La comida en el mundo antiguo
الطعام في العالم القديم
Géneros
تمهيد
المخطط الزمني
مقدمة الفصل الأول
1 - لمحة عامة عن الطعام في العصور القديمة
مقدمة الفصل الثاني
2 - الإطار الاجتماعي لعادات تناول الطعام
مقدمة الفصل الثالث
3 - الطعام والدين في العصور القديمة
مقدمة الفصل الرابع
4 - الأطعمة الأساسية: الحبوب والبقوليات
Página desconocida
مقدمة الفصل الخامس
5 - اللحوم والأسماك
مقدمة الفصل السادس
6 - النبيذ وعادات شرب الخمر
مقدمة الفصل السابع
7 - الطعام في الفكر القديم
مقدمة الفصل الثامن
8 - الآراء الطبية المتعلقة بالطعام
مقدمة الفصل التاسع
9 - الطعام في الأدب
Página desconocida
بعض وصفات الطعام
مراجع
مصادر الصور
تمهيد
المخطط الزمني
مقدمة الفصل الأول
1 - لمحة عامة عن الطعام في العصور القديمة
مقدمة الفصل الثاني
2 - الإطار الاجتماعي لعادات تناول الطعام
مقدمة الفصل الثالث
Página desconocida
3 - الطعام والدين في العصور القديمة
مقدمة الفصل الرابع
4 - الأطعمة الأساسية: الحبوب والبقوليات
مقدمة الفصل الخامس
5 - اللحوم والأسماك
مقدمة الفصل السادس
6 - النبيذ وعادات شرب الخمر
مقدمة الفصل السابع
7 - الطعام في الفكر القديم
مقدمة الفصل الثامن
Página desconocida
8 - الآراء الطبية المتعلقة بالطعام
مقدمة الفصل التاسع
9 - الطعام في الأدب
بعض وصفات الطعام
مراجع
مصادر الصور
الطعام في العالم القديم
الطعام في العالم القديم
تأليف
جون إم ويلكنز وشون هيل
Página desconocida
ترجمة
إيمان جمال الدين الفرماوي
مراجعة
هبة عبد المولى أحمد
تمهيد
ورث العالم الحديث الكثير من صور الطعام وأنماط تناول الطعام التي كانت سائدة في العصور القديمة، وربما يكون من بينها حفلات العربدة التي كان يقيمها الأباطرة الرومان، والنباتات التي كانت تنتشر في أنحاء الإمبراطورية، وكتاب الطهي الذي ألفه أبيكيوس، واستخدام الأطعمة في النصوص الكوميدية والساخرة. ومن نواح أخرى، فإن الطعام الذي كان الإغريق والرومان يتناولونه في الأحوال العادية غير معروف لنا غالبا. سيحاول هذا الكتاب إحياء الطعام نفسه، وأيضا الأجواء والأماكن التي كان الناس يتناولونه فيها؛ على سبيل المثال: غرف الطعام التي كانت مشيدة بجوار المعابد الإغريقية، والهياكل التي كانت تذبح فيها الحيوانات.
يستعرض الكتاب النظام الغذائي لملايين الإغريق والرومان ممن لم يكونوا من الصفوة الرومانية المدللة التي تحدث عنها المؤرخ الروماني سيوتونيوس في كتبه. ويتضح من المقارنات وجود درجة مدهشة من التشابه بين العادات الإغريقية والرومانية .
علاوة على ذلك، تتناول هذه الدراسة أيضا أنواعا معينة من الأطعمة؛ ومن أمثلة ذلك اللحم، وهو الطعام الذي يحظى بالمنزلة العليا. فاللحم من المنتجات الطبيعية، وتربية الحيوانات للحصول على لحومها من الأنماط غير الناجحة نسبيا في تربية الحيوانات؛ لأن الطاقة النباتية الموجودة في العلف (مثل الشعير) لا تنتقل إلى من يأكلها من البشر إلا على نحو جزئي فقط؛ ولذلك، كان الكثير من الناس يرون أن الحيوانات من دلائل الثراء، وكان المواطنون الأغنياء - فضلا عن الآلهة - يتوقعون الاستفادة من لحوم الحيوانات. وكان الإغريق يتعجبون من الفرس الأثرياء الذين كانوا يطهون الحيوانات الكبيرة الحجم - مثل الجمال والثيران - بأكملها دون تقطيعها. وكان الأبطال الذين ورد ذكرهم في الأعمال الأدبية لهوميروس يستمتعون بأكل لحم البقر. وكانت طقوس تقديم القرابين الواسعة النطاق من سمات الحياة في المدن القديمة ذات الحكم الذاتي، ووصولا إلى شعائر الحج في مكة. ينعكس الدور المهم للحيوانات في الأساطير والدين؛ إذ إنها تسهم في تعزيز شعور بالهوية والانتماء لجماعة ما. ومن الممكن أن نقارن بين بعض الشعوب الأصلية في أمريكا ممن كانوا يؤمنون بأن الآلهة هي التي تطعم قطيع الجاموس؛ فمكان الجاموس هو السهول وليس الحظائر - الغارقة في الفضلات - التي أدخلها المهاجرون الأوروبيون إلى أمريكا. كانت البنية الاجتماعية للعالم القديم بنية أبوية؛ ولهذا السبب كان الرجال يتناولون على الأرجح كمية لحم أكبر مما تتناولها النساء، وهو وضع يتشابه إلى حد ما مع اليهودية والمسيحية والإسلام.
كانت الحضارة ترتبط لدى الإغريق والرومان - شأنهم شأن علماء الأنثروبولوجيا في العصر الحديث - بالزراعة والتكنولوجيا. فضلا عن اللحم، قدم مجال الزراعة وتربية الحيوانات نشاط زراعة الحبوب، وغالبا ما يقال لنا إن الإغريق كانوا يأكلون «مازا» أو عصيدة الشعير بدلا من الخبز. ربما تبدو العصيدة غذاء أساسيا غير محبب، لكن هذا الكتاب سيحاول وضع تصورات لأصناف الطعام التي يمكن إعدادها بمنتجات الحبوب؛ فلنتأمل تنوع استخدامات الأرز (في الأصناف الحلوة والمالحة)، والقمح (في الخبز والبرغل والمكرونة)، والذرة في العالم الحديث. والحبوب هي بذور صلبة يجب نزع قشرتها عادة قبل دخولها إلى الجهاز الهضمي للإنسان، وذلك النوع من التحضير وطحن الحبوب عملية صعبة ويستغرق وقتا طويلا. في العصور القديمة، كانت النساء يقمن بهذا العمل على الأرجح أكثر من الرجال - وذلك نظرا للطابع الأبوي للبنية الاجتماعية - إلا إذا كان في وسع الأسرة تحمل تكلفة إعالة عبيد أو شراء منتجات خبز جاهزة.
بدأ دخول الحبوب والكثير من الحيوانات والنباتات التي يأكلها البشر تدريجيا إلى البلاد المطلة على البحر المتوسط على مدى ألف عام، إن لم تكن متوافرة أصلا في المنطقة. وصل القمح والشعير في فترة مبكرة، ووصل الدجاج قبل القرن الخامس قبل الميلاد، ثم وصل الخوخ والمشمش في فترة متأخرة عن ذلك، ووصل الأرز في فترة التأثر بالحضارة العربية (بعد عام 700 ميلاديا)، أما الذرة فقد وصلت بعد كولومبس. وفي العالم القديم، كان لأنواع الطعام الوافدة حديثا تأثير مستمر.
Página desconocida
كان للإغريق والرومان اتصال كبير مع الشعوب الآسيوية والأفريقية في كل الفترات، وأخذوا الكثير عن جيرانهم الشرقيين على وجه التحديد. وتزامن شعور بالقلق مع دخول أصناف الطعام الحديثة هذه نقلا عن الفرس والمصريين، على سبيل المثال. ويذكر بلوتارخ هذا الموضوع في كتابه «حياة الإسكندر الأكبر»؛ إذ ذكر بلوتارخ أن ذلك الملك المحارب المقدوني الشاب - الذي أدت فتوحاته التي وصلت حتى الهند إلى زيادة الاتصال ببلاد كانت تنتج حيوانات ونباتات وتوابل غير معروفة - كان لديه تحفظات بشأن «وسائل الترف»؛ وهذا موضوع معقد، كما سنناقشه لاحقا. يخبرنا بلوتارخ (22) أن الإسكندر الأكبر كان معتدلا في تناول الطعام، وكان يتجنب إلحاح أمه عليه لتناول المزيد من الكعكات والاستمتاع بالطعام الذي يحضره الخبازون والطهاة. وكان الإسكندر يصرح بأن أفضل الطهاة هو تمشية مسائية وفطور خفيف. وكان اعتدال شهية الإسكندر يتناسب مع الصورة الإيجابية لفاتح العالم التي كان بلوتارخ يحاول جاهدا أن يرسمها، نقلا عن تراث تاريخي يزخر بقصص تتحدث عن إفراط الإسكندر في احتساء الخمر وانغماسه في المتع الجسدية. ولا بد من تقديم نبذة عن الكعكات والطهاة وضبط الشهية.
إن الكعكات في العالم القديم ربما تأتي في صورة قرابين صغيرة مكونة من الدقيق والعسل وتقدم للآلهة، أو منتجات بسيطة كان ينصح بها السياسي الروماني المناصر للتقشف كاتو الأكبر، أو أهم جزء من الوجبة، وذلك بحسب وجهة نظر وردت عن الفرس في كتاب هيرودوت (1، 133). وكان للكعكات أشكال شتى ومجموعة متنوعة من الدلالات الثقافية، كما هي الحال في العالم الحديث. (قارن - على سبيل المثال - بين كعكة العلف الحيواني، وكعكة أعياد الميلاد ومحتويات فطيرة محلاة ومحشوة على الطريقة الفرنسية.) غالبا ما كان الخبازون والطهاة في المطابخ القديمة من العمالة المتواضعة الحال، ولكن كان يرتبط وجودهم بطقوس تناول الطعام ذات المستوى الراقي. ويربط ليفي بينهم وبين وسائل الترف الجديدة التي طرأت على روما في القرن الثاني قبل الميلاد، بينما يربط أفلاطون بينهم وبين وسائل الترف المجلوبة التي دخلت أثينا في القرن الرابع. كان القادة العسكريون يستعينون بالطهاة أيضا عند خروجهم في حملات، وخصوصا الفرس في عام 480 قبل الميلاد (هيرودوت 9، 82)؛ فكان هؤلاء الحرفيون المهرة المتخصصون في شئون الطهي والمطبخ موظفين يعملون في أماكن حارة تتصاعد فيها الأبخرة والدخان، وكانوا في الوقت نفسه متعهدي تقديم الطعام المترف.
وكثيرا ما نجد المصادر القديمة تغلب عليها مناقشة مخاطر الترف التي تتضاعف في جموح انطلاقا من الاحتياجات الإنسانية الأساسية مثل المسكن والملبس والطعام. لطالما كان أفلاطون أحد عوامل التأثير القوية للغاية في هذا الجانب من الفكر الغربي، ومن الآثار التي تركها وأثرت في الفلسفة لاحقا وفي المسيحية نظرته للفرد، التي هي أقرب إلى الازدواجية منها إلى الشمولية؛ فمن وجهة نظر المؤمن بمذهب الازدواجية، يجب إحكام السيطرة على الجسد حتى يتسنى للعقل والروح التركيز على الشئون الأكثر أهمية بدلا من التركيز على النشوة العابرة التي تأتي بالطعام والمتعة الجنسية. وأقر أفلاطون نفسه بدور الطعام والخمر في العادات الاجتماعية والدينية، كما يشهد بذلك كتاباه «حوار المأدبة» و«القوانين». وفي كتاب «طيمايوس» قدم نموذجا للجسد وللعالم، وأصبح الكتاب من الأعمال المهمة التي تأثر بها علماء الطب الذين جاءوا لاحقا مثل جالينوس.
للطب دور مهم في هذا الكتاب؛ إذ يحتوي على نظريات قديمة عن التغذية ونظريات عن أثر الطب في الثقافة. يعزز الفكر الطبي الرأي القائل بأن الطعام كانت له أهمية ثقافية لدى القدماء تضاهي دوره في الثقافة الصينية؛ وهذا الرأي الشامل يختلف عن الآراء المتعلقة بأهمية الطعام من منظور فن تذوق الطعام و«أسلوب الطهي المميز في بلد ما»، مثل أسلوب الطهي الفرنسي الذي ظهر على مدى القرنين الماضيين. في دراستنا هذه عن الطعام في الثقافتين الإغريقية والرومانية نعتمد على كتابات جالينوس وبلينوس وأثينايوس، وهم من المؤلفين القدماء البارزين، ومن الممكن أن نطلق على كل منهم لقب مؤلف «موسوعي» من حيث المجال والمنهج. رجعنا مرارا إلى نوع من الموسوعات الحديثة المختلفة بعض الشيء، وهي بالتحديد موسوعة «عن الطعام والطهي» من تأليف هارولد ماكجي، و«لاروس جاسترونوميك»، و«دليل أكسفورد للطعام».
المخطط الزمني
الفترات
العصر البرونزي
3500-1100
العصر العتيق
600-480
Página desconocida
العصر الكلاسيكي
480-323
العصر الهلنستي
323-31 قبل الميلاد
الإمبراطورية الرومانية
27 قبل الميلاد-330 ميلاديا
التواريخ
قبل الميلاد
753
التاريخ التقريبي لتأسيس روما
Página desconocida
750-700
التاريخ التقريبي للمراحل النهائية من تأليف قصائد هوميروس
أواخر القرن السابع
آشور بانيبال ملكا للآشوريين
550
الملك كورش الأكبر يهزم الميديين ويرسخ القوة الفارسية
490-480
الفتوحات الفارسية لليونان، معارك ماراثون وثيرموبيلاي وسالاميس
454-404
إمبراطورية أثينا (429)-347
Página desconocida
فترة حياة أفلاطون
384-322
فترة حياة أرسطو
336
الإسكندر الأكبر يصبح ملكا لمقدونيا
334-323
حملة الإسكندر الأكبر على بلاد فارس
167
الرومان يهزمون مقدونيا
146
Página desconocida
الرومان يدمرون كورنث وقرطاج
133
مدينة بيرجاموم تئول إلى الرومان
31
أوكتافيان يهزم مارك أنطونيو والقوات المصرية
27
أوكتافيان يلقب باسم أغسطس (أول إمبراطور روماني)
ميلاديا
23-79
فترة حياة بلينوس الأكبر (50)-(120)
Página desconocida
فترة حياة بلوتارخ
129-(216)
فترة حياة جالينوس
80-161
ماركوس أوريليوس إمبراطورا (200)
أثينايوس يؤلف كتاب «مأدبة الحكماء» أو «ديبنوسوفيستاي» (ملحوظة: الأرقام الموضوعة بين قوسين تعني أن رقم العام تقريبي ليس أكيدا.)
خريطة 1: خريطة البحر المتوسط.
مقدمة الفصل الأول
إن الحديث عن أطعمة العصور الماضية من الموضوعات الجذابة والمثيرة للاهتمام؛ إذ إن تجربة تناول الأطباق نفسها وشم الروائح نفسها التي من الممكن أن تكون جزءا من الحياة في حقبة أخرى من التاريخ؛ ربما تكون الطريقة الأقرب لفهم نمط الحياة اليومية ونسيجها، ومعايشة تجربة الحضور الفعلي في تلك العصور بدلا من أي تمرين أكاديمي يعتمد على استحضار فترات القوة والضعف في الحياة السياسية والحربية.
الأمر لا يتعلق بطهي وصفات تقترب من الوصفات الأصلية وإحياء أطباق معينة اعتمادا على ولائم موثقة جيدا، بل إنه أمر يتناول دراسة أذواق وميول ذلك العصر والأفكار المسبقة والأفكار المزيفة التي كان يؤمن بها الناس بخصوص الطعام، وعادات تناول الطعام، وتأثير ذلك على أنواع الأطعمة التي كان يتناولها الأغنياء والفقراء، سواء أكانت الأطعمة المخصصة للمناسبات الفخمة أم المستخدمة كطعام يومي.
