفرائض؟ فقال: نعم، أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة.
1 / 45
قال الأصمعي عن بعض العلماء: لو وكل الناس بالجزع للجؤوا إلى الصبر.
وروي عن الحسن أنه كان يقول: الحمد لله الذي أجرنا على ما لا بد لنا منه، وأثابنا على ما لو كلفنا غيره لصرنا فيه إلى معصيته.
قال الأصمعي وأبو الحسن: جزع سليمان بن عبد الملك على ابنه أيوب فقال له رجل من القراء: يا أمير المؤمنين إن امرأ حدث نفسه بالبقاء في الدنيا وظن أنه يعرى من المصائب فيها لغير جيد الرأي. فكان ذلك أول ما تسلى به.
وكان علي بن أبي طالب رضوان الله عليه يقول: عليكم بالصبر، فإن به يأخذ الحازم وإليه يعود الجازع.
وروي عن أبي الحسن، عن أبي عمرو بن المبارك قال: دخل زياد بن عثمان بن زياد على سليمان بن عبد الملك، وقد توفي ابنه أيوب، فقال: يا أمير المؤمنين، إن عبد الرحمن بن أبي بكرة كان يقول: من أحب البقاء فليوطن نفسه على المصائب.
1 / 46
قال أبو الحسن عن علي بن سليمان عن الحسن: الخير الذي لا شر فيه الشكر مع العافية، والصبر عند المصيبة. فكم من منعم عليه غير شاكر، ومن مبتلى غير صابر.
قال: ومن أحسن التعزية إبلاغ في إيجاز. قال أبو الحسن: ومن أحسن ما سمعنا في ذلك عن أبي الحكم الليثي عن شيبة بن نصاح قال: لما قبض النبي ﷺ صرخت أسماء بنت عميس، فنادى مناد من ناحية البيت، يسمعون حسه ولا يرون شخصه: السلام عليكم أهل البيت ورحمة الله وبركاته، أعلى رسول الله تبكون، أم على رسول الله تصرخون؟ فقالت أسماء: ما على رسول الله ﷺ نبكي ولا على رسول الله نصرخ، ولكن على انقطاع الوحي عنا. قال: ثم نادى الثانية: كل نفس ذائقة الموت، وإنما توفون أجوركم يوم القيامة فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور. إن في الله عزاءً من كل مصيبة، وعوضًا من كل مرزئة، ودركًا من كل فائت، وخلفًا من كل هالك. فبالله فثقوا، وإياه فارجوا. المحبور من حبره الثواب، والخائب من أمن العقاب.
1 / 47
قال أبو الحسن عن الحسن بن دينار عن علي بن زيد عن أنس بن مالك أن رسول الله ﷺ وضع إبراهيم في حجره وهو يجود بنفسه فقال: لولا أن الماضي فرط الباقي وأن الآخر لاحق بالأول لحزنا عليك يا إبراهيم. ثم دمعت عينه فقال: تدمع العين ويحزن القلب ولا نقول إلا ما يرضي الرب. وإنا بك يا إبراهيم لمحزونون.
قال أبو الحسن: أخبرنا عن مسلمة عن أبان عن أنس بن مالك أن رسول الله ﷺ قال: لأن أقدم فرطًا أحب إلي من أن أدع مئة مستلئم. وجاء عنه ﷺ أنه قال: من عزى مصابًا فله مثل أجره قال أبو الحسن عن بعض أصحابه قال: عزى أبو بكر عمر على طفلٍ له، فقال: عوضك الله منه ما عوضه منك.
1 / 48
تفسير هذا أنه يقال: إن الطفل يعوض من أبويه الجنة.
قال أبو الحسن عن أبي بكر عن أبي المليح قال: قال رسول الله ﷺ قال الله جل ذكره: إذا أخذت صفي عبدي فصبر لم أرض له ثوابًا دون الجنة.
