«لا، لا، إياك أن تذكر اسمي، قل: إني لبناني صميم.»
وودعت اللبناني الصميم، وهو صديق قديم حميم، حشد في خزان الدهر ثلاثين سنة من حياة مفعمة بالجهود الوطنية، ومن صداقات غالية تخطت حدود المناطق والطوائف، ومن حلقات أدب وفكر وصفاء لم يعرف لبنان لها شبيها، ولعلها لن تبعث، ومن سلوك شخصي يقدر أن يعرضه على الجماهير في شريط سينمائي فخورا بمشاهده وحوادثه.
ودعت اللبناني الصميم بعد جلسة طويلة، هذا ما قال فيها:
يا أخي نحن نحترمكم، نحن لا نتهمكم بالخيانة، نحن معجبون بإخلاصكم واندفاعكم، ولكن تعالوا نشتغل في هذا المجتمع اللبناني، حتى تستقيم الأمور، فإن سيطر الوعي علينا هنا، وعليهم هناك، إلى حيث شئنا وشاءوا، أو أراد أولادهم، وأراد أولادنا أن ننصهر في دولة مثل الولايات المتحدة - فما الضرر؟ نحن لهذه المبادئ، ولهذا الهدف.
قلت لصديقي اللبناني الصميم: «أنت وأنا كلانا قومي اجتماعي، موحد الفكر، والغاية والأساليب.
والفرق بيني وبينك أنك تصر على أن يبقى اسمك مكتوما، وأصر على أن أضع توقيعي في ذيل ما أكتب.»
عجين البغضاء
إن من يقرأ آداب اللغة العربية بعينيه الاثنتين، لا بالعيون التقليدية، والذي درس حركاتنا الوطنية بوعي ما تعود أن ينصاع لموض الكلام، يخلص إلى استنتاج هو أن شعوب هذه البقعة من الدنيا أمست تعتاض بالبغضاء - وهي غريزة بهيمية سلبية - عن الوطنية، وهذه شعور، وتفكير، وإنتاج إيجابي. لقد ساهمنا في طرد الأتراك لكرهنا للأتراك، واشتركنا بالحصول على الاستقلال لحقدنا بالأكثر على الفرنسيين، وأردنا أن ننتصر على اليهود ببغضهم وشتمهم وتحقيرهم.
وأنت إن وقفت يا صديقي، واستعرضت أشخاصا تعرفهم وتذكرهم، تتحقق أنهم برءوا نفوسهم أمام ضمائرهم وأمام قومهم بأنهم وطنيون غيورون بسبب بغضهم للصهاينة، ومنهم من اتجروا وتزعموا وباعوا وشروا، أو من اقتصر إنتاجهم على سلبية البغض.
لعل هذا ما يفسر الإفلاس الذي نزل بعد الاستقلال بمن تسموا قادة حكومات وشعوب؛ إذ وضح عند الفوز بالسيادة الخارجية والداخلية أن كل وطنية عجينها البغضاء هي وطنية مزيفة. من فضائل العقيدة القومية الاجتماعية أنها لم تنشأ نكاية بأحد من الناس، ولا لمناوأة فئة أو طائفة؛ لذلك قدرت هي - وهي وحدها فقط، من سائر كل العقائد والمنظمات، أن تصهر في كيانها أشخاصا من كل الطبقات والطوائف والمناطق، وليست هي في ذلك مثل غيرها من العقائد والأحزاب - التي اقتصرت على عشيرة، أو طائفة أو منطقة من الوطن، واستعملت أسماء أشخاص قلائل غرباء عن تلك العشيرة أو الطائفة أو المنطقة، للزينة ولرد التهم.
Página desconocida