Página desconocida
ليست ثمة استفادة تذكر من دراسة الأنظمة الغذائية للشعوب التي كانت على شفا مجاعة؛ إذ إنهم كانوا يأكلون ما يتيسر لهم، وكانوا يستخدمون كل ما هو صالح للأكل من النباتات أو الحيوانات الموجودة حولهم. ومن الأمور الأكثر إثارة للاهتمام الخيارات التي كان يتخذها من يتمتعون بالقدرة على تلبية التفضيلات المتنوعة.
من المفترض - من الناحية النظرية - أن تكون هذه التفضيلات مباشرة وغير متغيرة إلى حد ما على مدى القرون. وهي من الناحية التطبيقية معقدة وتأتي كرد فعل للكثير من الضغوط الاجتماعية والطبية، وهذه الضغوط متغيرة فعلا؛ فالأفكار المعاصرة فيما يخص مخاطر النظام الغذائي الكثير الدسم والرغبة في النحافة تتعارض تماما مع الأفكار التي ظهرت في فترة ما بعد الحرب، حين كان الناس يرون أن الطفل الرضيع ذا الجسم الممتلئ هو طفل يتمتع بصحة وافرة ويبعث على الفرحة، أكثر من أن يكون مثارا للقلق خشية احتمال إصابته بالسمنة في المستقبل.
نحن نختار مما هو متوافر لدينا؛ لذلك سيوضح أي فحص موجز لما يفترض أنه كان متوافرا اختلافات كبرى بين الحاضر والماضي. ونظرا لأن التغيرات الموسمية كان لها تأثير كبير للغاية على اللحوم، وكذلك على الفواكه والخضراوات، فإن أساليب التخزين كانت تتسم بالصرامة، وغالبا ما تغير في طبيعة المادة المخزنة عن طريق التمليح والتقديد، وبالطبع كانت الحفر العميقة في الأرض هي أقرب وسائل التبريد شبها إلى أجهزة التبريد.
أكبر العوائق التي تحول دون فهم الأطباق التي ربما كانت متوافرة حينئذ هي الأفكار المسبقة عن «النظام الغذائي في البلاد المطلة على البحر المتوسط»، التي ترسخت بقوة في الوعي؛ فالأسماك والحبوب - على سبيل المثال - من الأطباق التي لا بأس بها، ولكن الكثير من الأنواع التي نظن أنها جزء من هذا المصطلح تنتمي لفترة ما بعد اكتشافات كولومبس؛ لذلك، كان غذاء تلك البلاد يخلو - من بين مواد أخرى - من الطماطم والفلفل والذرة اللازمة لصنع العصيدة والفلفل الحار. وكانت للقمح أصناف متنوعة، وكلها كانت باهظة الثمن للغاية، حتى إنها لم تكن في متناول الطبقات الفقيرة؛ مما كان يضطرها إلى الاعتماد على الدخن والشعير كأغذية أساسية. وكانت تستخدم أنواع القمح الأقل جودة مثل القمح الثنائي الحبة والعلس في صنع رقائق مسطحة غير مختمرة تشبه المكرونة، وكان الطلب كبيرا على الأنواع الأجود مثل القمح الصلب - الذي يصنع منه أفضل أنواع الخبز - وكانت تزرع وتستورد بكميات كبيرة من كل أنحاء الإمبراطورية إبان العصر الروماني.
إن المدة الزمنية التي يتناولها هذا العمل كبيرة - تشمل عصر هوميروس حتى أوائل العصر المسيحي - لذلك يجب أن نأخذ في اعتبارنا التغيرات التي حدثت، ليس فقط من حيث مدى توافر المواد الغذائية، بل من حيث الآراء الدينية والرخاء النسبي أيضا، بل حتى الأزياء السائدة إبان هذه الفترة. ولا بد أيضا من دراسة مصادر العمل وتقييمها تحريا للدقة في هذا السياق. كان الكتاب نتاج عصرهم، بكل الأفكار المسبقة والآراء المتحيزة التي كانت سائدة آنذاك، ومن أمثالهم كاتب القرن الثاني الميلادي أثينايوس الذي أسهم إسهاما مهما في الكتابة المتعلقة بالطعام، ولكن كتاباته تلك اندثرت الآن بالكامل، ولم يصلنا منها شيء. فأي تحليل أو تعليق يتعلق بالطعام وعادات تناول الطعام قبل ذلك الحين، كان سيتأثر بهذه المؤثرات؛ على سبيل المثال: تتسم الإشارات المتعلقة بالكاتب والذواقة أركستراتوس - الذي عاش وألف في القرن الرابع قبل الميلاد - بمسحة من السخرية لأن آراءه المتشددة عن الطعام والطهي - فضلا عن الإيقاع الذي كان يكتب به - لم يعد اعتناقها من الفطنة في شيء؛ فعند تأمل كتاب يتناول الطعام والتوجهات في عصر الملكة إليزابيث الأولى أو عصر الملك جيمس الأول كتبه مؤلفه من وجهة نظر الحاضر؛ ستتضح الفجوة الزمنية.
من الممكن تنفيذ وصفات فعلية اعتمادا على بعض النصوص، ولكن ليس الكثير منها؛ فمن غير المرجح أن الطهاة كانوا من هواة قراءة كتب الطهي واقتنائها، هذا إن كانوا يجيدون القراءة أصلا. توجد بعض الوصفات القابلة للتنفيذ بالطبع؛ فمثلا نجد شرحا واضحا لعجينة «تراكتا» من تأليف بلينوس، ونجد بعض الوصفات اللافتة التي وضعها كاتو في بحثه المعنون ب «عن الزراعة» - وهو بحث عن الزراعة ألفه في عام 160 قبل الميلاد تقريبا - ومن هذه الوصفات وصفة لحلوى البودنج تحضر بالدقيق والجبن والبيض والعسل. ومع ذلك، يتوجب علينا في معظم الأحوال أن نعتمد على أوصاف الطعام التي يقدمها من تناولوه، وليس على أوصاف يقدمها من يتوقعون منا أن نطهوه.
ثمة معضلة معينة تنشأ من جراء ذلك. إذا أعددنا طبقا بنفس طريقة إعداده تماما منذ ما يزيد عن ألفي عام، فقد يطغى عدم اعتيادنا على الطعم والقوام على قدرتنا على الحكم على فروق النكهة، التي كان من الممكن أن تكون واضحة لأي شخص من تلك الفترة، مثل تقديم الكاري لشخص لم يسبق له تذوق الطعام الهندي قط، وأن نتوقع منه أن يلحظ الاختلافات الدقيقة في التوابل بدلا من أن يصدمه طعم الفلفل الحار فحسب. إذا أعدنا تحضير الأطباق طبقا لطريقة إعدادها الأصلية، فسنضطر لإحياء القدرة على استساغة طعمها والتوقعات التي كانت سائدة في ذلك العصر كذلك.
من ناحية أخرى، هل إذا خففنا من حدة التوابل والنكهة حتى تتضح السمة المميزة للطعام، نكون بذلك قد أضعفنا من موثوقية جهودنا؟ لقد أصبحنا الآن نعرف طرائق الطهي التايلاندي والفيتنامي، ونجد أن الكثير من المكونات المستخدمة فيهما تشبه المكونات المستخدمة في طرائق الطهي في البلدان المطلة على البحر المتوسط في الفترة التي نتناولها. كانت صلصة التغميس المنتشرة في العالم، والمعروفة باسم «جاروم»، تحضر بنفس طريقة تحضير الصلصة الفيتنامية «نام بلا» (صلصة السمك) تقريبا - ويعتمد تحضيرها على تخمير الأسماك الصغيرة - وجدير بالذكر أن النتائج شهية للغاية؛ فهذه الصلصة ليست كريهة الرائحة على الإطلاق كما توحي فكرة السمك النتن.
وما ينشأ من ذلك هو الولع بالنكهات الفاسدة في الأطعمة التي على غرار صلصة الجاروم أو الجبن بعد تقديمها مع مزيج من النكهات الحلوة مثل العسل والفواكه المجففة. وفي الواقع، لا يختلف ذلك اختلافا ملحوظا عن استخدام صوص الفواكه مع لحوم الطيور، أو البسكويت الحلو والنبيذ اللاذع مع الجبن الأزرق. كما كانت تستخدم التوابل اللاذعة مثل الحلتيت والأعشاب المرة مثل الزوفاء التي من المفترض أنها أعشاب طبية حاليا؛ وذلك لأن من المحتمل أنها كانت تضفي نكهة أفضل على أطباق عصيدة الحبوب، ولولاها لصارت بلا طعم.
ولم يكن للمطاعم بصورتها المعروفة وجود آنذاك؛ كانت ثمة فنادق صغيرة لإطعام المسافرين وإيوائهم بالطبع، ولكن الطقوس الرصينة لتناول الطعام كانت تقتصر على المنازل الخاصة التي يعمل فيها طهاة وخدم، بينما كانت الوجبات المخصصة للموظفين - وهي عماد العمالة الزراعية وطعام الباعة الجائلين - حكرا على فقراء المدن.
Página desconocida
كانت هذه الجماعات المتنوعة تضم أوجه تشابه فيما بينها من حيث النكهات المرجوة والأفكار الثقافية المشتركة المتعلقة بالطعام والنظام الغذائي، وكانت سلوكيات التكبر والغرور تترافق مع طقس تناول الطعام لدى الأغنياء آنذاك كما هي الحال في الوقت الحاضر. ولعل الأفكار المبنية على الجهل والإيمان بالمعتقدات الخرافية، فيما يخص شئون الطعام التي تبدو مثيرة للضحك الآن، تنبئنا على نحو مزعج بأن أفكارنا الحالية عن الطعام ستثير سخرية الأجيال القادمة عند تناول الطعام.
الفصل الأول
لمحة عامة عن الطعام في العصور القديمة
يتألف هذا الفصل التقديمي من أربعة أجزاء. نبدأ بعرض الإطار التاريخي الشامل أولا، ثم نعرض الأدلة واقتراحاتنا لتفسيرها، ثم نلخص العناصر الأساسية للنظام الغذائي. ويتناول القسم الأخير الكيفية التي تغلغل بها الطعام وعادات تناول الطعام في الثقافة الإغريقية الرومانية إلى درجة لافتة. (1) الإطار التاريخي
يتناول هذا الكتاب فترة زمنية طويلة - تمتد تقريبا من عام 750 قبل الميلاد وحتى عام 200 ميلاديا - ويركز على ثقافات اليونان وروما. في تلك الفترة، تحولت اليونان إلى مجموعة كبيرة من المدن ذات الحكم الذاتي التي تحكمها حكومات قائمة على حكم الأقلية وأنشئت المستعمرات في أنحاء البلدان المطلة على البحر المتوسط. وكان للمدن ذات الحكم الذاتي أنماط متنوعة - من بينها بضع ديمقراطيات - وظلت في معظمها مستقلة حتى بزوغ نجم مملكة مقدونيا في القرن الرابع قبل الميلاد. هيمن الإسكندر الأكبر وخلفاؤه آنذاك على البلدان الإغريقية (التي تشمل الآن آسيا الصغرى وسوريا ومصر فضلا عن جنوبي إيطاليا) في سلسلة من السلالات الحاكمة، واستولى الرومان عليها كلها بحلول نهاية القرن الأول قبل الميلاد. وفي الفترة نفسها، كان الرومان عاكفين على تنمية قوتهم بوصفهم أحد الشعوب الإيطالية القديمة، وأخذوا يتقبلون وجود القرطاجيين، ووجود المدن الإغريقية في صقلية وجنوبي إيطاليا، فضلا عن تقبلهم كل المؤثرات التي كان جيرانهم هؤلاء يمارسونها عليهم. وفي عهد أول إمبراطور روماني - وهو أغسطس - صارت للرومان إمبراطورية عالمية كان الكثير من سكانها في الشرق يتحدثون اللغتين اليونانية واللاتينية. وشهد هذان النظامان - الإغريقي والروماني - قدرا كبيرا من التبادل الثقافي فيما بينهما. يعتمد هذا الكتاب على ثلاثة مؤلفين على وجه الخصوص، حاولوا فهم هذا الانصهار الثقافي فيما يخص الطعام؛ وهم بلوتارخ الخيروني (وخصوصا كتابه «سيمبوتيكا» أو «حديث المائدة»)، وأثينايوس النقراطيسي (وكتابه «مأدبة الحكماء» أو «ديبنوسوفيستاي»)، وجالينوس البيرجامومي (وخصوصا بحثه المعنون ب «عن قوى الأطعمة»)، وكان الثلاثة جميعا مؤلفين إغريقيين كتبوا في ظل سلطة روما في القرن الثاني أو في أوائل القرن الثالث الميلادي. وتتسم كتاباتهم عن الطعام وعادات تناول الطعام والطب والدين والتنوع المحلي بأنها متنوعة ومحفزة على التفكير.
لا يقتصر هذا الكتاب على البلدان الأصلية لكل من «الإغريق» و«الرومان»، بل يأخذ في الاعتبار منطقة واسعة تمتد من البحر الأسود وسوريا حتى إسبانيا، ومن سهوب روسيا حتى بحر شمال أفريقيا وصحاريها. سينصب الاهتمام الأساسي للكتاب على السواحل، ولكن الكثيرين في هذه المنطقة لم يكونوا يعيشون بالقرب من البحر؛ إذ كان من بينهم ساكنو مناطق جبلية ومزارعون وكثيرون ممن لم يعتادوا السفر. وكان الرومان فعلا يرون أنفسهم شعبا مكونا من مزارعين بسطاء لم يتعرضوا لمؤثرات من الخارج؛ لذا، يصف أوفيد في قصيدته «الأعياد» - على سبيل المثال - الإلهة كارنا بأنها تكره السفر بحرا، وتكره كذلك الطيور والأسماك المجلوبة من بقاع بعيدة، وتفضل بدلا منها الأكلات الرومانية التقليدية مثل الفول ولحم الخنزير المقدد والقمح الثنائي الحبة (6، 169-186). ولكن من نواح كثيرة، كانت التجارة والسفر من العوامل المهمة في تاريخ عادات تناول الطعام في العصور القديمة، وكانت الأطعمة، وربما الاختراعات التكنولوجية، تميل إلى الاتجاه غربا. فضلا عن ذلك، تأثر الإغريق والرومان بالثقافات الأخرى، وكان من الأمثلة اللافتة على نحو خاص العادة الآشورية المتمثلة في الاتكاء عند تناول الطعام، وهي من العادات التي جلبها الإغريق والإتروريون والرومان بدءا من القرنين السابع والسادس قبل الميلاد إلى ما بعد ذلك. وتأتي مناقشة أكثر تفصيلا حول هذا التطور المهم في الفصل الثاني.
شكل 1-1: كان الأترج - وهو نبات هندي - النبات المندرج ضمن عائلة الحمضيات الذي كان معروفا بالطبع لدى الإغريق والرومان. لهذه الفاكهة الكبيرة الحجم والكثيرة اللب، التي لا تبدو للوهلة الأولى شهية كالليمون، رائحة فواحة. ويقول جالينوس إن الناس كانوا يأكلونها مع الخل وصلصة السمك، وأشار أيضا إلى خواصها الدوائية المعقدة، وكان الناس يعتقدون أيضا أنها ترياق يشفي أنواعا معينة من السموم. راجع دالبي (2003). (حصلنا على نسخة من الصورة بإذن من كبير كهنة كاتدرائية إكستر ورجال الكنيسة العاملين بها.)