1 / 49
باب من الشعر
مراثي الجاهلية المشهورة المستحسنة المستجادة المقدمة معلومة موسومة منها قصيدة متمم بن نويرة في أخيه مالك، على أن سائر أشعاره غير مذموم، وان تقدمتهن العينية التي أولها. الطويل
لعمري وما دهري بتأبين هالكٍ ... ولا جزعٍ ممّا أصاب فأوجعا
ومنها قصيدة دريد في أخيه عبد الله التي أولها الطويل
أرثّ جديد الحبل من أمّ معبد ... بعاقبةٍ وأخلفت كلّ موعد
ومنها قصيدة كعب بن سعد الغنوي يرثي فيها أخاه، وهي التي أولها: الطويل
تقول سليمى ما لجسمك شاحبًا ... كأنّك يحميك الشّراب طبيب؟
ومنها قصيدة أعشى باهلة، أبي قحافة وهي التي أولها: البسيط
1 / 50
إنّي أتتني لسانٌ لا أسرّ بها ... من علو لا عجبٌ منها ولا سخر
ومراثي الخنساء ومراثي ليلى الأخيلية، وسنذكر من ذلك طرفًا، ومن مراثي أوس بن حجر في فضالة بن كلدة الأسدي، ومراثي لبيد في أخيه أربد، وعدي المهلهل فيمن بكاه من قومه اختيارات بارعة وننبه على ما فيها ولمن اختيرت ثم ننحط إلى شعر الإسلام من قديم ومحدث وما بينهما إن شاء الله. ونفصل ذلك بالمواعظ كلامًا وشعرًا والتعازي على ما يحضر ونوفق له إن شاء الله.
فمما اخترنا من قصيدة متمم وكان الذي تولى قتل أخيه بأمر خالد بن الوليد بن المغيرة ضرار بن الأزور الأسدي وحدثنا التوزي في إسناد أن ضرارًا هذا أتى رسول الله ﷺ ليسلم ففعل وقال: المتقارب
تركت الخمور وضرب القدا ... ح واللهو تصليةً وابتهالا
وكرّي المحبّر في غمرةٍ ... وشدّي على المشركين القتالا
فيا ربّ لا أغبنن صفقتي ... فقد بعت أهلي ومالي بدالا
1 / 51
فقال رسول الله ﷺ: ما غبنت صفقتك يا ضرار.
ثم نرجع إلى اختيارنا من العينية، ففيها من حر الكلام وصادق المدح قوله: الطويل
إذا ابتدر القوم القداح وأوقدت ... لهم نار أيسارٍ كفى من تضجّعا
بمثنى الأيادي ثمّ لم تلف مالكًا ... على الفرث يحمى اللّحم أن يتمزّعا
وقوله:
وكنّا كندماني جذيمة حقبةً ... من الدّهر حتّى قيل لن نتصدّعا
وعشنا بخيرٍ في الحياة وقبلنا ... أصاب المنايا رهط كرى وتبّعا
فلمّا تفرّقنا كأنّي ومالكًا ... لطول أجتماعٍ لم نبت ليلةً معا
وفيها مما يختار:
أقول وقد طار السّنا في ربابه ... وغيثٌ يسحّ الماء حتّى تريّعا
سقى الله أرضًا حلّها قبر مالكٍ ... ذهاب الغوادي المدجنات فأمرعا
وآثر بطن الواديين بديمةٍ ... ترشّح وسميًّا من النّبت خروعًا
تحيّته منّي وإن كان نائيًا ... وأضحى ترابًا فوقه الأرض بلقعا
فما وجد أظار ثلاثٍ روائمٍ ... رأين مجرًّا من فصيلٍ ومصرعا
يذكّرن ذا الوجد القديم بوجده ... إذا حنّت الأولى سجعن لها معا
بأوجد منّي يوم فارقت مالكًا ... ونادى به النّاعي السّميع فأسمعا
1 / 52
يريد بالسميع: المسمع.
