La naturaleza y lo sobrenatural: la materia, la vida, Dios
الطبيعة وما بعد الطبيعة: المادة . الحياة . الله
Géneros
أن الغريزة قابلة لبعض التعديل والتنوع، فهي ليست آلية، وأقرب الأمثلة على ذلك العنكبوت حين تشكل نسيجه حسب المكان المتوفر له، والعصفور حين ينوع المواد التي تتفق له لبناء عشه، وكلب الماء حين يراعي في بنائه اتجاه التيار ومستوى الماء والمسافة من سكنى الإنسان. يضاف إلى ذلك في الغريزة الصناعية أن الغريزة المسماة إدراكا لمعنى غير محسوس هي في الحقيقة إدراك من حيث إنها تتناول موضوعا مخصوصا بشكل مخصوص مدركا بالحس الظاهر، فإذا كان للحيوان إدراك ظاهر فلم نأبى عليه الإدراك الباطن؟ لذا لا يعرف بالحركة، ظاهرة في النقلة، وباطنة في الفعل العكسي، فإن النقلة قاصرة على بعضه وإن منه الثابت في الأرض كالنبات؛ وإنما يعرف الحيوان بالحس لاشتراكه فيه بدون استثناء، فحاسة اللمس حاصلة لجميعه، فيقال للنفس الحيوانية: حاسة؛ وباقي الحواس موزع على باقي الحيوان.
الوجه الرابع:
أن الغرائز تختلف باختلاف الأنواع الحيوانية وأحوال المعيشة في البيئة الواحدة، فهي لم توجد بفعل العوامل الطبيعية كما يوجد الآليات، ولكنها وجدت حية تغتذي وتنمو وتتناسل، وهذه أفعال مباينة للآلية كل المباينة كما أوضحنا. ولها أعضاء شبيهة بأعضائنا الحاسة، وجهاز عصبي شبيه بجهازنا، وهما قوام الحياة الحاسة فينا، مدركة ونازعة، فإذا لم يدلا على حياة مثلها كانا عبثا غير معقول أصلا. الواقع أنه يبدي علامات معرفة حسية، من إحساس وتخيل وتذكر وانفعال، يحدق البصر في الأشياء ويرهف السمع ويتذوق الطعوم، وهو يشعر بحاجات باطنة، ويدرك الموضوعات الكفيلة بقضائها. وعن معارفه تنشأ الانفعالات، من محبة وكراهية وغضب وسرور واللذة والألم والحقد والأمانة ... إلخ.
بيد أنها غير مكتسبة بالتفكير، كما ظن كوندياك؛ إذ لو صح ظنه للزم أن لبعض الحيوان، كالنحل مثلا، عقلا مساويا لعقل النوابغ من بني الإنسان، لما تشهد به خلاياه من معقد الهندسة ودقة الصنعة؛ وإذا لاحظنا أن أدهش الغرائز توجد لدى الحشرات - أي لدى الحيوانات التي هي في أسفل دركات المعرفة - ازددنا استبعادا لهذه القضية؛ ولا يمكن أن يقال: إن الحشرات تتعلم الواحدة منها بمحاكاة أبويها، فإن أنواعا منها يولد أفرادها بعد هلاك الأبوين فتنشأ والغريزة فيها تامة. ثم إن الحيوان يعمل على نحو واحد في كل نوع بينما أفعال الإنسان متنوعة للغاية، وما علينا إلا أن نلقي النظر على حضاراته الحاضرة والماضية، فنجد أنه غير سطح الأرض بالفنون والعلوم، فإن العقل مرن يمتد إلى موضوعات كثيرة، وينوع الغايات والوسائل، وينتفع بالتجارب، فيترقى ويخترع، والحيوان غبي كل الغباوة فيما عدا الغريزة. ويكفي هذا الآن، وسنعود إلى المسألة عند الحديث عن العقل الإنساني في الفصل التالي. أجل إن الغريزة تدل على عقل؛ لأن العقل وحده يتصور الغايات ويهيئ لها الوسائل؛ ولكنه ليس عقل الحيوان لما تقدم من علوها على مقدرته؛ فينبغي أنها أثر من آثار العناية الإلهية، فإنها جزء من ماهية الحيوان، متسقة مع تركيبه، ضرورية لحياته.
الحيوان حاصل إذن على وظائف الحياتين، النامية والحاسة، فهل يؤدي وظائف كل حياة منهما بنفس متمايزة من الأخرى، أم يؤديها جميعا بنفس واحدة؟ الجواب: يستخلص أولا من نظرية تجوهر الأجسام التي تبين وحدانية الصورة الجوهرية في كل جسم طبيعي. ويعزز بأدلة خاصة: فأولا تكوين البدن الحي يتم بتكاثر الخلايا، ويرجع هذا التكاثر إلى الاغتذاء، أي: إلى الحياة النامية، ففي تكوين النفس النامية للحيوان بأعضائه الحاسة مجاوزة لنطاق هذه النفس، فيتعين تعليله بفعل نفس نامية حاسة معا. ثانيا: الشعور بالجوع والعطش عنصر ذاتي في الحياة النامية للحيوان، وهذا لا يمكن تفسيره إذا افترض للحيوان نفسان. ثالثا: الاتصال الوثيق بين الحياتين، فإن الحيوان يستخدم أفعال الحياة الحاسة من معرفة وانفعال ونزوع وحركة، لخير الحياة النامية، من اغتذاء وتوالد ودفاع عن الذات، فالحياتان متضامنتان صادرتان عن أصل واحد.
على أن النفس الحيوانية ليست صورة قائمة بذاتها، ولكنها صورة متعلقة بالمادة، يدل على ذلك أن أفعال الحيوان صادرة عن قوى عضوية متعلقة بالمادة تعلقا ذاتيا، وإذا اقتصرنا على الإحساس منها قلنا: إنه فعل المركب من النفس والجسم، لا فعل النفس وحدها، أو الجسم وحده؛ العضو هو الشرط المادي للإدراك الحسي، وهذا الإدراك وظيفة نفسية؛ وكما أن النفس صورة الجسم، كذلك القوى الحاسة صور الأعضاء؛ حالما ينفعل العضو كالعين مثلا تنفع القوة الحاسمة التي هي البصر من حيث إنهما شيء واحد، فلا «جسر» بين الاثنين ولا انتقال من الظاهرة العصبية إلى الظاهرة الحسية، كما يظن الماديون والتصوريون على تعددهم. يلزم عن ذلك أن النفس الحيوانية متعلقة بالمادة في وجودها كما هي متعلقة بها في أفعالها، فإذا ما وجد الحيوان خرجت هي من «قوة المادة» كالعناصر الجمادية؛ وإذا ما هلك الحيوان عادت هي إلى «قوة المادة»، فللحيوان حياة حقة متوسطة بين النبات والإنسان: يشترك مع النبات في الحياة النامية، ويشترك مع الإنسان في الحياة الحاسة؛ ولسنا نرى مبررا البتة لاعتباره مجرد آلة.
هوامش
الفصل الرابع
الحياة الناطقة
(1) العقل
Página desconocida