كان من العوامل المهمة أيضا تنقل الناس من مكان لآخر، وكان الطعام وغيره من السلع يروج لها تجاريا على نطاق واسع؛ وذلك لسد النقص المحلي وتلبية طلبات الصفوة المحليين من السلع المميزة، وكذلك لأسباب أخرى. وأصبح للسفر علاقة وثيقة بالطعام. ونلاحظ هذا أولا في أعمال هوميروس؛ حيث يسافر أوديسيوس بطل ملحمة «الأوديسا» في أنحاء البلدان المطلة على البحر المتوسط، ويلتقي بأقوام لم يكونوا يأكلون الحبوب والزيتون أو يشربون الخمر الذي يشربه. وفيما بعد، أصبحت الكتابات التي تتناول جلسات الشراب والخمور وغيرها من المنتجات المستوردة من الكثير من الأماكن؛ مدونة ومشهورة. وفي روما، أدى تأثير التوسع إلى رد فعل سياسي وأدبي قوي، اعتبارا من عصر كاتو الأكبر فصاعدا (أواخر القرن الثالث/أوائل القرن الثاني قبل الميلاد). وأعرب كاتو وغيره عن قلقهم حيال تأثير الواردات وجودة الأطعمة والسلع الأجنبية وجاذبيتها، وما لاحظوه من إهمال للتقاليد الرومانية. وسنناقش الظاهرة الأخيرة على وجه التحديد في الفصلين السابع والتاسع. مع ذلك، فإن هذا التقليد الروماني يفيد في إلقاء الضوء على تأثير الأطعمة الأجنبية وأهميتها، وربما تكون مخاوف كاتو في القرن الثاني قد عكست ضغوطا جديدة، ولكن الاهتمام بالواردات الأجنبية - المادية والفكرية، كما يظهر من كتاباته - كان كبيرا وظل هكذا على مدى عقود. (2) الأدلة والتفسير
بوسع علم الآثار أن يسهم إسهاما كبيرا لنتمكن من فهم هذه التطورات. كشف تحليل بقايا النباتات والحيوانات والأسماك كثيرا من المعلومات عن توزيع الحيوانات والنباتات التي كانت تؤكل وأنواعها، ومنحنا فكرة عن التوزيع التجاري للنباتات والحبوب والأسماك وكل أدوات المائدة (رينفرو 1973، لوس 2000). وكشف التحليل أيضا الكثير عن تكنولوجيا الغذاء (كورتيس 2001)، وطرق تحضير وتخزين مجموعة كبيرة من الأطعمة (سباركس 1962، فوربس وفوكسهول 1995). وينطبق الشيء نفسه على أواني الطعام، وخصوصا الفضيات والأواني الخزفية المزدانة بالرسوم (فيكرز وجل 1994)، وعلى التصميم المعماري لغرفة الطعام، بما في ذلك المباني واللوحات المعلقة على الجدران وأنواع الأرضيات. وتتسم جداريات الفسيفساء بصفة خاصة بأنها تحتفظ بحالتها جيدة (دنبابين 1999 و2003).
ويأتي صنف آخر من الأدلة من تحليل العظام البشرية والبقايا العالقة في أواني الطهي وأوعية الطعام (جارنسي 1999). ونجد مثالا لذلك في دراسات أجريت حديثا تتناول الأدلة الواردة من الحضارة المينوية في كريت، وتكشف عن نوعية النظام الغذائي في أواخر الحقبة المينوية الثالثة (القرن الرابع عشر قبل الميلاد) لمجموعة من السكان يزيد عددهم عن 350 شخصا من البالغين والأطفال مدفونين في المقبرة الموجودة في أرمينوي، جنوبي ريثيمنو (تزيداكيس ومارتلو 2002). ولا توجد أدلة على وجود مأكولات بحرية (مع أن الأواني الفخارية المعاصرة تحفل بصور للأحياء البحرية)، ومع ذلك توحي البقايا بوجود «كمية كبيرة من البروتين الحيواني» (سواء أكان من الحليب أم اللحم) والبروتين النباتي. فضلا عن ذلك، اكتشف الباحثون أن الفارق ضئيل بين الأنظمة الغذائية لكل من الأغنياء والفقراء ، كما يظهر في الرواسب الكيميائية الموجودة في العظام؛ ولكن يوجد دليل على أن الرجال كانوا يأكلون قدرا أكبر من البروتين الحيواني مقارنة بالنساء. ومن بين الأمراض المعدية التي اكتشفت التهاب العظام والنخاع، والحمى المالطية (حمى البحر المتوسط؛ تنتقل إلى البشر من حليب الماعز المصابة)، والسل (ينتقل من حليب البقر المصابة)، والأمراض الناتجة عن أسباب غذائية مثل ترقق العظام والأسقربوط والكساح وفقر الدم الناتج عن نقص الحديد. وكشفت عينة أصغر من أنسجة العظام أخذت من دائرة المقابر (أ) في موكناي عما يشير إلى تناول الأطعمة البحرية بقدر ما، وكان الرجال يتناولونها أكثر من النساء. ومع ذلك، لم يدل التحليل الكيميائي للعظام المأخوذة من دائرة المقابر (ب) في موكناي على وجود قدر ضئيل جدا من البروتينات البحرية أو عدم وجودها على الإطلاق. أما فيما يخص المشروبات الكحولية، فيبدو أنهم كانوا يحتسون النبيذ والجعة، وتؤكد هذه النتائج بعض الأدلة التي سبق أن خطرت على ذهن جارنسي (1999)، وهي تتضمن أيضا معلومات معينة في مجالات أخرى. وتيسر على الإغريق - فيما يبدو - احتساء الحليب والجعة، مع أن الكثير من النصوص تربط بين هذه المشروبات وبين الشعوب الأجنبية. سأعود إلى هذا الدليل لاحقا.
Página desconocida
تستكمل الأدلة الأثرية بعدد كبير من المصادر الأدبية والتقنية؛ فالنص المكتوب ملمح من ملامح الثقافة الإغريقية والرومانية، ولا نجده في الكثير من ثقافات الطعام الأخرى وصولا إلى العصر الحديث. وللطعام دور بارز في أنواع شتى من النصوص، ابتداء من كتابات هوميروس وهيرودوت وما بعد ذلك. وكان الإغريق هم أول شعب في أوروبا يقدم كتب الطهي (في القرن الرابع قبل الميلاد)، وأصدر الإغريق والرومان نصوصا تركز على وجه التحديد على طقوس تناول الطعام والشراب. والفكاهة والهجاء هما أفضل مثالين لذلك (جاورز 1993 بخصوص روما، وويلكنز 2000 بخصوص اليونان).
من الملاحظ وجود تفاوت هائل بين الكثير من المصادر الأدبية والسواد الأعظم من السكان. ونناقش طبيعة المصادر الأدبية بمزيد من التفصيل في الفصل التاسع. حتى في الأعمال الأدبية التي توجه اهتمامها فعلا إلى الفئات الأفقر من المجتمع، غالبا ما تميل في اهتمامها هذا إلى إضفاء صبغة مثالية عليهم في خطاب يتناول نقد حياة المدينة أكثر مما يتناول الفقراء في حد ذاتهم. وتأتي شخصية سيميلوس في قصيدة «ذا مورتيوم» («غداء الفلاح» بترجمة كيني الصادرة عام 1984)، وكذلك شخصية الصياد الفقير الواردة في «الخطبة اليوبية 7» من تأليف المؤلف الروماني ديو كريسوستوم؛ كمثالين على التصوير المثالي للريفيين في الأعمال الأدبية.
ونجد صورة أدق للطعام في الاقتصاد الريفي (وإن كان ذلك لا يشمل وصفا للقرويين) فيما يكتبه الكتاب المتخصصون في الزراعة. يكتب كاتو وفي ذهنه المستثمرون الأغنياء، ولكنه يدرج قدرا كبيرا من التفاصيل العملية التي لا تمت بصلة لهذا الموضوع الأساسي. ويكتب فارو وفي ذهنه زوجته، ومن الواضح أن دائرة اهتمامه أشمل من دائرة اهتمام كاتو. أما كولميلا، فيجمع بين قدر كبير من التفاصيل العملية ودواعي القلق الأخلاقية المعتادة لتلك الفترة. ويتسم كل هؤلاء الكتاب بمعرفة جغرافية شاملة. يهتم كاتو بإقليم كامبانيا ولكنه ملم بقدر كبير من المعلومات عن اليونان، بينما يهتم فارو وكولميلا بأجزاء كبيرة من إيطاليا والبلاد المجاورة لها؛ ويتناقض كل هذا مع قصيدة «الأعمال والأيام» للشاعر هسيود - وهو شاعر إغريقي قديم اعتاد الكتابة باستخدام التفعيلة السداسية - الذي كان يكتب في إطار تراثي من أدب الحكمة عن السنة الزراعية. وتعتمد القصيدة أساسا - على الرغم من كل تفاصيلها - على إطار أخلاقي من قيم التدبير والاجتهاد في العمل والاهتمام بالبيئة المحلية، وكل ذلك يتناقض مع التجارة الخارجية. ويعبر كل من فارو وكولميلا أيضا عن التراث الأخلاقي، ولكن بدرجة أقل (3، 6، 6). وهكذا يصف فارو الطاووس، في سياق حديثه عن طيور التسمين المستوردة: «يقال إن كوينتوس هورتينسيوس هو أول من قدم هذه الطيور في حفل العشاء الذي أقيم احتفالا بتقلده منصب الإيديل (وهو منصب يتولى حامله صيانة مباني المدينة وتنظيم المهرجانات الشعبية العامة). وامتدح الفكرة الرجال الذين يميلون إلى الترف أكثر من الرجال المتقشفين الحريصين على الاستقامة.»
وكانت هناك أيضا نصوص تقنية تتناول الكثير من المجالات الأخرى المتعلقة بالطعام، فظهرت نصوص طبية من القرن الخامس قبل الميلاد - ومن أرسطو وثيوفراستوس في القرن الرابع قبل الميلاد وبعد ذلك - ونصوص عن علم الحيوان وعلم النبات؛ وساعدت هذه النصوص في وضع الإنسان في سياقه في العالم الطبيعي. وكانت هناك نصوص تتعلق بالمدن المختلفة في البلدان الإغريقية الرومانية، وكانت ثمة أعمال عن الزراعة وكتب رحلات ودراسات مسحية جغرافية، وشهدت الفترة «الهلنستية» (القرون الثلاثة الأخيرة قبل الميلاد) والفترة الرومانية تأليف أعمال موسوعية ناقشت ولخصت كل هذه المعلومات. ويأتي كتاب «التاريخ الطبيعي» من تأليف بلينوس كمثال مهم، والأمر نفسه ينطبق على أعمال بلوتارخ وجالينوس وأثينايوس الذين سبق ذكرهم. وكانت كل هذه الموسوعات تحتوي على آراء أيديولوجية عن كل من تاريخ الطعام وعادات تناول الطعام المعاصرة في تلك الفترات.
ومن الشخصيات ذات الأهمية الخاصة لهذا الكتاب المؤلفان الإغريقيان اللذان عاشا في ظل الإمبراطورية الرومانية في القرنين الثاني والثالث؛ جالينوس وأثينايوس. وكان الأول كاتبا متخصصا في الشئون الطبية، وله اهتمامات فلسفية وثقافية كبيرة، أما الثاني فيصعب تعريفه ولكنه كان كاتبا متخصصا في تأليف الموسوعات المتخصصة في الطعام، وكان فريدا من نوعه في هذا المجال. ولا يتبع أثينايوس دائما الترتيب الأبجدي مثل موسوعتي «لاروس جاسترونوميك» و«دليل أكسفورد للطعام»، بل كان يكتب بحسب ترتيب الأطباق المقدمة في الوجبة، ويكثر من اقتباس الأدلة قدر الإمكان، وهو ما يجعل من الصعب على القارئ الحديث فهم كتاباته؛ ومع ذلك فإن الأسباب التي دعته إلى ذلك الخيار تكشف عن معلومات مهمة.
كل من أثينايوس وجالينوس كانا يكتبان في عصر يعقب العصر الذي عاش فيه هوميروس بنحو ألف عام، وقدم كل منهما فكرة ثقافية عن فترة الألف عام هذه، وفي الوقت نفسه عرضا ملخصا مبهرا لطريقة تفاعل الثقافتين الإغريقية والرومانية على مدى فترة تمتد لأربعة قرون وتزيد. وتوضح أعمالهما كذلك كيف صمد التنوع المحلي في ظل نظام إمبراطوري، وأيضا في فترة نشأت فيها عوامل تأثير مهمة أدت إلى التغيير. وسنتمكن بمساعدتهما من تتبع الاختلافات والمؤثرات فيما بين الثقافتين وداخل كل منهما.
ولا ننوي اكتشاف التطور التدريجي الذي مرت به هاتان الثقافتان حتى تحولتا إلى ثقافتين مسيحيتين؛ إذ تتوافر نصوص قيمة كثيرة قدمها مؤلفون أمثال كليمنت السكندري وفيلون السكندري وآباء الكنيسة مثل ترتليان، وقد استخدمت فيرونيكا جريم هذه المواد للكشف عن طرق الصوم المختلفة في التعاليم الوثنية واليهودية والمسيحية في العصور القديمة المتأخرة. وأحدث مؤلف نتحدث عنه في هذا الكتاب هو الكاتب فرفريوس المتبع لمذهب الأفلاطونية الحديثة، والذي يستعرض كتابه «عن التقشف» - الذي ألفه في القرن الثالث الميلادي - الحجج المؤيدة والمعارضة للامتناع عن تناول اللحوم. وهو من النصوص الأساسية في تاريخ مذهب النباتية، ولكنه أيضا - شأنه شأن أثينايوس - مخزون من الفكر القديم الذي يتناول عادات تناول الطعام في الثقافة الإغريقية.
مع ذلك، فإن جالينوس وأثينايوس يسهمان الإسهام الأكبر في هذه الدراسة؛ فكل منهما ألف أعمالا مفصلة عن نواح تتعلق بالطعام والتغذية إبان أواخر القرن الثاني الميلادي؛ ومن ثم، فقد اختلف عن التيار السائد في التأليف خلال هذه الفترة؛ إذ كان المؤلفون يتناولون الماضي أكثر من أي وقت مضى، ويناقشون الإرث الثقافي الهائل لليونان والسبيل إلى نشره وتداوله. وتفيدنا الآراء العظيمة التي قدماها عن الطعام وعادات تناول الطعام في التعرف على هيئة العالم في عصرهما وفي العصور السابقة لعصرهما، وتكشف تلك الآراء عن حجم الكتابات التقنية التي ألفت عن الطعام: أبحاث عن علم النبات والخضراوات والأسماك المملحة، وكئوس الشراب وجلساته، والأكاليل، والنظام الغذائي، وعلم العقاقير، وكثير من المجالات الأخرى. وعلاوة على ذلك، يساعدنا هذان المؤلفان في تعريف ما قد تعنيه كلمة «طعام» في الثقافة الإغريقية الرومانية. وتتضح - على سبيل المثال - من إدراج أثينايوس للأحاجي والموسيقى في كتاباته، نوعية الأنشطة الوثيقة الصلة بدراسة من هذا النوع. كما أنهما يتمتعان بإلمام ملحوظ بالمناطق الموجودة خارج أثينا وروما، وهذا مهم؛ إذ أسهمت هاتان المدينتان العظيمتان إسهاما كبيرا في مجال الطعام والثقافة، وفي الوقت نفسه كانت كل منهما فريدة في حجمها وتأثيرها.