ومما يستحسن من شعره فيه: الطويل
كهولٌ ومردٌ من بني عمّ مالكٍ ... وأيفاع صدقٍ لو تملّيتهم رضى
سقوا بالعقار الصّرف حتّى تتابعوا ... كدأب ثمودٍ إذ رغا سقبهم ضحى
إذا القوم قالوا: من فتىً لعظيمةٍ؟ ... فما كلّهم يعنى ولكنّه الفتى
وهذا يشبه قول طرفة: الطويل
إذا القوم قالوا: من فتىً؟ خلت أنّني ... عنيت فلم أكسل ولم أتبلّد
ومن ذلك قوله في أخرى: الطويل
وكلّ فتىً في النّاس بعد ابن أمّه ... كساقطةٍ إحدى يديه من الخبل
وبعض الرّجال نخلةٌ لا جنى لها ... ولا ظلّ إلاّ أن تعدّ من النّخل
وهذا من جيد الكلام لصحة معناه، ولأنه وافق حقًا. قال رسول الله ﷺ: الناس كإبل مئة، لا تكاد ترى فيها راحلة وقد قال الآخر لشجرات ضرب بهن مثلًا: الطويل
إذا لم يكن فيكنّ ظلٌّ ولا جنىً ... فأبعدكنّ الله من شجرات
والرجل ﵀ الذي أنشأنا هذا الكتاب بسببه، ومن أجل وفاته، نأمن أن يلحق وصفنا إياه تزيد أو تكلف لإجماع العامة فيه على قول الخاصة.
1 / 53
فكأنه شيء وقع إلهامًا، وكأن مادحه يستملي مدحه من قول القائل: الكامل
جلّت مصيبته فعمّ مصابه ... فالنّاس فيه كلّهم مأجور
والنّاس مأتمهم عليه واحدٌ ... في كلّ دارٍ رنّةٌ وزفير
تجري عليك دموع من لم توله ... خيرًا لأنّك بالثّناء جدير
ويشاكل هذا المعنى قول عمارة بن عقيل لخالد بن يزيد بن مزيد: الطويل
أرى النّاس طرًّا حامدين لخالدٍ ... وما كلّهم أفضت إليه صنائعه
قال: النصب في كلهم أحب إلي، والرفع جيد
ولن يترك الأقوام أن يحمدوا الفتى ... إذا كرمت أعراقه وطبائعه
فتىً أمعنت ضرّاؤه في عدوّه ... وخصّت وعمّت في الصّديق منافعه
وإن سلم أحد من أن يكون له عدو فإسماعيل بن إسحاق القاضي رحمة الله عليه، ذلك الرجل. ولكن من سلم من أن يعادى لجناية فغير سالم من حاسد باغ.
وحدثني الرياشي قال: حدثني محمد بن عبد الله الأنصاري في إسناد قال: صلى أبو بكر رحمة الله عليه صلاة الصبح يومًا، فلما انفتل قام متمم بن نويرة في آخر
1 / 54
الناس، وكان رجلًا أعور دميمًا، فاتكأ على قوسه ثم قال: الكامل
نعم القتيل، إذا الرّياح تناوحت ... خلف البيوت، قتلت يا بن الأزور
أدعوته بالله ثمّ غدرته ... لو هو دعاك بذمّةٍ لم يغدر
وأومأ إلى أبي بكر، فقال أبو بكر ﵁: والله ما دعوته ولا غدرت به، ثم اتكأ متمم على سية قوسه حتى دمعت عينه العوراء، ثم أتم شعره فقال:
لا يمسك العوراء تحت ثيابه ... حلوٌ شمائله عفيف المئزر
ولنعم حشو الدّرع كنت وحاسرًا ... ولنعم مأوى الطّارق المتنوّر
فقام إليه عمر فقال: لوددت أنك رثيت أخي بما رثيت به أخاك. فقال له: يا أبا حفص، لو أعلم أن أخي صار حيث صار أخوك ما رثيته يقول: إن أخاك قتل شهيدًا. فقال عمر: ما عزاني أحد بمثل تعزيتك
وفي حديث آخر أنه رثى زيد بن الخطاب فلم يجد، فقال له عمر: لم أرك
1 / 55
رثيت زيدًا كما رثيت أخاك مالكًا، فقال: إنه والله يحركني لمالك ما لا يحركني لزيد. وقال له عمر يومًا: إنك لجزل فأين كان أخوك منك؟ فقال: كان، والله، أخي في الليلة ذات الأزيز والأصوات والصراد، يركب الجمل الثفال بين المزادتين المتلونتين، ويجنب الفرس الجرور، وعليه الثملة الفلوت، وفي يده الرمح الثقيل حتى يصبح متهللًا، ولقد أسرت مرة في بعض أحياء العرب فمكثت فيهم سنة أحدثهم وأغنيهم، فما أطلقوني. فلما كان بعد، وقف عليهم مالك في شهر من الأشهر الحرم، فحادثهم ساعة ثم استوهبني منهم وهم لا يعرفونه فوهبوني له، فعلمت أن ساعة من مالك أكثر من حول مني.
