Reflexiones: Sobre Filosofía, Literatura, Política y Sociedad
تأملات: في الفلسفة والأدب والسياسة والاجتماع
Géneros
الواقع أن التقليد معنى متفاوت الأقدار، فالاعتدال فيه فضيلة لازمة للرقي والإفراط في تناوله ضرر وسخرية، كالإفراط في غيره من المعاني، وإنهم ليظلمون معنى التقليد إذا أطلقوه على جزئه الرذيل دون جزئه الفاضل، وهو التقليد بعد التدبر وظهور المنفعة منه أو وجه الجمال فيه.
نحن في حالنا الحاضرة وحاجتنا في الأخذ عن التمدن الأوروبي حتى نجمع بين أسباب القوة اللازمة للمزاحمة في الحياة، يجب علينا أن لا نقتل فينا خاصة التقليد المفيد بجعله سبة ، بل على الضد من ذلك، نرانا في حاجة إلى ترويجه حتى نقلد الأمثلة الصالحة من كل نوع فيكثر فينا عددها، دعونا نقلد فعسى أن تبلغ الصورة ما بلغه مثلها الأول، ولا حق لنا في الخوف من أن تقليد غيرنا يقضي على ذاتيتنا؛ لأن التقليد الكامل غير موجود، ولأن كل واردات أوربا متى دخلت مصرنا كسبت صبغتنا وتكيفت بكيفياتنا اللغوية والدينية والأخلاقية، ولا يكون بعد ذلك إلا أن تكسب طابعنا وتصير ملكا تاما لنا، كما أن المدنية التي نقلها العرب عن الفرس واليونان قد أخذت طابعهم وصارت مدنية إسلامية، وما نقله اليونان عن المصريين صار أصلا للمدنية اليونانية مملوكا لها.
التقليد من أصول التطور، والتطور طبيعي لا نستطيع نحن أن نقف في طريقه فهو سيحصل بالفعل، مهما كان استقبالنا إياه استقبال حفاوة أو استقبال امتعاض ومغاضبة، فخير الذين يقفون في طريق تطورنا الاجتماعي أن يريحوا أنفسهم من عناء مصادمة الطبيعة ومن شر الخذلان، بل يجب عليهم أن يساعدوه على أن يأتي بنتيجته السعيدة في أقرب ما يمكن من الزمان.
سر تطور الأمم1
نعم هذه هي رياضتي! كذلك كان جواب هذا النابغة الكبير أحمد فتحي زغلول باشا، وقد دخلت عليه في بيته بهيليوبولس في يوم حر شديد فألقيته يضع شرح القانون المدني وإلى جانبه هذا الكتاب (سر تطور الأمم) وقد فرغ من تعريبه في بضعة أسابيع لازم بيته فيها لمرض أصابه فأشفقت عليه من هذا الشغل الشاق في ذلك الجو المحرق على ما نعهده عليه من رقة في الصحة وعمل دائم طول سنة العمل، وقلت له: أبهذا ترتاض يا سيدي الباشا؟ فأجاب: (نعم هذه هي رياضتي)، فما كانت رياضة في الصيف الماضي إلا أن أخرج لنا من ثمرة عمله وفكره وقلمه القدير كتابين اثنين: تفسير القانون، لم يظهر بعد، وتعريب (سر تطور الأمم) وهو الذي بين يدينا حين نكتب هذه السطور، فنعم الرجل! ونعم ما ينفق فيه وقته وصحته؛ لينفع قومه.
علم فتحي باشا منذ شبابه الفضي أن رقي الأمة لا يكون بالصدفة ؛ ولكنه جهاد غايته فتح معاقل العلم والتربية وحصول الأمة منها على مقادير تسمح لها بالمزاحمة في معترك الحياة العامة فجعل لا يخلي وقته من كتاب يعربه أو كتاب يضعه في الحقوق إذا فرغ من شغله اليومي، وما عهدناه فيه وانيا ولا عنه منصرفا، سواء أكان ذلك أيام يشتغل برئاسة النيابة أم يرأس مجلس القضاء أو كما هو الآن يدير الأعمال ويضع المشروعات في نظارة الحقانية، كذلك يملأ الرجل حياته، وكذلك يعرف كيف ينفع قومه.
يظهر أن فتحي باشا شغوف في المسائل الاجتماعية بأفكار الدكتور (جوستاف لوبون) على الأخص، وله الحق لأن أفكار هذا الكاتب الاجتماعي الكبير هي زبدة المعلومات الاجتماعية القديمة، ونتيجة المشاهدات الحديثة، لذلك كان أقرب الطرق لنقل القوانين الاجتماعية إلى مصر هو تعريب مؤلفاته ومؤلفات غيره من المعاصرين حتى نستطيع أن نعيش في جيلنا عوضا أن نسبح في المعلومات القديمة غير عاملين بنتائج تطورها من حال إلى حال، ألا ترى أننا أخذنا قواعد القانون الفرنساوي الحاضر، وجعلناها قانونا لنا من غير أن نبتدئ بمصدرها الأول وهو القانون الروماني، ولو أننا ندرس الآن الطبيعيات والرياضيات على قواعد اليونان القدماء لما كانت دراستنا لها تساوي شيئا من التعب الذي نصرفه فيها، نحن نأخذ المدنية الحاضرة لنتسلح بقوتها في المزاحمة على البقاء فلنأحذها على آخر طراز لها كما يأخذ فتحي باشا بالقوانين الاجتماعية على آخر تطور لها من قلم الدكتور جوستاف لوبون.
لسنا في مقام تقدير التعريب في هذا الكتاب فإن فتحي باشا معروف القدرة في الكتابة ومشهور الأمانة في النقل، وكتبه في أسواق العلم كاسبة المقام الأول عن استحقاق.
وأما موضوع الكتاب فهو البحث في مذهب المساواة بين الأفراد، وفي طباع الشعوب النفسية أو البسيكولوجية وفي ظهور أخلاق الأمم في عناصر مدنيتها، وفي تاريخ الأمم باعتبار أنه مشتق من أخلاقها، والبحث في أثر المبادئ في حياة الأمم، وتأثير المعتقدات الدينية في تطور المدنية، وشأن عظماء الرجال في تاريخ الأمم، ثم البحث في تحلل الخلق وسقوط الأمم. تلك هي موضوعات الكتاب ، ونحن من جهة أننا أمة ناهضة يفيدنا كثيرا أن نعرف نتائج بحث علماء الاجتماع في قواعد صعود الأمم وهبوطها وعلل قوتها وضعفها، فلا غنى لنا في حالنا هذه عن الاهتداء بهذه البحوث الاجتماعية في عملنا لمصلحة بلادنا، خصوصا إذا رأينا أن هذه القوانين لا يختلف تطبيقها في بلادنا ولا تختلف نتائجها عن أطماعنا.
وأنه ليسرنا أن نرى الكتب التي عربها فتحي باشا وعلى الأخص (روح الاجتماع) و(سر تقدم الإنكليز السكسونيين) قد تمثلت تمثلا حقيقيا في العقول المصرية تشف عنه عبارات الكاتبين في الصحف الذين ليس لهم مرانة بقراءة الكتب الاجتماعية باللغات الأجنبية.
Página desconocida