بطبيعة الحال، كان لكل من جالينوس وأثينايوس أهداف مختلفة. يحدد جالينوس الطبيب (في كتابه «عن قوى الأطعمة») الأطعمة الأساسية في النظام الغذائي، والكثير منها يثير دهشة القراء في العصر الحديث؛ فالأطعمة الأساسية تضم - فضلا عن الحبوب والفواكه المتوقع وجودها - الكثير من أنواع الحشائش المرة المذاق والنباتات البرية والحيوانات الغريبة. أما أثينايوس، فيعتمد في كتابه «مأدبة الحكماء» أو «ديبنوسوفيستاي» على الكتابات التي تتناول جلسات الشراب التي كانت موجهة للطبقة الراقية الإغريقية المرفهة. ويسرد هو أيضا الكثير من أنواع الأطعمة المختلفة والمدهشة، ويقتبس من الكثير من المؤلفين ممن كتبوا عن هذا الموضوع. ويهتم أثينايوس على وجه التحديد بهوميروس وأفلاطون والشعراء الهزليين وقصص الملوك المعاصرين للحقبة الهلنستية ممن جاءوا بعد الإسكندر الأكبر. ولكن جالينوس أحيانا يعتمد هو الآخر على هوميروس وأفلاطون والمسرحيات الكوميدية، فهؤلاء المؤلفون كانوا جزءا من العالم الذهني للفرد المثقف في تلك الفترة، وكان جالينوس يولي أهمية للإشارات التي كانوا يدرجونها في كتبهم إلى الأطعمة. وعلى العكس من ذلك، يصور أثينايوس جالينوس باعتباره أحد العلماء شبه الخياليين الجالسين في مأدبة، ويقتبس اقتباسات غزيرة من الأبحاث الهلنستية التي تتحدث عن النظام الغذائي والتغذية التي ألفها مؤلفون مثل ديوكليس الكاريستوسي ومنيستيوس الأثيني وديفيليوس السيفنوسي. ونناقش التغذية بالتفصيل في الفصل الثامن. ولا بد أن نضيف إلى هذه الدرر الأدبية عادات تناول الطعام التي يتبعها الحاضرون في مأدبة أثينايوس؛ فمعظمهم من الإغريق، ويستشهدون بمؤلفين معظمهم من الإغريق، ومع ذلك يشربون النبيذ من بداية المأدبة، وذلك سيرا على عادة الرومان. ويبدو أنهم قد مزجوا بين عادات تناول الطعام الإغريقية والرومانية، وتأتي مناقشة آثار هذا المزج على بنية كل من المآدب الإغريقية والرومانية في الفصل الثاني.
ويورد هذان المؤلفان أسماء مئات الأطعمة، من مئات المدن والمناطق، ويوضحان تنوع عادات تناول الطعام في الإمبراطورية الرومانية إبان القرنين الثاني والثالث الميلاديين. ولا يقتصر اهتمامهما على روما أو أثينا فحسب، كما ورد سابقا؛ إذ يحكي أثينايوس عن مدن من البر الرئيسي لليونان، وعن السلتيين والمصريين ومدن آسيا الصغرى وسوريا؛ ويحكي جالينوس عن مقدونيا وبيثنيا وآسيا الصغرى والإسكندرية وإيطاليا، ويقدم جالينوس أيضا أقوى دليل وصل إلينا من نص أدبي عما كان يتناوله الفقراء والريفيون؛ فالنظام الغذائي الذي ذكره هو النظام الغذائي المعتاد لكل الناس، وليس فقط للطبقات المرفهة، وشهادته في هذا الشأن مفيدة للغاية، وسنناقشها في الفصل الرابع.
Página desconocida
يتناول جالينوس وأثينايوس كذلك سمات ثقافية عامة في مناقشاتهما عن الأطعمة؛ إذ ظهر طلب على المزيد من الأطعمة، وكذلك على الأطعمة الجديدة الواردة من خارج البلاد؛ وظهرت طرق جديدة لإعداد هذه الأطعمة ولإعداد الأطعمة المعروفة أيضا. وكانت هذه الأطعمة الجديدة وطرق إعدادها - فضلا عما بها من متعة ورقي - محل منافسة فيما بين الطبقات الراقية في المدن. وعلى عكس هذه العوامل الملحة الداعية إلى التجديد، كثيرا ما كان البعض أيضا يفصح عن تفضيل الأطعمة البسيطة المعتمدة على الزراعة المحلية، وذلك كما ذكر آنفا عند الحديث عن أوفيد. والكاتب المتخصص في الشئون التقنية ليس حصينا من هذه الافتراضات الثقافية؛ فعلى سبيل المثال، يوضح جالينوس الفارق بينه وبين الطهاة في كتابه «عن قوى الأطعمة» (2، 51)، قائلا: «نحن الأطباء نهدف من الأطعمة إلى الفوائد النابعة منها، وليس المتعة. ولكن ما دام الطعم غير المستساغ لبعض الأطعمة يؤدي إلى حد كبير إلى سوء الهضم، فمن الأفضل في هذا الشأن أن تصبح طيبة المذاق إلى حد ما. ولكن يرى الطهاة أن المذاق الطيب غالبا ما يتحقق باستخدام البهارات الضارة، وهكذا يتلازم مع تلك البهارات سوء الهضم بدلا من الهضم الجيد» (ترجمه إلى الإنجليزية: باول). وسنرى في الفصل السابع أن ما قاله جالينوس يذكرنا بالفارق المؤثر الذي وضعه أفلاطون قبل ذلك بستمائة عام بين الطبيب المفيد والطاهي ذي المظهر البراق. ولكن الطبيب والطاهي ليسا طرفي نقيض؛ فالطاهي يهدف أساسا إلى إسعاد الذائقة، ومع ذلك ليس بوسع الطبيب أن يتجاهل إسعاد الأذواق، ما دام الطعام غير المستساغ عادة ما يكون ضارا بالجهاز الهضمي.
تلتقي اهتمامات المؤلفين في رغبتهما في التسمية والتعريف والتصنيف، وينطبق هذا على المصطلحات: ما النبات الذي يشير إليه المصطلح س؟ ما المصطلح اللاتيني المكافئ له؟ هل تغير الاسم على مدى القرون؟ متى بدأ استخدام المصطلح؟ وبذل كل من المؤلفين قصارى جهده لاكتشاف ما كتبه الخبراء السابقون عن طعام ما، واكتشفا في النهاية وجود حالات خلط في التسمية واستخدام المصطلحات. ويمكننا أن نضرب مثلا بما ذكره أثينايوس عن الكرز (كيرازيا). ويستشهد بعدة شخصيات إغريقية موثوق فيها، من بينهم ثيوفراستوس والعالم النحوي البيثاني أسكليبيديس من ميرليا. يعارض لارنسيس - المضيف - الرأي القائل بأن الجنرال الروماني لوكولوس كان أول من يستورد هذه الشجرة إلى إيطاليا من مدينة كيراسوس في بنطس. ويتذكر متحدث آخر أن المؤلف المتخصص في الشئون الطبية ديفيليوس من سيفنوس ذكر الكرز في أحد الأعمال الصادرة في القرن الثالث قبل الميلاد.
يبدو هذا لأول وهلة على أنه خلاف متحذلق قائم على استعراض المعلومات، تتفوق فيه الادعاءات الإغريقية والرومانية على الأولوية التاريخية. يستشهد أثينايوس بمصادره، مما يتيح لنا أن نضع تواريخ على المعلومات. وفي أواخر القرن الرابع، وصف ثيوفراستوس نباتا بشيء من التفصيل، يسميه أثينايوس الكرز، ويسمي محرر كتاب أثينايوس - تشارلز جوليك - النبات الذي وصفه ثيوفراستوس بأنه توت الزعرور البري. والمصدر الموثوق فيه التالي الذي استشهد به أثينايوس - وهو أسكليبيديس من ميرليا في بيثنيا - يصف شجرة قطلب وذلك في رأي أثينايوس. وكان يكتب في القرن الأول قبل الميلاد، في الفترة نفسها تقريبا التي شهدت الحملات العسكرية التي شنها الجنرال الروماني لوكولوس في منطقة بنطس (البحر الأسود). وكان ديفيليوس من سيفنوس - وهو المصدر الموثوق فيه الأخير - يكتب في قصر ليسيماخوس في غربي آسيا الصغرى في القرن الثالث قبل الميلاد. وهكذا لدينا تواريخ تدعم الدليل، ولدينا كذلك الموقع. يصف ثيوفراستوس شجيرة ربما يكون موقعها في إقليم أتيكا، وربما لا تكون شجيرة الكرز. كان هناك في عصر ديفيليوس نوع من الكرز الأصلي من بنطس في ميليتوس. ولكن هل هي شجيرة كرز فعلا؟ يصف أسكليبيديس بوضوح نوعا مختلفا، موجودا في بيثانيا. ولوكولوس هو المسئول عن الانتقال الكبير للكرز من منطقة بنطس إلى إيطاليا وروما. وتشهد هذه الفقرة على الاهتمام بالكرز وعلى وجود نقاش ظل يدور حول الكرز على مدى عدة قرون، ولكنه في حد ذاته يطرح الكثير من المشاكل بعدد المشاكل التي يحلها؛ فليس من الواضح أي نوع بالتحديد هو الذي يوصف في كل نص، وليس من الواضح كذلك أي نبات (نباتات) هو الذي يصفه المصطلح «كيراسوس» والأنواع القريبة منه بدقة. فضلا عن ذلك، قد يتغير المصطلح من مدينة لأخرى. وآنذاك، ربما كانت تسمية الأطعمة مسألة خاضعة للاختلاف بين منطقة وأخرى، والمطالبات الأيديولوجية، والعوامل الملحة الأيديولوجية كالتي يعبر عنها لارنسيس؛ وهذه العوامل لا تساعد على الدقة العلمية. يوضح هذا المثال اتساع رقعة العالم القديم بكل ما فيه من آلاف المدن على مدى قرون طويلة؛ فكيف لنا أن نفهم أي لمحة من جوهره؟ لا يتسنى ذلك إلا بتناول شامل مدعوم بأمثلة محددة، ولكن منهج أثينايوس - الذي يقوم على الجمع بين عدد من النصوص - يفيدنا باعتباره مبدأ عاما. متى يكتسب الطعام مكانة راسخة؟ ما الأمور التي تؤخذ كأدلة؟ من الذي يطرح الأسئلة؟
وهكذا يتشاجر كل من لارنسيس ودافنيوس حول هذا الأمر حتى يتبين أن أحدهما على صواب. ما الذي يمكن أن نفعله بدورنا إذا تأملنا - مثلا - الطيور الداجنة؛ أي الدجاج؟ يمكننا أن نلجأ إلى علم الآثار وبقايا الحيوانات، ويمكننا فحص النصوص، ولكن النصوص تمنحنا أدلة مبهمة للغاية؛ فمن الأسلم ألا نعلن موقفنا بخصوص كمية الدجاج التي كانت تستهلك في أثينا في عصر أريستوفان - حيث ما زال يعتقد أنها «الطيور الفارسية» - أو في إيطاليا في عصر الإمبراطور أغسطس. بدلا من ذلك، يمكننا أن نلاحظ زيادة استهلاكه والاعتياد عليه على مر الزمن واستخدامه كقربان، وإدراجه كطائر ضمن طيور أخرى. ويشير جالينوس إلى أنه كان الطائر الوحيد المخصص للاستهلاك الآدمي، ولكن لم يصل مستوى استهلاكه إلى المستوى الحالي.
شكل 1-2: كان الدجاج أو الطيور الداجنة - شأنها شأن نبات الأترج - تستورد من آسيا، وكان الدجاج (وبيضه) يؤكل كطائر ضمن طيور أخرى، وعلى الرغم من انتشاره لم يكن يحظى قط بالأهمية التي يحظى بها حاليا في النظام الغذائي. (حصلنا على نسخة من الصورة بإذن من كبير كهنة كاتدرائية إكستر ورجال الكنيسة العاملين بها.)
لعل المصطلحات من المشكلات المزمنة التي لا تنتهي، ويرد الكثير من الأمثلة الأخرى في كتابات أثينايوس وجالينوس التي لا يكون واضحا لهما فيها أي نوع من النباتات أو الحيوانات محل نقاش. وإذا كانت الحال هكذا إليهما، فلن يختلف كذلك بالنسبة إلينا. يحاول جالينوس إرساء مبدأ عام في مناقشته للثدييات الصغيرة الإيطالية («عن قوى الأطعمة» 3، 1، ترجمه إلى الإنجليزية: باول). يقول جالينوس إنه عند تخصيص حيوان غير معروف للأكل، فمن الأفضل أن يقارنه الطبيب بحيوان مشابه معروف له؛ «لن أكون بحاجة بعد الآن مطلقا إلى كتابة عبارات مطولة لمناقشة كل الحيوانات المحلية في كل البلدان، مثل الحيوان الصغير الموجود في إسبانيا الذي يشبه الأرنب البري، الذي يسمونه أيضا «أرنبا»؛ والحيوان الموجود في لوكانيا في إيطاليا الذي يقع في مرتبة بين الدب والخنزير؛ وكذلك الحيوان الذي يؤكل في المنطقة نفسها من إيطاليا وفي أماكن كثيرة غيرها، الذي يقع في مرتبة وسطى بين ما يسمى الإيليون وفأر الحقل.» يسمي جالينوس حيوانا جديدا (الأرنب) وحيوانا محليا؛ فالطبيب الوافد حديثا إلى منطقة ما يكون بحاجة إلى وجود إطار مرجعي لتسمية حيوان ما وحيوان آخر مشابه له لاستخدامه في المقارنة، حتى يتمكن من وصف الطعام كعلاج بثقة.
من الواضح أن المصطلحات كانت من المشكلات التي واجهت جالينوس وأثينايوس، وما زالت تقلقنا حاليا؛ فما زال تصنيف الأسماك وأنواع معينة من النباتات غير متفق عليه. وفي الوقت نفسه، نجد أن المجموعة الهائلة من الإحالات إلى كل هذا القدر من الأطعمة كما يرد في كتابات جالينوس وأثينايوس - بالإضافة إلى القوائم الواردة في كتاب بلينوس «التاريخ الطبيعي» - تندرج ضمن المصادر الكبرى. وهي تشهد على اهتمام كبير بالأطعمة المحلية في إيطاليا واليونان، وعلى ملاحظة الإضافات الوافدة الجديدة مثل الأرنب من إسبانيا. ولا بد أن ننظر إلى الإضافات الجديدة باعتبارها عملية مستمرة، تتحرك عادة - على عكس الأرنب - من الشرق إلى الغرب. وصلت النباتات المستنبتة في فترة مبكرة (إذا كانت التكنولوجيا قد جرى استيرادها من الشرق الأدنى ولم تنشأ محليا في الكثير من المواقع)، ومن بين هذه النباتات الزيتون والعنب والحبوب . ووصلت الطيور الداجنة في فترة متأخرة للغاية؛ إذ انتقلت ببطء من غابات تايلاند إلى البلدان المطلة على البحر المتوسط، وبدأ ظهور طائر التدرج. ووصل الخوخ والمشمش إلى روما في عهد الإمبراطور أغسطس على ما يبدو. ومن غير الواضح متى وصل الليمون إلى البلدان المطلة على البحر المتوسط. وكان نبات الأترج موجودا بالتأكيد في العصور القديمة، أما الليمون فربما لم يكن موجودا، ومن المؤكد أن الليمون والبرتقال والباذنجان والأرز جاءت كلها إلى البلدان المطلة على البحر المتوسط بفعل التأثير العربي بعد عام 700، وربما قبل ذلك. وأخذت أهم مراكز القوة والتجارة تجتذب الأطعمة الجديدة إليها، تماما مثلما أصبحت القصور الملكية الأوروبية في القرن السادس عشر مهتمة بأطعمة الأمريكتين مثل الشوكولاتة والطماطم والبطاطس (راجع مثلا: كو وكو 1996). فالقصور الملكية - كما سنرى - كانت عوامل مهمة في التحفيز على الابتكار، وكانت تتنافس في التفاخر، وكانت أيضا تسعى للحصول على أفضل أنواع الترياق لإبطال مفعول السموم، وربما اتضح أن أحد المكونات المميزة لإعداد ترياق ما يصلح ليكون إضافة ظريفة إلى النظام الغذائي.
وستكون المقارنات من هذا النوع بين العالم القديم والفترات التاريخية اللاحقة، وبالطبع القرن الحادي والعشرين، من السمات المهمة في هذا الكتاب.