قال: وأما مرثية دريد بن الصمة فكان الأصمعي يقدمها جدًا، وهي أهل ذاك. وكان سبب هذه المرثية أن أخاه عبد الله بن الصمة أحد بني جشم بن بكر بن هوازن، غزا قبائل غطفان بن سعد بن قيس بن مرة، وفزازة وأشجع بن بغيض. فاكتسح أموالهم وانصرف، فلم يجاوز بعيدًا حتى أناخ وأمر بالإبل تنحر، فقال له أخوه دريد: يا أبا فرعان، إن غطفان غير نائمة عن أموالها فتقدم شيئًا ثم أنخ. فقال:
1 / 56
لا والله لا أريم حتى آخذ مرباعي وأنتقع نقيعتي، فأمر الإبل فنحرت، وأجلسوا ربيئتهم فلما سطعت الدواخن قال له الربيئة: إني أرى غبرة قد ارتفعت أكثر من هذه الدواخن. قالوا: فتأمل ماذا ترى. قال: أرى قومًا على خيلهم كأنهم الصبيان. قالوا: هذه فزازة، لا بأس، فتأمل. قال: أرى قومًا كأنهم غمسوا في الجأب فقالوا: تلك أشجع ولا بأس، تأمل. قال: أرى قومًا كأنما يتقلعون من صخر، يقلعون دوابهم ببوادهم. قالوا: تلك عبس والموت. فلم ينشبوا أن التقى القوم فاقتتلوا شيئًا، ثم نادوا: أردي، والله، فارس هو أبو فرعان، فأقبل دريد فإذا به صريعًا، وأصاب دريدًا جراحات. وله خبر في ذلك اليوم ليس من هذا. ففي ذلك يقول في كلمته هذه: الطويل
1 / 57
وقلت لعارضٍ وأصحاب عارضٍ ... ورهط أبي السّوداء والقوم شهّدي
أمرتهم أمري بمنعرج اللّوى ... فلم يستبينوا النّصح إلاّ ضحى الغد
فلمّا عصوني كنت منهم وقد أرى ... غوايتهم وأنّني غير مهتد
فما أنا إلاّ من غزيّة إن غوت ... غويت وإن ترشد غزيّة أرشد
فقلت لهم: ظنّوا بألفي مقاتلٍ ... سراتهم في الفارسي المسرد
فنادوا وقالوا: أردت الخيل فارسًا ... فقلت: أعبد الله ذلكم الردي؟
فجئت كأمّ الوّ ريعت فأقبلت ... إلى جذمٍ من جلد سقبٍ مقدّد
فما راعني إلاّ الرّماح تنوشه ... كوقع الصّياصي في النّسيج الممدّد
فإن يك عبد الله خلّى مكانه ... فما كان وقّافًا ولا طائش اليد
كميش الإزار خارجٌ نصف ساقه ... بعيدٌ من السّوءات طلاّع أنجد
قليل التّشكّي للمصيبات حافظٌ ... مع اليوم أدبار الأحاديث في غد
وهوّن وجدي أنّني لم أقل له: ... كذبت، ولم أبخل بما ملكت يدي
وأشعار الجاهلية مشهورة معروفة، وإنما نملي منها العيون. ألا ترى إلى قوله قليل التشكي للمصيبات ثم وصله بقوله حافظ مع اليوم أدبار الأحاديث في غد كيف قرن فيه معنى ظريفًا بآخر مثله في الظرافة التي لا يمتنع اللبيب من قبولها واستحسانها والمعرفة بحقيقة ما فيها كما قلنا في الذي قبله.
1 / 58