وقد كان أكبر من ترك الأثر في نفسي من المصريين الذين قابلتهم اثنين ... قابلتهما هناك، وكان الأول يعمل في العاصمة كراتشي، أما الثاني فيعمل في جامعة بشاور على بعد 12 ساعة بالطائرة. وأنا أبعث إليهما من هنا بتحية حارة، فإنهما يمثلان مصر خير تمثيل ويرفعان رأسها في تلك البقاع النائية.
كان أولهما هو الأستاذ محمود أبو السعود الاقتصادي وخريج كلية التجارة. ظل يعمل في مصر بالإدارة الاقتصادية للجامعة العربية حتى عام 1948، وأدت الظروف السياسية التي سادت في مصر وقتئذ إلى خروجه من البلاد فرحل إلى أفغانستان حيث اشتغل بالتدريس، وكانت له هناك مغامرات عجيبة.
وفي شتاء 1948-1949 أخذ الأستاذ محمود أبو السعود ينشر في صحف باكستان التي تصدر باللغة الإنجليزية عدة مقالات في الاقتصاد والسياسة.
واسترعت مقالاته الأنظار وأخذ الناس يتساءلون: «من هو محمود أبو السعود؟» ولما عرف المسئولون في باكستان أنه مصري دعته في الحال جامعة البنجاب ومقرها لاهور إلى إلقاء سلسلة من المحاضرات، وكان ذلك في عام 1949-1950، ولما سأل عن موضوع المحاضرات قالو له إنه قد لفت أنظارهم بحث نشره في مجلة كلية الحقوق بكابول في أفغانستان وعنوانه «السياسة والاقتصاد في الإسلام»، وإنهم يحبون أن يكون هذا الموضوع هو موضوع المحاضرات.
وألقى الأستاذ أبو السعود سلسلة المحاضرات، فنالت إعجابا شديدا من جميع الدوائر الاقتصادية في باكستان.
وعلى أثر ذلك نشأت صداقة بين الأستاذ أبو السعود وبين السيد زاهد حسين محافظ بنك الدولة في باكستان، وفي يوم من الأيام قدم زاهد حسين طائفة من الأسئلة إلى صديقه أبو السعود وطلب منه الإجابة عنها كتابة.
وكانت الأسئلة كلها تتناول مشاكل المال والاقتصاد في باكستان، فانكب عليها الأستاذ محمود أبو السعود يدرسها بدقة ويضع الإجابة عن كل سؤال بعناية تامة.
ولما تلقى محافظ بنك الدولة الإجابة اشتد إعجابه بآراء الأستاذ محمود أبو السعود فرشحه مستشارا للبنك وقبل أبو السعود المنصب.
وعرف الأستاذ أبو السعود فيما بعد أن الأسئلة التى قدمها إليه محافظ البنك لم تكن غير امتحان كتابي له أداه دون أن يعرف أنه امتحان، كما عرف أنه اجتازه بنجاح.
وعمل الأستاذ أبو السعود في بادئ الأمر بعقد لمدة عام، ثم تجدد العقد لمدة عام آخر ... وما لبث أن عرض عليه المحافظ أن يعمل للباكستان مدى الحياة إلا أنه اعتذر وآثر أن يستمر في العمل بعقد يتجدد شهريا.
Página desconocida