للطعام عدة أدوار مهمة في الثقافة الغربية الحديثة؛ فالزراعة والشركات العالمية ومجال الإعلان والبنية الاجتماعية - فضلا عن التاريخ الطويل - كلها عوامل تسهم في ترسيخ الطعام والأفكار المتعلقة به في ثقافتنا؛ ففي بريطانيا والولايات المتحدة في العصر الحديث، نجد أن فصل المستهلك عن المعروض من المنتجات الزراعية ظاهرة واضحة أكثر مما عليه الحال في بلدان مثل فرنسا وإيطاليا. وبالمثل، نجد أن الإنتاج والتوزيع الصناعيين عن طريق الأسواق المركزية الكبرى (السوبر ماركت) في بريطانيا والولايات المتحدة من الظواهر الملحوظة للغاية، شأنهما شأن المؤثرات الخارجية الآتية من الهند والصين وإيطاليا على سبيل المثال.
كانت مجتمعات الإغريق والرومان تشبه في كثير من النواحي مجتمعات ما قبل العصر الحديث من حيث المعاناة من المرض وأزمات نقص الطعام المتكررة (خاصة في الربيع)؛ فعلى سبيل المثال: كانت أزمات نقص الطعام مألوفة في بريطانيا حتى القرن العشرين، وكانت فرنسا تجاهد لإطعام سكانها حتى القرن التاسع عشر، على الرغم من كل تقدمها الحديث وثراء أسواقها التي كانت تقام أسبوعيا في طول البلاد وعرضها، من أصغر القرى حتى شوارع باريس. نكبت فرنسا في القرن السابع عشر وأوائل القرن الثامن عشر ب «أزمات وفيات» متقطعة بسبب الجوع والمجاعة؛ حيث شهدت ارتفاعا متزايدا في عدد الوفيات في جهات متفرقة من البلاد بواقع ثلاثة أضعاف وستة أضعاف، بل عشرة أضعاف أيضا. في شمال فرنسا وشمال شرق فرنسا، على وجه التحديد، كان سعر الحبوب بمنزلة مقياس للتغيرات الديموغرافية؛ إذ تسبب ارتفاع الأسعار الناجم عن تردي مواسم الحصاد في زيادة ارتفاع عدد الوفيات فيما سمي ب «قباب» الوفيات ... كان الريفيون يتضورون جوعا بأعداد غفيرة في السنوات الأخيرة من حكم لويس الرابع عشر (جونز 2002: 151). سنطلع على تقارير كتبها جالينوس عن أزمات نقص الطعام في الريف، وخاصة في فصل الربيع.
Página desconocida
في كتاب من هذا النوع يكون من المحتم علينا التعريف بالمزارع البسيط والمواطنين الفقراء في بداية الكتاب؛ إذ إن هؤلاء هم من يشكلون السواد الأعظم من السكان وينتجون معظم الطعام. وفي الوقت نفسه، الصفوة من ذوي النفوذ السياسي هي التي «تصوغ الثقافة» وتطلب أفضل أصناف الطعام وتحفز الابتكار وفن تذوق الطعام؛ وبناء على ذلك، كثيرا ما تهتم الكتابات التي تتناول تاريخ الطعام بجماعات ثرية قليلة العدد، تضم - بتعبير هوليوود - الذين شاركوا في حفلات العربدة في قصر إمبراطور روما. في الفصل الثاني، سنرى حالات في العصر القديم مشابهة لما ذكره كولين جونز عن فرنسا في القرن الثامن عشر. وبينما كان القصر يبتكر أطعمة راقية، ويشارك فوائدها إلى حد ما مع مواطني باريس المشاغبين، كان سكان الريف يتضورون جوعا؛ حتى عندما كان الطعام وفيرا، كان الريفيون يرسلون أفضل الأطعمة إلى السوق: «كانت حقول ذرة شاسعة مزروعة بالجاودار (للاستهلاك المحلي) والشوفان (للماشية المحلية) والقمح (للمدن وللأغنياء) تمتد على مرمى البصر» (جونز 2002: 149-150).
إن الإمداد الغذائي أحد المشاغل الأساسية لكل الدول، قديما وحديثا، ولكنه ليس الشغل الشاغل الوحيد؛ فلم تقتصر فائدة الطعام على إبقاء الناس على قيد الحياة فحسب، بل كان يساعدهم كذلك في تشكيل هويتهم. ويقدم لنا كولين جونز مرة أخرى حالة مشابهة من العصر الحديث المبكر: «كما تقول الحكمة المألوفة إن الملك لا بد أن يعيش من زرع مملكته.» كان المثل الأعلى للحياة الريفية هو الأسرة، والتي كانت وحدة إنتاج واستهلاك في آن واحد، وكانت لديها الوسائل اللازمة للعناية بمعظم احتياجاتها. كان معظم أرباب الأسر الريفية يمضون جل أوقاتهم في إنتاج ما يكفي من الطعام لأنفسهم ولأسرهم، وكان الغذاء الأساسي اليومي هو الخبز، وكان الخبز المحضر في المنزل طعمه أطيب ... وفي قاموس أهل الريف، كانت عبارة
gagner son pain (كسب العيش) مرادفة لعبارة
gagner sa vie (كسب الرزق)، وكان الناس يطلقون على الخبز عدة أسماء بعدد الأسماء التي يطلقها الإسكيمو على الثلج، والتي يطلقها البدو على الرمال، وكان كل نوع منها مغلفا بدلالات سخية تشي بالجودة الغذائية والمنشأ الجغرافي والمكانة الاقتصادية والطموح الاجتماعي؛ ومن ثم، كان بوسع الأغنياء شراء أرغفة الخبز الأبيض المصنوع من القمح، وكان متوسطو الحال يتناولون أرغفة الخبز الأسود غير المختمر المصنوع من الجاودار والشعير أو عصيدة الذرة، أما أفقر الفقراء - كالمعدمين المقيمين في مقاطعة فيفاريه - فكانوا يتناولون خبزا يكاد يكون عسير الهضم مصنوعا من الكستناء، وكانت إحدى القرى تصفه بكل اعتزاز بأنه «عوننا وغذاؤنا الأساسي والوسيلة التي نطعم بها أسرنا وخدمنا وحيواناتنا الأليفة وماشيتنا ودواجننا وخنازيرنا» (جونز 2002: 148-149). وسنجد أن جالينوس وغيره من المؤلفين كتبوا عبارات مشابهة جدا عن أنماط استهلاك الطعام في الإمبراطورية الرومانية، وذلك باستثناء الذرة؛ إذ جاءت الذرة من الأمريكتين في فترة لاحقة لعصر كولومبس.
وبالإضافة إلى المناهج المقارنة المستخدمة لفهم الأدلة من العصور القديمة، سنعتمد كذلك على عمل علماء الأنثروبولوجيا. إن الطعام من السمات المهمة في كل الثقافات؛ فلا بد أن يأكل البشر، ولكي يتسنى لهم ذلك عليهم استغلال المنتجات الطبيعية والمزروعة المتوافرة في بيئتهم المحلية وبيئتهم الأوسع. والبشر في مسعاهم هذا ينشئون علاقة مع عالم الطبيعة؛ أي مع النباتات والحيوانات التي يستهلكونها، ومع القوى الطبيعية التي هم جزء منها ويخضعون لها. وتتولد عن هذه العلاقات تفسيرات دينية واجتماعية وفكرية قوية، هي أصل النشاط الاقتصادي القائم على إنتاج الطعام وتوزيعه. وغالبا ما ينظم استهلاك الطعام بحيث ينم عن جوانب جوهرية في البنية الاجتماعية لمجتمع ما، مثل العلاقة بين الجنسين وهيكل السلطة، وهذه العلاقات من الشئون التي يدرسها علم الأنثروبولوجيا، ولكن الدراسات الأنثروبولوجية لم تهتم دائما بالطعام بقدر اهتمامها بغير ذلك من جوانب الحياة الأخرى، مثل التسلسل الهرمي الاجتماعي ودورة الحياة ومراسم الوفاة. ولكن على مدى الخمسين عاما الماضية، قدم كل من كلود ليفي شتراوس وماري دوجلاس وجاك جودي - على سبيل المثال - إسهاما أنثروبولوجيا بارزا في دراسة الطعام. ناقشت دوجلاس (1966) قوانين الطعام اليهودية ومشكلات الهوية في اليهودية، وفسر كل من دوجلاس ونيكود (1974) تركيب الوجبة البريطانية، بينما تناولت دوجلاس (1984) التفاعل بين ثقافات الطعام لدى السكان الأصليين والمهاجرين في الولايات المتحدة، وهو ما يستعرض أيضا بإيجاز الرموز والهوية الثقافية. وتناول جودي (1982) العوامل التي تحدد «التطور» في عادات الطعام بين الثقافات المختلفة؛ كيف أصبح لفرنسا «أسلوب طهي» يميزها على خلاف البلدان الأخرى؟ ومن بين هذه الدراسات، كان عمل ليفي شتراوس هو صاحب القدر الأكبر من المناقشات (راجع بوكستون 1994، وجودي 1982، وجارنسي 1999)؛ إذ يقوم نظامه البحثي على طرق الطهي والمكانة التي من المعتقد أن تحتلها في الفكر والنظم اللغوية في النظام الثقافي، ويعبر بالتحديد عن العلاقة التي تجمع بين الطبيعة والثقافة في ذلك النظام. ومن الممكن إثبات أن بعض الفئات التي ذكرها ليفي شتراوس اعتباطية وتتسم بخصوصية ثقافية على نحو يحول دون إتاحة تطبيقها على نطاق شامل؛ ومع ذلك ثبت أن الثقافة الإغريقية من المجالات المثمرة جدا عند تطبيقها؛ إذ إن الإغريق دمجوا الفكر الديني والأسطوري والثقافي بطرق مشوقة للغاية. سنستعين بعمل جون بيير فيرنان ومارسيل ديتيان - على سبيل المثال - في هذا الكتاب، وذلك كما سيحدث مثلا في المناقشة الواردة في الفصل الثالث حول عيد ثيسموفوريا وعيد أدونيس.
يأتي معظم الأدلة المتعلقة بالطعام في العالم القديم - كما ذكرنا - من النصوص المكتوبة التي أكملتها الاكتشافات الأثرية. لكن، لا توجد أدلة على الكثير من الجوانب المتعلقة بعادات تناول الطعام، ولا يمكن الإجابة عن الكثير من الأسئلة إلا بإجابات جزئية. ومن بين هذه الجوانب تقسيم تناول الطعام بحسب النوع في الثقافة الإغريقية. إذا كان الرجال الإغريق ذوو المقام الرفيع يأكلون بمعزل عن النساء صاحبات المقام الرفيع، فأين كانت النساء صاحبات المقام الرفيع يأكلن وكيف (إن كان ذلك ممكنا بالأساس)؟ ألم يكن يأكلن مع صديقاتهن؟ هل كان الناس من الجنسين يأكلون معا حين يكونون في تجمع أسري لا يحضره غرباء؟ وإذا كانت الإجابة بالإيجاب، فهل كان الذكور والإناث يتناولون الطعام نفسه؟ في حالة عدم وجود أدلة من النصوص أو علم الآثار، يكون للدراسات الأنثروبولوجية والدراسات المقارنة دور مهم لمساعدتنا في تقديم الإجابات. (3) الأطعمة والمشروبات في النظام الغذائي القديم
يقدم هذا القسم صورة كاشفة للنظام الغذائي في العصر القديم، ثم يشير إلى أن ذلك النظام الغذائي ربما يكون قد تبدل على مر الزمن، ولا سيما تبدله بحسب المكان، نظرا لقوة التأثيرات المحلية.
يقدم بحث أبقراط المعنون ب «الحمية 2»، الذي كتبه في عام 400 قبل الميلاد تقريبا، ملخصا مناسبا ومركزا للنظام الغذائي الإغريقي في تاريخ مبكر نسبيا. وكانت الحبوب الأساسية هي الشعير والقمح، وكانت تعد من الشعير «كعكات» وأنواع من العصيدة، أما القمح - وكان أكثر ندرة في البر الرئيسي لليونان وفي الجزر اليونانية - فكان يصنع منه الخبز وغير ذلك من منتجات الحبوب. وكانت الأنواع البدائية من القمح منتشرة كذلك، ولا سيما القمح الثنائي الحبة والقمح الوحيد الحبة والعلس. ويرد أيضا ذكر الشوفان والدخن. واستكمالا للقيمة الغذائية للحبوب، كانت تؤكل معها أنواع الفول والبقوليات (لا سيما الفول الأخضر وغيره من أنواع الفول) والبازلاء، والحمص والعدس والبيقة وبذور الكتان والمريمية، والترمس وخردل الوشيع وبذور الخيار، والسمسم والعصفر، ولحم البقر ولحم الماعز ولحم الخنازير ولحم الغنم والحمير والكلاب، والخنازير البرية والغزلان والأرانب البرية، والثعالب والقنافذ، والحمام والحجل واليمام والديوك وطيور القمرية، والإوز والبط وغير ذلك من الطيور المائية . ويذكر ما يزيد عن عشرين نوعا من الأسماك، بما في ذلك الحبار والمحار والسلطعون (الكابوريا). ويذكر البيض والجبن والماء الممزوج بالنبيذ والخل والعسل. ومن بين الخضراوات والأعشاب المذكورة: الثوم والبصل، والكراث والفجل، والرشاد والخردل، والجرجير والكزبرة والخس، والينسون والكرفس والريحان والسذاب والهليون والمريمية، وعنب الثعلب والرجلة وأنواع القراص أو الحريقة، والنعناع والحماض، والسبانخ البرية والكرنب، والبنجر واليقطين واللفت والفوتنج، والبردقوش والزعتر والزوفاء والخضراوات البرية. والفواكه المذكورة هي: التوت الأسود البري والكمثرى (البرية والمستنبتة) والتفاح والسفرجل، والغبيراء والرمان واليقطين والعنب والتين، واللوز وغير ذلك من أنواع المكسرات والجوز.
والقصد من هذا الملخص أن يكون بمنزلة دليل إرشادي، وإن كانت الأهداف الطبية لمؤلفه، وخصوصا من حيث عدد الأعشاب المذكورة، تخل بكونه ملخصا. ومن ناحية أخرى، فإن هذا الملخص ليس قائمة مستقاة من أكثر من مؤلف لا يجمع بينهم هدف موحد؛ فمثل هذه القائمة من الأطعمة المستقاة من مجموعة كبيرة من النصوص موجودة في دالبي (1996)، وخصوصا في دالبي (2003)، «الموسوعة الشاملة للطعام في العالم القديم». يشير دالبي إلى كل أنواع الأطعمة المعروفة، على الأقل تلك التي سجلت أسماؤها أدناه. وليس من الممكن دائما ذكر التاريخ والموقع والمناسبة؛ ولذلك يذكر الفلفل - على سبيل المثال - في الشذرة (274) للشاعر الهزلي أنتيفانيز، والاقتباس مأخوذ من مسرحية مفقودة كتبها أنتيفانيز في القرن الرابع قبل الميلاد، وتتعلق بشعور الحقد حيال شخص يشاهد وهو يأخذ معه الفلفل إلى منزله. ولا ندري مدى تكرار استعمال الفلفل أو في أي المدن كان يستعمل، فكل ما نعرفه هو أن الاسم ورد ذكره، ولعله من المنطقي أن نستنتج أن الفلفل كان معروفا إلى حد ما في أثينا، ما دام ثمة شاعر هزلي قد ذكره أمام جمهور قوامه 15000 مواطن. وربما يشير هذا المصدر إلى انتشار استعماله على نحو أشمل مما ذكره طبيب يتبع مدرسة أبقراط فقط. وقد علق مصطلح «فلفل» - على أقل تقدير - في أذهان الإغريق. وكما يوضح دالبي، وصل الكثير من الأطعمة إلى اليونان وروما في أوقات مختلفة على مدى ألف عام أو نحو ذلك ، وبدأت تدخل في صلب النظام الغذائي ببطء. كثيرا ما يتعذر التيقن من التوقيت الفعلي لانتشار أي طعام معين، لكن فيما يخص الفلفل، من الممكن أن نشير إلى أن كتاب الطهي الذي ألفه أبيكيوس بعنوان «دي ري كوكويناريا» أو «عن موضوع الطهي» - الذي جمعت مادته على الأرجح في القرن الرابع الميلادي - يرد فيه ذكر الفلفل في معظم الوصفات.
