جنون النشوء به والنماء
هذه لمحة خاطفة عن أعمال وإنتاج هذا العبقري الذي يعتبر من أعظم الشعراء والمفكرين. ولقد أبدع سير توماس أرنولد عندما لخص مكانة إقبال في «مملكة الفلسفة» حيث قال: «لقد وجدت الحركة العصرية في شعر إقبال أعظم معبر لها ، فقد حول بعض أفكار برجسون ونيتشه إلى أفكار خاصة، ولم يكن فيما فعله مجرد صدى لآراء غيره، ولكنه كان مبتكرا أصيلا».
أما فيما يختص بفنه الشعري فقد وهبه الله قدرة خيالية فريدة فهو يرسم صورا لا يمكن لغيره أن يصورها ويقدمها في إطار رائع بديع، وهو رغم ذلك لا يبتعد عن الحقيقة، بل هو - شأنه في ذلك شأن وردسورث وكيتس وشيلي - لا يشق له غبار في وصف الطبيعة، وقد تجلى هذا في كتابه «بال جبريل».
وأما فيما يختص بقدرته على التعبير فإنه متقدم على من سبقوه بمراحل، إذ إنه ابتكر أساليب جديدة في التعبير وألبس الأسرار الغامضة والمعاني الخفية مظهر الوضوح في كلام جميل لا لبس فيه ولا إبهام.
بيد أن شهرة إقبال في بلاده تعود إلى توصله لفكرة إيجاد دولة مستقلة لمسلمي الهند، وعظمة شعره تتركز في أنه بعث الحياة وأحيا النشاط في شعبه، ولا شك أن رسالة الأمل والعمل واحترام النفس التي نادى بها هي التي أيقظت مسلمي الهند بعد رقاد دام عدة قرون.
ومع ذلك فإن إقبال لم يقصر هدفه على بعث مسلمي الهند وحدهم، بل إنه صور إمكان إنشاء حكومة إسلامية عالمية لا تعمل حسابا للفوارق الجنسية أو الجغرافية ويكون هدفها خدمة الجميع.
ولقد جعل إقبال من الإنسان شيئا عظيما، وبين الوسائل التي يستطيع بها أن يستغل إمكانياته.
كان إنسانا، وكانت إنسانيته هي مصدر عظمته، فإن شعره وفلسفته وسياسته كانت كلها أبلغ دليل على هذه الإنسانية.
والإنسانية في نظر إقبال هي الحافز الذي يدفع الإنسان ليجعل من نفسه مخلوقا حرا لا عبدا للدكتاتوريين السياسيين أو الطغاة المفكرين أو الجهلاء من دعاة الخرافات. وكان إقبال يؤكد أن شخصية الرجل لا يمكن أن تتبلور إلا في ظل الحرية وفي جو الانطلاق، وهكذا فإنه في الوقت الذي كان العالم كله قد تعود حياة السيطرة السياسية راح إقبال يتغنى بقيمة الحرية.
وقد علمنا إقبال أن نعنى بمن هم أضعف منا لا شفقة عليهم أو رحمة بهم وإنما تقديرا لقيمتهم نفسها ، وكان هو نفسه يحترم رجل الشارع للصفات المشتركة بينهما، ويرى أنه ليس هناك ما يسمى بالمخلوق الممتاز؛ فإن لكل إنسان - في نظره - ميزات خاصة به، وهذا وجه الخلاف بينه وبين الفيلسوف نيتشه الذي لم يكن سوى الازدراء لجمهرة الشعب أو لرجل الشارع، فلقد كان إقبال يتمسك بأرستقراطية روحية ترحب بكل من يرغب فيها وفي الانضمام إليها.
Página desconocida