ما الأطعمة المهمة التي حذفت من هذه القائمة الموجزة؟ ربما كنا نتوقع السيلفيوم، وهو يستعمل كنكهة قوية ومميزة (راجع أدناه) وكعقار في الوقت نفسه. وربما كنا نتوقع ذكر المزيد من الطيور والأسماك، ولكن - فيما عدا الأعشاب - نجد أن القائمة تقدم فيما يبدو ملخصا منطقيا على النحو الذي هي عليه. تشمل القائمة الواردة في كتاب جالينوس «عن قوى الأطعمة» المزيد من العناصر، ولكن ليس من بينها عناصر جديدة تماما - فيما عدا أطعمة على غرار الخوخ والمشمش - التي ربما تكون قد جاءت من الشرق في القرن الأول قبل الميلاد. بعبارة أخرى، لم تكن الأطعمة الجديدة في العصر الروماني كثيرة إلى هذا الحد، لكن من المرجح أن الأطعمة المستوردة من آسيا أصبحت أكثر وفرة - مثل الفلفل وغيره من النكهات اللاذعة ذات الاستعمالات الدوائية - إبان العصر الهلنستي والروماني.
Página desconocida
كثيرا ما كان الطب هو المحفز على استيراد منتجات جديدة، وليست مذاقاتها الممتعة. عند بدء استعمال الطماطم والشوكولاتة لأول مرة في أوروبا في أوائل العصر الحديث، لم يرق طعمهما على الفور للناس، لكن كان لكل منهما استعمالات طبية مرغوب فيها، بما في ذلك استخدامهما كمنشطات جنسية؛ ومن ثم، كان نبات السيلفيوم يستعمل كدواء وكنكهة عطرية في آن واحد، والأمر نفسه ينطبق كذلك على الثوم والبصل المتوافرين محليا. وكان الفلفل، الذي ربما أصبح يستخدم كنكهة عطرية لاحقا في الإمبراطورية الرومانية، يستعمل أساسا كدواء، وكان من الأصناف المطلوبة في القصور الملكية في الحقبة الهلنستية؛ حيث كان يستعمل كترياق للسم. ولوحظت هذه الخاصية في الفلفل في فترة مبكرة معاصرة لثيوفراستوس؛ إذ يقول إن ثمة نوعين من الفلفل، وكلاهما يساعد على التدفئة ويبطل مفعول نبات الشوكران السام (9، 20، 1 وأثينايوس 2، 66). تشمل مناقشة أثينايوس فيما يبدو كلا من النكهة والدواء. وربما كان قصر ميثريداتس الملكي في مملكة بنطس من العوامل التي أسهمت في الترف الذي اتسمت به روما؛ ولكنه شجع أيضا على استخدام أنواع الترياق لإبطال مفعول السم. ومن ناحية أخرى، يتساوى عدد مرات ذكر فطر عيش الغراب كسم مع مرات ذكره كطعام.
يهدف هذا العرض الموجز للأطعمة إلى أن يكون كاشفا أكثر منه شاملا، والسؤال المهم الذي يجب طرحه هو: ما مكانة ووضع الشخص الذي يتولى مهمة تصنيف الطعام؟ كان الأطباء على الأرجح يجدون استعمالات دوائية للكثير من الأطعمة التي لم تكن طيبة المذاق، مثل نبات البيقة ذي المذاق المر (وهو طعام للماشية في الأحوال العادية) أو الجراء أو الجمال. ويذكر المؤلفون التابعون لمدرسة أبقراط كل هذه الأنواع. وكان للخضراوات دور كبير في النظام الغذائي للفقراء، وغالبا ما كان الأثرياء يزدرون الخضراوات، إلا إذا كانوا يهدفون إلى عيش حياة بسيطة. لكن، كان للخضراوات مزايا كثيرة من وجهة نظر الفيلسوف المتقشف والطبيب، كما يوضح جالينوس في الجزء الثاني من كتابه «عن قوى الأطعمة».
والأهم من ذلك أن الأمر كان يستند حتما إلى بعض المعايير الصارمة: أولا الموقع، فالجمال من المشاهد المألوفة في مصر أو العراق ولكن ليس في اليونان؛ ثم تأتي الجغرافيا والمناخ؛ ثم الموسم. اضطر بعض الناس - أو اختاروا - أن يعيشوا بحسب الموسم، بينما كان بوسع آخرين تجاهل الموسم، وذلك فيما يتعلق قطعا بأزمات نقص الطعام. ولم يستطع إلا القلائل تناسي التغيرات الموسمية خارج الأماكن الشبيهة بالفردوس، مثل تلك التي عاش فيها الفينيقيون الذين أتى هوميروس على ذكرهم، ومسوخ سايكلوبس، وفي المدن الفاضلة الواردة في الأعمال الأدبية (للاطلاع عليها، راجع الفصل التاسع). وكانت أكثر التجارب التي اقتربت من تحقيق ذلك فيما يبدو هي العيد البطلمي في وادي النيل (وللاطلاع على معلومات عنه راجع الفصل الثالث). (3-1) الثقافة الإغريقية والثقافة الرومانية
يتناول هذا الكتاب فترة تمتد لألف عام من استهلاك الطعام في الثقافة الإغريقية، ونحو ستمائة عام من الثقافة الرومانية، فضلا عن دراسة موجزة لبعض الثقافات الأخرى بما في ذلك الفارسية والمصرية والسلتية. لا بد من حديث مختصر عن البنية المركبة للثقافة الإغريقية الرومانية. كانت الثقافة الإغريقية مميزة للغاية، وكان للطهي دور محوري وحاسم فيها؛ مما يتيح للإغريق نيل مكانة بين كبرى ثقافات الطعام في العالم (راجع أدناه). يبدأ هذا الكتاب بقصائد لهوميروس من المتعارف أن تاريخها يعود إلى القرن الثامن قبل الميلاد. كان الرومان، الذين نتحدث عنهم بدءا من القرن الثالث قبل الميلاد فصاعدا، يرون أنفسهم مختلفين تماما في بعض النواحي عن الإغريق. وفي الفصل السابع، ندرس وصفهم لأنفسهم كقوم بسطاء يشتغلون بالزراعة أساسا، لم يفسدهم التأثير الأجنبي والتجارة في الكماليات والسلع المترفة؛ ومع ذلك، توجد أدلة كثيرة على أن الرومان تعاونوا مع الإغريق ومع شعوب إيطالية قديمة متأثرة بالإغريق منذ القرن السادس، بل ومنذ فترة سابقة على ذلك. علاوة على ذلك، كان الإغريق قد أنشئوا مدنا في شبه الجزيرة الإيطالية بدءا من القرن الثامن قبل الميلاد وإلى ما بعد ذلك، وقد ساعد ذلك على هدم الفارق بين ما هو إغريقي وما هو روماني، وتلاشى هذا الفارق أكثر بعد أن ضم الرومان اليونان في القرن الثاني قبل الميلاد، وحكموا إيطاليا واليونان كإمبراطورية شاسعة مطلة على البحر المتوسط على مدار القرون الأربعة التالية التي يتناولها هذا الكتاب. وآنذاك، لم يكن وجود الإغريق منحصرا في اليونان؛ فأفضل الإنجازات في مجال الطهي لم يأت عادة من البر الرئيسي لليونان على الإطلاق، ولم يكن وجود الرومان منحصرا في إيطاليا كذلك. وما إن تحولت الإمبراطورية الرومانية من حكم جمهوري إلى حكم استبدادي يرأسه إمبراطور، حتى كانت الإمبراطورية الرومانية - التي كانت فعليا إمبراطورية إغريقية رومانية - هي الإمبراطورية التي قد أصبحت، بحسب تعبير أندرو دالبي، «إمبراطورية الملذات». وللجمع بين كل هذه العناصر، يعتمد هذا الكتاب على الأعمال الموسوعية الأربعة التي جمع مادة كل منها بلينوس وبلوتارخ وجالينوس وأثينايوس. (3-2) ما السمات المميزة للطعام في الثقافة الإغريقية الرومانية؟
إن دراسة الطعام الإغريقي والروماني بصفته نظاما ثقافيا مميزا أمر مستحسن في حد ذاته، ولكن ربما يكون من الممكن طرح دفاع أقوى عن هذا النظام؛ فالثقافة الإغريقية، وشقيقتها الثقافة الرومانية، عبارة عن نظامين ثقافيين يدخل الطعام في بنيتهما إلى حد فريد، الأمر الذي يمكن مقارنته بكبرى ثقافات الطعام في الصين والهند. وبينما كان الطعام ينم عن أنماط الإنتاج والتوزيع والبنية الاجتماعية، كان يقع أيضا في صميم النظام الطبي الذي وضعه الأطباء التابعون لمدرسة أبقراط في القرنين الخامس والرابع قبل الميلاد. وكانت سوائل الحياة (الأخلاط) في عالمي النبات والحيوان وثيقة الصلة بسوائل الحياة التي كانت تتحكم في جسم الإنسان وكانت تخضع للعوامل الموسمية والمناخية، بل صنف أحد أبحاث أبقراط - بعنوان «الحمية 1» - البشر بصفتهم يعيشون في نظام كوني قائم على النار والماء. وتصورت نظرية أخرى من نظريات أبقراط عملية الهضم على أنها طهي المواد الغذائية بحرارة الجسم. وكان طهي الطعام قبل أكله ليس إلا جزءا من الوسيلة المتحضرة لتمثيل الطعام ليصبح جاهزا لامتصاصه في جسم الإنسان؛ إذ كان الكثير من المؤلفين القدماء يرون أن البشر حيوانات، وإن كانوا سلالة مختلفة من الحيوانات. وكان النظام الديني يحكمه أساس منطقي مختلف، ولكن ظل الطعام - الحيواني وغير الحيواني - في هذا الجانب أيضا يقع في صميم العلاقات المتبادلة بين الآلهة والبشر؛ إذ كان الكائن الأدنى - أي الإنسان - يقدم للكائن الأعلى - أي الإله - حياة الحيوان أو النبات الذي كان يقتل كقربان. وكان النظام الديني يجمع بين الفكر الأسطوري والأنشطة الشعائرية التي تقام للاحتفال والعبادة، وكان أيضا يدمج الفرد في الجماعة.
ومن السمات المميزة الأخرى للثقافة الإغريقية الرومانية الإنتاج الأدبي الغزير - الشفهي والمكتوب - الذي يعبر عن الطعام والعناصر المتعددة المرتبطة به في الكثير من الأجناس الأدبية، ويشمل هذا الإنتاج أيضا كتب الطهي، وهو ما لا ينتجه الكثير من الثقافات. صدرت كتب الطهي بحلول عام 400 قبل الميلاد، في غضون نصف قرن من صدور أقدم الأبحاث الطبية. وفيما يتعلق بالأعمال الأدبية الأخرى، نجد أن الطعام لعب دورا فعالا في أعمال هوميروس، وهي أقدم نص أدبي معروف لنا . وفيما بعد، نجد أن بعض الأجناس الأدبية - مثل المسرحيات التراجيدية والكوميدية - كانت ترتبط بالأعياد؛ حيث كان تقديم القرابين وتناولها على المسرح يعكسان - على نحو رمزي يناسب كل جنس من تلك الأجناس الأدبية - الأنشطة التي كان الممثلون والمشاهدون يمارسونها في الاحتفالات السابقة على تقديم المسرحية. وكانت ثمة أجناس أخرى ترتبط بجلسات احتساء الشراب، ومن هذه الأجناس الكثير من الشعر القديم، ومن المفارقة أيضا وجود الكثير إلى حد ما من المناقشات الفلسفية. واتخذت مقطوعات الهجاء الرومانية هي الأخرى من الطعام وطقوس تناول الطعام وسيلة معبرة للغاية للذم الذي تصبه على كل الشرور الاجتماعية التي كانت تدعي أنها تكشف عنها. ثم ظهرت الكتابات التقنية على غرار الأدلة الإرشادية المتعلقة بالزراعة، والأبحاث الطبية المعنية بالتغذية وعلم العقاقير، وكتب الطهي التي سبق ذكرها، والأعمال المعنية بالدراسات الحيوانية والنباتية، وأعمال غريبة ذات طابع مختلط مثل القصيدة التي تتناول الطهي والتي ألفها أركستراتوس (القرن الرابع قبل الميلاد)، والقصيدة التي تدور حول صيد الأسماك التي ألفها أوبيان (في القرن الثاني الميلادي). (3-3) الأطعمة المحلية
تمثل الاعتبارات المحلية أهمية خاصة في هذه الدراسة. سنجد الكثير من الأمثلة في الفصلين الرابع والخامس. بادئ ذي بدء، توضح هذه الاختلافات مدى التنوع الزماني والمكاني للمنطقة قيد البحث، وقد ظهر الاختلاف الأكبر بين المراكز الكبرى أي المدن الكبرى - مثل: روما، والإسكندرية، وأثينا (على نطاق أصغر) - وغيرها من الأماكن، وظهرت أيضا اختلافات بين الشرق والغرب وبين المناطق الجبلية والسهول، وذلك كما سنرى في وصف إيطاليا قديما وحديثا (راجع الفصل الرابع). ولوحظ كذلك وجود تنوع بين أماكن قريبة جدا بعضها من بعض، وكانت المناخات المحلية في اليونان مناسبة لزراعة أنواع مختلفة من الحبوب وغيرها من المحاصيل في أماكن مختلفة. ويصر عالم النباتات الطبية ديسقوريدوس على أنه يتوجب على الطبيب فحص كل نبات في مكانه؛ لأن الموقع من العوامل التي تتحكم في تحديد خصائص النبات. ويسرد الشاعر الهزلي يوبولوس نباتات معينة من مدن بعينها (الشذرة 18): «الخردل القبرصي، والمحمودة، والرشاد الميليتوسي، والثوم الساموثراكي، والسيلفيوم وسيقانه من قرطاج ، والزعتر من جزيرة هايميتوس، والبردقوش من جزيرة تينيدوس» (ترجمه إلى الإنجليزية: دالبي). وبخصوص المأكولات البحرية، فإن كتاب «حياة الترف» من تأليف أركستراتوس يرشد القراء إلى أفضل الأسماك الموجودة في مدن معينة؛ فعلى سبيل المثال: تنصح الشذرة 35، 5-7، بأن «الأسماك لذيذة في بيزنطة وكاريستو، ولكن مدينة كيفالويديس في جزيرة سيكلز الشهيرة تكثر فيها أسماك التونة، وهي أفضل بكثير من هذه الأسماك» (ترجمه إلى الإنجليزية: أولسون وسينس). ويقتصر كتاب دالبي «إمبراطورية الملذات» (2000) على دراسة هذه العلاقات المحلية مع الطعام والشراب، التي تنتشر في النصوص القديمة.
وتساعدنا الاعتبارات المحلية أيضا في معرفة البلدان المطلة على البحر المتوسط قديما على نحو يشبه ما عليه الحال في العصر الحديث؛ فكما أن إيطاليا الحديثة تتسم بنزعة محلية شديدة، كانت إيطاليا القديمة هكذا أيضا. ولا نجد مصادر توضح هذه الاختلافات أفضل من مصادرنا، وهم المؤلفون الموسوعيون بلينوس وجالينوس وأثينايوس. يكشف بلينوس عن تميز المناطق المحلية في إيطاليا، ويتناول جالينوس الفروق بين الحبوب التي تزرع في مناطق آسيا الصغرى، ويتناول أثينايوس الفروق بين المدن الإغريقية في اليونان وفي آسيا الصغرى؛ كما يتحدثون عن إسبرطة وكريت وثيساليا وبيوتيا والكثير من المناطق الأخرى. تؤثر النظم الاجتماعية على الإنتاج والاستهلاك الزراعيين: راجع الفصل الثاني عن إسبرطة وأثينا.
أثينا هي الموقع الأول الذي نتناوله، وهي مدينة ذات حكم ذاتي تضم بعض السهول الخصبة - مثل منطقة إلفسينا المعروفة بزراعة الحبوب - وتكثر فيها التلال الصخرية والأراضي الصالحة لزراعة العنب والزيتون ومنتجات الغابات مثل الفحم. وكانت هذه المدينة ذات الحكم الذاتي تشمل مركزا حضريا كبيرا، فلم يكن من السهل أن تحقق الاكتفاء الذاتي؛ ولذلك كانت تكثر من الاستيراد؛ وأدى هذا إلى زيادة في الاستيراد - خاصة إبان الحقبة الاستعمارية لأثينا في القرن الخامس قبل الميلاد، والقرن الرابع قبل الميلاد إلى حد أقل - إذ جاءت كل أنواع الواردات التي أشاد بها المؤلفون الهزليون، وامتدحها كذلك كل من المؤرخ زينوفون (كتاب بوروي، 1) وبريكليس في الوصف الذي كتبه المؤرخ ثيوسيديديس (2، 38). وتطلعنا الروايات التي تتحدث عن عادات تناول الطعام عن وجود نمط معين لعادات تناول الطعام في أثينا. كان من الوارد الإفراط في تناول الطعام، وخصوصا تناول الأسماك (ديفيدسون 1997، ويلكنز 2000). وظهرت أيضا دعاوى تلح على التمسك بالبساطة والتقشف، كما جاء آنفا. يتحدث أثينايوس عن أسلوب أثيني في تناول الطعام، يتسم بكثرة الأطباق الصغيرة مثل الوجبة الهندية الحديثة. (مصادره هزلية ساخرة؛ ومن ثم ربما تكون مضللة.) وكانت الأعياد التي تقام في إطار الشعائر الدينية تعبر عن توجهات أيديولوجية معينة، وكانت هذه الأعياد - التي كانت أثينا تحظى بالكثير منها - تتيح للأثينيين تناول كميات من اللحم البقري وغيره من اللحوم أكثر من غيرهم من الإغريق. وكانت الأعياد أيضا تمجد قوة أثينا الاستعمارية، وأدت إلى تدفق السلع إليها، وهو ما تناولته المسرحيات الكوميدية التي كانت تقدم في أعياد ديونيسوس. وبناء على الأدلة المأخوذة من المصادر الهزلية، كان المشاهدون الأثينيون يستمتعون فيما يبدو بتصوير جيرانهم الميجاريين الذين أرهقتهم الحرب على أنهم يتضورون جوعا، وأنهم أصبحوا بحاجة إلى السلع التي كانوا عادة يصدرونها، وهي الملح والثوم. وفي المصدر نفسه، كان أهالي بيوتيا أغبياء ومستعدين لبيع المنتجات الزراعية الغالية وأسماك الإنكليس بسعر بخس (أريستوفان، مسرحية «الأخارانيون»). وأكدت أثينا بساطتها بصفة خاصة عن طريق المضيفة المركزية في المدينة - في مبنى البريتانيون - حيث كانت بعض الأطعمة كالزيتون ومخبوزات الشعير تذكر الجميع بالأطعمة البسيطة في أثينا القديمة، وذلك أيضا وفقا لأحد المصادر الهزلية، وهو الشذرة رقم 7 للشاعر الهزلي شيونيديز. ويشترك هذا الوصف الذاتي في الكثير من السمات مع روما في حقبة لاحقة، ومن الممكن عقد مقارنة مثيرة للاهتمام بين مدينة ذات حكم ذاتي تقع بعيدا عن البحر ومدينة ذات حكم ذاتي تقع في منطقة جبلية. سيكون من الوارد في المدينة الجبلية احتساء الحليب، بل الجعة أيضا، وسيقل احتمال تناول الأسماك والأطعمة المستوردة من الخارج. ومن المهم دراسة هذه العناصر، حتى لو بوصفها احتمالات نظرية. وتصلنا معلومات أقل عنها لأن المدن الكبرى كانت مراكز ليس فقط لعادات تناول الطعام المتنوعة، بل لإنتاج النصوص ونشرها أيضا (للاستزادة راجع الفصلين الرابع والخامس).
من الممكن أن تدفعنا دراسة المناطق الجبلية في اليونان وإيطاليا (فضلا عن آسيا الصغرى في العصر الروماني) إلى أن نسأل هل كان سكان هذه المناطق ذات الكثافة السكانية المنخفضة يشتركون في أطعمة معينة مع الشعوب غير المتأثرة بالحضارة الإغريقية. يعرض هيرودوت بأسلوب مشوق عادات تناول الطعام المختلفة في أوصاف للفرس والمصريين، والسكوثيين والليبيين الرعويين في الأجزاء الأول والثاني والرابع من كتابه. وهذا الاهتمام بالتناقض يخفي أوجه التشابه، التي يساعد المنظور المحلي على إظهارها؛ فاستهلاك القمح أو زيت الزيتون - على سبيل المثال - تحدده الاعتبارات الجغرافية في البلدان المطلة على البحر المتوسط بقدر ما تحدده الممارسات الثقافية. وربما كان من المرجح أن المقيمين في الأماكن البعيدة عن المراكز القديمة في العالم كانوا يشربون الحليب ويأكلون الزبد ويزرعون أنواعا مختلفة من الحبوب، بل يقدمون أيضا القرابين على نحو يختلف بعض الشيء عن أهل المدن؛ بعبارة أخرى، كانوا أكثر ميلا لعيش حياة لا تعتمد على زيت الزيتون والنبيذ كإضافات للغذاء الأساسي المكون من الحبوب. إذا كانت هناك أوجه للتشابه بين الرعويين في إيطاليا واليونان ونظرائهم في أطراف المناطق الواقعة تحت التأثير الإغريقي الروماني، كان هناك أيضا وجهان آخران من أوجه التشابه مع الشعوب «الهمجية». ووجه الشبه الأول هو تنوع المدن الإغريقية والرومانية بسبب اتصال المئات منها بشعوب أخرى وأساليب حياة أخرى؛ ومن ثم، تمكن أثينايوس من اكتشاف بعض الحالات المدهشة لعادة تقديم قرابين من الأسماك، مع أن الإغريق لم يعتادوا ذلك. ويسلط بحثه المستفيض عن الثقافة الإغريقية الرومانية الضوء على الكثير من العادات المدهشة، بسبب اتصال الإغريق والرومان بشعوب أخرى في أنحاء بلدان البحر المتوسط. وكان وجه الشبه الثاني - الذي كان موجودا على نطاق واسع في روما في عهد الإمبراطورية كما في الكثير من المدن الإغريقية - هو الميل للترف والإسراف. وكثيرا ما يظهر هذا الاتجاه المتمثل في السعي وراء المتع في النصوص الكلاسيكية القديمة بصفته رذيلة من رذائل الهمجيين التي كثيرا ما تسللت إلى الثقافة الإغريقية الرومانية. راجع المناقشة الواردة في الفصل السابع عن الصورة القديمة التي كانت تكنها روما عن نفسها باعتبارها من الثقافات التي لم تعرف التجارة البحرية والأسماك، وعن نفور بلينوس في ارتياع من مناقشة عن المحار رأى أنها شهوانية إلى حد شائن. وازدهر هذا النوع من الترف فيما يبدو في مستعمرات إغريقية معينة، ونشأ على وجه التحديد من الإنتاج الزراعي الجيد. وازدهر الترف في روما؛ لأن مركز أي إمبراطورية عالمية كان يجتذب الثروة إليه. وكانت بعض جوانب هذه المعيشة المترفة المفترضة - كالتي كانت موجودة في مدن ساحل البحر الأيوني من آسيا الصغرى - متأثرة بثقافة بلاد فارس وغيرها من الثقافات الشرقية. ونشأت أمثلة أخرى - خصوصا في صقلية وجنوبي إيطاليا حتى خليج نابولي شمالا - من داخل الثقافة الإغريقية، فيما يبدو، ومن أقدم الأمثلة على ذلك مدينتا سيباريس وكروتون.
Página desconocida
ومن ثم، ينبغي أن نتوقع وجود قدر كبير من التنوع في البلدان الإغريقية والبلدان الرومانية، وسنجد هذا التنوع قطعا، وهو ما يظهر في صور شتى كثيرة. (3-4) ثقافات أخرى
أشرنا في عدة مواضع إلى عادات أو مكونات معينة ترتبط بأماكن بعينها، ولكننا لاحظنا أن تأثير مكان ما على آخر وتأثير انتقال الأطعمة والتكنولوجيا من مكان لآخر؛ مهم كذلك؛ إذ شهدت المنطقة حركة دائبة للتجارة والأغراض العسكرية والسياسية في أنحاء البلدان المطلة على البحر المتوسط؛ مما أدى إلى انتشار واسع للسلع والخبرات والمهارات؛ ومن ثم، من الصعب للغاية التحدث عن الإغريق والرومان باعتبار أن وجودهم منحصر في البر الرئيسي لليونان وفي روما وإقليم لاتيوم على التوالي. منذ فترة مبكرة للغاية، احتل الإغريق جنوبي إيطاليا، وكان التأثير الروماني على آسيا الصغرى هائلا في عهد الإمبراطور أغسطس؛ ومن ثم، لا بد من صياغة الملاحظات التي تجيب عن السؤال القائل: «هل كان الناس يشربون مشروبات «البربر» المقيمين في آسيا الصغرى في عصر أسخيلوس في أوائل القرن الخامس قبل الميلاد؟» صياغة مختلفة بعض الشيء في القرن الأول الميلادي. كان الإغريق والرومان يرون البحر المتوسط باعتباره بحرهم، وأن مناطق نفوذهم محاطة بشعوب مختلفة، منها السلتيون من شمالي أوروبا المعتادون على أكل اللحوم، وشعوب البدو الرحل في شمال الصحراء الكبرى الإفريقية وفي السهوب الروسية. ولكن كانت هناك ثقافات تسيطر على أجزاء من شرق البحر المتوسط قبلهم، مثل الفرس والمصريين، من بين شعوب أخرى؛ وكان هؤلاء من غير الإغريق، ولكنهم كانوا يختلفون عن السلتيين في عدم انتمائهم للإغريق. كان من الوارد وصف الفرس والمصريين بأنهم يتسمون بالترف والتفسخ الأخلاقي - وهي موضوعات أناقشها في الفصل السابع - ولكن أي وصف مبتذل من ذلك النوع يبخس حق هؤلاء الجيران ذوي الطبيعة المركبة، الذين كانت تجمعهم علاقة طيبة بالكثير من المجتمعات الإغريقية.
لطالما كانت مصر دوما حالة خاصة في البلدان المطلة على البحر المتوسط، بفضل ما للنيل من مأثرة فريدة على الزراعة، والوفرة النادرة التي أتى بها؛ لذا كانت مصر من دراسات الحالة المهمة لهيرودوت في القرن الخامس قبل الميلاد، وكانت موقع الثقافة الإغريقية المصرية للبطالمة في العصر الهلنستي، وكانت أيضا مرجعا استرشاديا مهما لاثنين من المؤلفين المهتمين بالتلخيص الذين نعتمد عليهم في هذا الكتاب - وهما جالينوس وأثينايوس (وأثينايوس إغريقي مصري من نقراطيس) - في القرنين الثاني والثالث الميلاديين.
وكانت بلاد فارس أيضا موضوع الكثير من المناقشات الدائرة حول الطعام والثقافة. كان الملك الأكبر يجلس على قمة نظام هرمي دقيق يوزع الطعام والموارد الأخرى انطلاقا من المركز. ووصف بعض المؤلفين الإغريق هذا النظام ب «الترف»، ولكنه يعبر أيضا عن نظام ديني مختلف، وجرت محاولات لوصفه بمصطلحات تخلو من التحامل. وكان الملك الأكبر يعبر عن علو شأنه وتفوقه عن طريق توزيع اللحم وتناوله وتنظيم مواعيد الوجبات بناء على نظام هرمي، وأيضا عن طريق تحفيز الابتكار. يصف هيراكليدس من كوما - مؤلف كتاب «تا بيرسيكا» أو «وصف بلاد فارس» الذي ألفه في القرن الرابع قبل الميلاد - المآدب الملكية كالآتي:
من بين المدعوين لتناول الطعام مع الملك، يتناول البعض طعامهم بالخارج، على مرأى كل من يرغب في مشاهدتهم، بينما يتناول آخرون طعامهم بالداخل بصحبة الملك. ولكن حتى هؤلاء لا يأكلون في حضوره، نظرا لوجود غرفتين متقابلتين، يتناول الملك وجبته في إحداهما، ويتناول الضيوف المدعوون طعامهم في الغرفة الأخرى، ويراهم الملك من خلال الستار المسدل على الباب، ولكنهم لا يرونه. ولكن، أحيانا في حالة وجود عطلة عامة، يتناول الكل طعامهم في غرفة واحدة مع الملك في القاعة الكبرى. وكلما أمر الملك بإقامة جلسة شراب (وكثيرا ما يحدث ذلك) جلس معه نحو اثني عشر من الندماء يشاركونه الشراب، وحين ينتهي هؤلاء الندماء من تناول عشائهم - فالملك يجلس وحده، والضيوف يجلسون في الغرفة الأخرى - يستدعيهم أحد الخصيان، فيدخلون ثم يشربون معه، مع أنهم لا يحتسون الخمر نفسه؛ فضلا عن ذلك، يجلسون على الأرض بينما يتكئ هو على أريكة أرجلها من الذهب، ويغادرون بعد أن يشربوا حتى الثمالة. وفي معظم الحالات، يتناول الملك فطوره وعشاءه وحده، ولكن أحيانا يشاركه تناول الطعام زوجته وبعض أبنائه. وطوال تناول العشاء تغني محظياته ويعزفن على القيثارة، وتغني إحداهن منفردة، بينما تغني الأخريات غناء جماعيا. (ترجمه إلى الإنجليزية: جوليك)
ويمضي هيراكليدس بعد ذلك ليصف المأدبة نفسها، وهي مأدبة الملك، قائلا:
سيبدو «عشاء الملك» - كما يسمى - مظهرا من مظاهر التبذير والإسراف لمن يسمع عنها فحسب، ولكن حين يتفحصها المرء بعناية سيجد أنه قد روعي في تحضيرها الاقتصاد، بل التقتير أيضا. وينطبق الشيء نفسه على مآدب العشاء التي كان يقيمها غيره من الفرس ذوي المقام الرفيع؛ إذ يبلغ عدد الحيوانات التي تذبح يوميا ألف رأس؛ وتشمل الخيول والجمال والثيران والحمير والغزلان ومعظم الحيوانات الأصغر حجما؛ ويستهلك أيضا الكثير من الطيور، بما في ذلك النعام العربي - وهي مخلوقات كبيرة الحجم - والإوز والديوك. ولا يقدم من بين كل هذه الحيوانات إلا حصص متوسطة الحجم لكل ضيف من ضيوف الملك، ويسمح لكل منهم أن يأخذ معه إلى بيته كل ما يتركه من طعامه دون أن يمسه. ولكن القسم الأكبر من هذه اللحوم وغيرها من الأطعمة يحمل إلى ساحة القصر ليأكله الحراس والفرسان المسلحون بأسلحة خفيفة، الذين يحتفظ بهم الملك؛ وهناك يقسمون كل بقايا اللحوم والخبز ويقتسمونها فيما بينهم بالتساوي. وكما أن الجنود المرتزقة في اليونان يتلقون أجورهم مبالغ مالية ، يتلقى هؤلاء الرجال الطعام من الملك كمكافأة على خدماتهم. والشيء نفسه نجده فيما بين الفرس الآخرين ذوي المنزلة الرفيعة؛ حيث يقدم الطعام كله على المائدة نفسها في الوقت نفسه، ولكن حين يفرغ ضيوفهم من تناول طعامهم، يمنح الموظف المسئول عن المائدة كل ما تبقى من المائدة - ويتألف في معظمه من اللحم والخبز - إلى العبيد كافة؛ فيأخذونه ويحصلون بذلك على طعامهم اليومي؛ ومن ثم، يتوجه أعلى ضيوف الملك مقاما إلى القصر لتناول الفطور فقط؛ إذ يتوسلون ليؤذن لهم بالمغادرة حتى لا يضطرون للذهاب مرتين، ولكن يسمح لهم بالعودة إلى ضيوفهم. (ترجمه إلى الإنجليزية: جوليك)
هذه المقتطفات المأخوذة من نص هيراكليدس يحفظها أثينايوس (في كتابه «مأدبة الحكماء»)، ويحاول أثينايوس حساب التكلفة المقارنة لهذا النظام ومقارنتها بتكاليف الإسكندر الأكبر، وهي محاولة مهمة وإن كانت لم تكلل بالنجاح. ويتناول أثينايوس أيضا المقارنة التي أجراها هيرودوت بين الإغريق والفرس، والمقارنة المفيدة التي أجراها زينوفون بين الحكام المستبدين الإغريق وبين الحديث عن المتع، وهو ما نتناوله في الفصلين الثاني والسابع. ويضيف أثينايوس أيضا عنصر الابتكار في الوصفات والتأثير الأشمل له على أنطونيو وكليوباترا. وهذه مناقشة مفيدة للغاية - ولكن يشوبها النقص مما يحول دون اعتبارها دراسة - عن انتقال عادات تناول الطعام الملكية من بلاد فارس إلى روما، وذلك عن طريق الحكام المستبدين الإغريق وملوك الحقبة الهلنستية. وللاطلاع على مناقشة لعادات تناول الطعام وطرق توزيع الطعام في بلاد فارس (راجع بريانت 1996: 297-309). (3-5) هل حدث تطور ثقافي؟
يعود تاريخ فخامة القصر الملكي الفارسي إلى فترة طويلة سابقة على العصر الذي نحن بصدد مناقشته في هذه الدراسة. وبنهاية الدراسة التي بين أيدينا، نجد أن القصر الإمبراطوري في روما قد أصبح يحظى بثراء يفوق ثراء الملك الفارسي. هل لنا أن نتحدث عن «تطور فن تذوق الطعام» في البلدان الإغريقية الرومانية في هذه الحقبة؟
بوجه عام، كانت المنتجات المحلية والطقوس الاجتماعية مرتبطة بالزراعة والمناخ، ولم تكن مرهونة بالتجديد السريع، مع أنه من الوارد أن تطرأ تغيرات بمرور الزمن في المنتجات المزروعة أو الأنظمة السياسية والاجتماعية. وغالبا ما كان التغيير في أساليب تناول الطعام والمنتجات المتاحة وافدا من الخارج؛ ولذلك كان المستهلكون في روما يستفيدون من الفواكه الجديدة مثل الكرز والخوخ والمشمش التي جاءت إلى المدينة حين أخذت الإمبراطورية تبسط نفوذها في آسيا الصغرى، وأصبحت تتوفر أنواع جديدة من الطيور والأسماك فيما يبدو. وفي فترة أقدم - كما سنرى في الفصل الثاني - جاءت عادة الاتكاء بدلا من الجلوس أثناء تناول الطعام إلى البلدان الإغريقية والبلدان الإيطالية القديمة من الشرق الأدنى. وظهرت تطورات أخرى في الطعام وفي عادات تناول الطعام سنناقشها. هل من الجائز إذن أن نصرح بأن الناس - في نهاية العصر الذي يشمله هذا الكتاب - كانوا يأكلون بطريقة أكثر تقدما مما كانوا عليه في البداية؟ وكما سنرى فيما يأتي، كان الإغريق يؤمنون قطعا بالتطورات الثقافية من هذا النوع، على الأقل كما يتضح من خلال الأيديولوجية والأسطورة. ولنا أن نكون على يقين إلى حد ما بأن غالبية السكان عموما لم تشهد أيا من هذه التطورات، وأن أزمات نقص الطعام - التي كان يتعرض لها الفقراء في الريف - كانت مزمنة في القرن الثاني الميلادي كما كانت في القرون السابقة؛ ويشهد جالينوس ببلاغة على هذه الحقيقة. أما بين الطبقات الراقية الثرية، فقد ظهرت تطورات، ولكن يبدو أنها لم تستمر طوال الحقبة. وهنا أستعرض بإيجاز ظاهرتين ثقافيتين: وهما الطاهي وكتاب الطهي، وآثارهما على التطور الثقافي.
Página desconocida
الطهاة بطبعهم شخصيات ملتبسة. وتشمل الكلمة الإغريقية المكافئة لكلمة «طاه» - «ماجيروس» - تقريبا المهن الحديثة مثل الطاهي والقصاب، فضلا عن دور ذبح الحيوان لتقديمه كقربان؛ فمن ناحية، كانوا من الحرفيين المكلفين بأداء الأعمال المرهقة والمسببة للاتساخ، مثل ذبح وتقطيع الحيوانات وطهي اللحوم وغيرها من الأطعمة في أماكن مشبعة بالأبخرة والدهون. ومن ناحية أخرى، كان يرتبط وجودهم باللحم الذي كان يحظى بمكانة اجتماعية وأهمية دينية. في العالم القديم، كان من الوارد أن يكونوا من المنتفعين أو العبيد أو الحرفيين الماهرين الذين يستأجرون. في بريطانيا المعاصرة، من الوارد أن يكونوا من العاملين المكلفين بالشواء في الهواء الطلق ؛ ومن الوارد أيضا أن يكونوا من طهاة المطاعم البارعين. ونظرا لهذا الالتباس، نجد أنهم موجودون في عدد من الأماكن المختلفة، وتصورهم النقوش الأثرية وهم يقدمون القرابين في تجمعات دينية معينة (بيرثيوم 1982). وهم موجودون أيضا في حاشية الحكام الأقوياء؛ فكان هناك طهاة في فريق الموظفين التابعين لملك بلاد فارس وقادته العسكريين. ويعقد هيرودوت مقارنة لافتة بين العادات الفارسية والإسبرطية (9، 82):
حين رأى باوسانياس (خيمة خشايارشا)، والبسط الجدارية المطرزة المعلقة على جدرانها، وزخارفها الفضية والذهبية البديعة، استدعى الخبازين والطهاة الذين يعملون لدى القائد ماردونيوس وأمرهم بتحضير وجبة من نفس النوع الذي كانوا معتادين على تحضيره لمولاهم السابق؛ فلبوا أمره. وحين رأى باوسانياس الأرائك الفضية والذهبية مكسوة بأقمشة جميلة والموائد الذهبية والفضية وكل شيء مجهزا للوليمة بمنتهى الفخامة، لم يكد يصدق عينيه من مشهد الطيبات الموضوعة أمامه، وأمر خدمه على سبيل المزاح بإعداد وجبة عشاء إسبرطية متقشفة عادية. (ترجمه إلى الإنجليزية: دي سيلين كورت)
بالتزامن مع ذلك - على حد قول زينوفون - كانت تقدم البدع ومستحدثات الأمور إلى الملك الفارسي، حيث كانوا: «يسافرون (لأجل الملك الفارسي) في طول البلاد وعرضها بحثا عن مشروبات يستمتع باحتسائها، ويتولى أفراد شتى مهمة تحضير أطباق يستمتع بتناولها» (أجيسيلاوس 9، 3). وهكذا كان الملك يخدمه الطهاة في قصره الملكي، وحين كان على سفر، سواء أكان مع جيشه أم دونه. وكانت للفرس وجبات تختلف عن وجبات الإغريق، كما يوضح هيرودوت (راجع ما سبق).
من الصعب أن نجزم هل هذا يؤلف «أسلوب طهي مميزا» أم لا، ولكن حاشية الطهاة ساعدت قطعا في التعبير عن القوة الفائقة للملك. وحين اكتشف الإغريق الإمكانيات التي يقدمها الطهاة، هل أخذوا يأكلون «على الطريقة الملكية» أكثر، أم أخذوا يستعينون بخدمات المزيد من الطهاة؟ لا يوجد دليل واضح على أنهم فعلوا ذلك، على الرغم من ظهور قدر كبير من المناقشات الهزلية عن أن الطهاة أدخلوا «الترف» إلى المنازل.
ويعود فضل ظهور أحد أساليب الطهي الملكية المميزة إلى الإغريق في صقلية على الأرجح، ويشهد على عمل الطهاة في قصور الحكام المستبدين هناك كل من زينوفون وأفلاطون وأحد نصوص أبقراط (راجع الفصل الثاني). ويلاحظ بدء ظهور الطهاة في النصوص الهزلية الأثينية التي تعود إلى القرن الرابع قبل الميلاد؛ فهل هذا ينم عن وجود منافسة ملحوظة فيما بين أبناء الطبقة الراقية الأثينية لاستعراض الأحدث والأفضل في الطهي الحديث؟ ولا يتيح لنا الدليل أن نقر بهذا الرأي.
يدعي أحد المتحدثين في كتاب أثينايوس أن الطهاة كانوا عادة أحرارا قبل الحقبة المقدونية، وصاروا بعدها عبيدا. واستعان المقدونيون قطعا بالطهاة في القصر الملكي، وأخذوا بدورهم يصدرونهم إلى روما في القرن الثاني قبل الميلاد، وذلك فضلا عن كل وسائل الترف الأخرى التي كان كاتو وبوليبيوس يتبرمان منها في أعقاب غزو مقدونيا واليونان. وكان الطهاة والخبازون هم عوامل التأثير الأجنبية هذه، تماما كما كانوا في خيمة ماردونيوس. أما في روما، فيبدو أن الطهاة كانوا من العبيد، وهم يظهرون كعبيد قطعا في كتاب أثينايوس «مأدبة الحكماء» وفي كتاب بيترونيوس «عشاء تريمالكيو»، ويوصفون فيهما بأنهم من العبيد المهرة الملازمين لأهل المنزل، فيما يبدو.
إن الصلة بين الطهاة وكتب الطهي مثيرة للاهتمام. تقدم هذه الكتب إرشادات الطهي وتفترض وجود المهارات المطلوبة. ويهتم كل من ميثاكوس وأركستراتوس وأبيكيوس بمهارات الطهي، ولكن لديهم اهتمامات أخرى أيضا، كما سنرى. ولكن عند مناقشة تطور الطهي في البلدان الإغريقية الرومانية، نجد أن من الصعب أن نلاحظ نشوء أسلوب طهي مميز بطريقة منهجية. ولم يبق من كتابات ميثاكوس إلا قدر قليل لا يتيح لنا أن نحكم على أسلوبه في الطهي. يرفض أركستراتوس النكهات المركبة ويؤيد طهي الأسماك الطازجة ببساطة وأناقة، ويختلف عنه تماما أسلوب الطهي القائم على التوابل الغزيرة الذي يرد في كتابات أبيكيوس الذي يستخدم نكهات متعددة مشتقة من نباتات مستوردة ومحلية. وما تبقى من هذه الأعمال ومن أعمال أخرى لمؤلفين مثل باكساموس نادر ومتنوع إلى حد لا يتيح لنا وصف التطورات التي طرأت على فن تذوق الطعام. لا يأخذ الإغريق سمات ملحوظة عن بلاد فارس ومصر على نحو واضح، ثم ينقلونها إلى الرومان، بل يبدو أن روما تكيف العادات الإغريقية بحماس في هذا المجال كما هي الحال في مجالات أخرى كثيرة، ثم تكيفها لتناسب نظامها السياسي. من المتوقع أن تكون المآدب في روما فاخرة ومعبرة عن المنتجات الزراعية الوافدة من كل أنحاء الإمبراطورية، كما كانت الحال عند الملك الفارسي. وكان الطعام مهما كذلك لغرض التفاخر؛ فلا بد أن يكون وفيرا، أو لا بد أن يقوم مقام درع منيرفا («فيتيليوس» من تأليف سيوتونيوس) أو خنزير بري بعد قنصه («عشاء تريمالكيو» من تأليف بيترونيوس). ولكن لا يوجد أي اهتمام واضح بالخلاصات أو روعة النكهة، مثل اهتمام أركستراتوس. من المفترض أن القصر الإمبراطوري في روما يحتوي فيما يبدو على كل العناصر الضرورية لتوفير أسلوب طهي رائع، وذلك فيما عدا الاهتمام بحسن تمييز الطعام. ويبدو أن الفخامة والتباهي قد حلا محل الرقي والأناقة، وذلك على حد علمنا. (4) الروايات الأسطورية التي تفسر التطور الثقافي
ناقشنا الأدلة الملتبسة على تطور الطهي في اليونان أثناء ذلك العصر. لا شك أن الإغريق والرومان كانوا يؤمنون أن الطهي كان يرتبط ارتباطا وثيقا بالثقافة وتطور الحضارة، أيا كان الأسلوب الذي طبقوه فعليا. وكان الطعام في هذا النظام يضارع فيما يبدو أكبر أنظمة الطعام الأخرى في العالم، مثل أنظمة الطعام في الهند والصين اللتين تكونان أفكارا عن الطعام وتبنيان نظاما طبيا يستند إلى مكان الإنسان في الكون.
كانت الثقافة الإغريقية - والثقافة الرومانية (بعد إضافة تعديلات) - تدمج الطعام برؤيتها للعالم، وفي مرحلة مبكرة نسبيا عرضت روايات التطور الثقافي كيف انحدرت البشرية من عصر ذهبي كان الطعام متوافرا فيه تلقائيا؛ وعرض نموذج بديل كيف ارتقت البشرية من حياة بدائية همجية متدنية إلى حياة ثقافية راقية. وفيما يأتي أورد بعض الأمثلة على ذلك. وفي مرحلة مبكرة أيضا، ظهرت أساطير كانت تفسر وصول أطعمة مهمة معينة إلى اليونان وإيطاليا، ووصلت هذه الأطعمة بمساعدة الآلهة والأبطال الشعبيين. وأناقش هذه الأساطير أيضا أدناه. كانت الأساطير المهمة على وجه التحديد هي الأساطير التي تهتم بتعريف العلاقة بين البشر والحيوانات، مثل الأساطير التي تحكي عن هرقل الذي جلب الماشية إلى العالم الكلاسيكي القديم، وعن بروميثيوس الذي أنشأ نظام تقديم القرابين من الحيوانات إلى الآلهة. وكان الطهي يقع في صميم أساطير التطور هذه، وفي صميم النظام الطبي أيضا. وحين ظهرت نظرية للهضم وضعها أبقراط وغيره، نجد أن النموذج الذي أخذوا به كان فيما يبدو عبارة عن عملية طهي للطعام داخل الجسم، تعتمد على حرارة الجسم نفسه، وكانت عبارة عن وسيلة لتحويل الطعام إلى مواد مغذية للدم وللأنسجة الأخرى. وفي الفلسفة أيضا، نجد أن أفلاطون في كتابه «طيمايوس» يدمج تغذية الجسم في روايته عن خلق الكون والإنسان (راجع الفصل السابع).
قدم الإغريق والرومان عددا من القصص المختلفة عن تقدم البشرية، من البدائية أو حديقة عدن إلى التدخل الإلهي. والأمثلة التي سأقدمها هنا هي رؤية هسيود لأسطورة بروميثيوس، وهي عبارة عن قصيدة «ترنيمة إلى ديميتر» التي كتبها في فترة مبكرة، وقصة أسطورية ظهرت بعد ذلك عن وصول إله الخمر ديونيسوس إلى اليونان. وبالإضافة إلى هذه الروايات الأسطورية التي تصف كيف جلب الآلهة الحضارة، سنورد قصة علمية لمؤلف يتبع مدرسة أبقراط، وقصة أخرى تقوم على الوعظ الأخلاقي من كتابات أوفيد. وكانت التأملات القائمة على الوعظ الأخلاقي، التي تناقش تناول الطعام والشراب، منتشرة في العصور القديمة ولا بد من إدراكها بناء على حقيقتها.
Página desconocida