Reflexiones: Sobre Filosofía, Literatura, Política y Sociedad
تأملات: في الفلسفة والأدب والسياسة والاجتماع
Géneros
على هذا الاعتبار يمكننا أن نقول: إن الحس الصادق الذي يتعرف الجمال من الآثار لا يجوز أن يهمل أمره ويترك للصدفة الصرفة، اعتمادا على أن الذوق ليس في الكتب، بل يجب أن تمرن النفس على رؤية الجميل من الصور والألواح والمصنوعات وسماع الجميل من الغناء حتى يرق شعورها وتحصل لها هذه اللذة التي تأتي من معرفة الجمال وتقديره، فإنها لا تعدلها في صفائها وعلو مكانتها لذة أخرى، لذة ضرورية للفرد نافعة للمجموع.
وأقرب ما يكون هذا المران العملي في زيارة دار الآثار المصرية، ودار الآثار العربية، وزيارة العمارات الأثرية الفرعونية والعربية؛ كالهياكل، والمعابد، والمساجد القديمة، ثم زيارتها في كل فرصة تمكن من ذلك.
يجد الإنسان آثار الجمال في الطبيعة، فإنه إذا صفت نفسه واتسع أفق بصره، وعلت مرتبة إدراكه، يرى الجمال في الطبيعة حيثما أدار عينيه ، يرى في الرياض جمالا، وفي البحر الفسيح جمالا، بل يرى في الطبيعة الجدوب والجبل الأقرع والصحراء الجرداء جمالا من نوع خاص، كما يرى الجمال في بعض الإنسان وبعض الحيوان. غير أن للجمال في نفوس الناس قيدا خاصا يقيدون به معناه العام، وهو جمال الخلقة في بني الإنسان على الخصوص، فإذا أقبلت على أحد الشبان تلقي عليه بغتة هذا السؤال: هل تحب الجمال! تكيف هذا السؤال العام في ذهنه بصورة امرأة حسناء، وكان جوابه عنه مقيدا عنده بهذه الصورة، إلا إذا ألفت ذهنه إلى معنى الجمال على إطلاقه. ذلك أمر مفهوم لا نعنى باستقصاء مصدره في النفس، ولكننا يجب علينا أن نطاوع هذا الاصطلاح العام بعض الشيء في تربية الذوق، ومن غير الممكن أن يوفق المرء إلى رؤية امرأة مثل (زهرة روفائيل) في الجمال، بل قد يكون بين جسم المرأة الحية الجميلة وبين روحها، فوارق واضحة تنقص مقدار جمالها إلى ما دون المرأة العادية، وكذلك الرجل.
أما ذلك التمثال الصامت، فإنه لا يلوح عليه من الآثار المعنوية إلا ما أراد المصور أن يجعله مثلا أعلى للمعاني التي تشف عنها أوضاع الجسم، على أنه من كثير الوقوع أن المرء لا يقصر النظر إلى الأجسام الحية المتحركة على مشاهدة الجمال المجرد، بل قد يشارك معنى الجمال في ذهن الرائي معان شتى تشوش على النفس استطلاع الجمال، وليس الأمر كذلك في رؤية الألواح والتماثيل الجميلة، فإن النظر إليها يكون دائما خاليا عن كل ما يزحم معنى الجمال في خيال الرائي، ولهذا الاعتبار نكاد نقول: إن خير نموذج لتربية الذوق في إدراك آثار الجمال هو استدامة النظر إلى جمال الآثار، وربما كان هذا النموذج هو النموذج الذي اتخذه الناس من قبل عند التشبث بتعلم الفنون الجميلة؛ لأنه لو كانت الطبيعة كفيلة بتقديم نماذج الجمال لاكتفت كل أمة بما لديها من النماذج الطبيعية من غير أن تستعير نماذج الفنون الجميلة من غيرها كما ذكرنا.
لا شك في أن الأمة الأولى أخذت نماذجها عن الطبيعة، ولكن من خلفها من الأمم قد رأى الأخذ عنها أقرب من الأخذ عن نماذج الطبيعة، فإذا كان شباننا المتعلمون يجعلون من بعض همهم زيارة دور الآثار واستقصاء ترقي التصوير والصناعة الفنية فيها من عصر إلى عصر، واعتادوا على ذلك حصلوا لذة لا يحصلها الذين يصرفون وقت الفراغ في غير لذة بريئة، بل في سكون وسآمة، واستفاد منهم المستعد في صحة حكمه عن الأشياء، وزاد علمه بمصر وحبه لها وتقديره تقديرا صحيحا مجدها في المدينتين الفرعونية والعربية، واحترام قومه ونفسه بالتبع، إذ الواقع يشهد أننا لا نعلم من قيمة وطننا ومجده ما يعلمه السائحون، فإذا نحن تتبعنا آثار الجمال وعنينا بجمال الآثار، حصلنا على بزور جديدة تنفعنا في تمصير المدنية الغربية الحالية؛ لأن أذواقنا تكون بعدئذ خليطا مما تعلمناه من المبادئ الغربية، وما كسبته مشاعرنا من التربية الغربية، ومن ذوق مصري ونزعات مصرية مصدرها مشاعر جنسنا الوراثية مضافا إليها المشاعر المصرية التي تتكيف في نفوسنا تكيفا مصريا حقيقيا بالإيغال في تعريف الآثار المصرية فرعونية وعربية.
لا شك في أن آثارنا جميلة ورؤيتها تبعث في النفس الرضى الذي يحصل برؤية الجميل، وخير الفوائد ما وجد منه المستفيد رضى ولذة، فلا يغلو الذي يقول: إن الوقت الضائع هو ذلك الوقت الذي يصرفه أبناؤنا وبناتنا المتروضون في غير مواضع الآثار.
لئن قام عذر علمائنا الأثريين في أنهم لا يظهرون حبهم لنشر معلوماتهم الأثرية بالمحاضرات، فما هو عذر الشبان في هجر دور الآثار التي إن لم يجدوا من يعلمهم فيها، ويوضح لهم جمالها، ولم يستطيعوا أن يستفيدوا مما كتبه العلماء في وصفها وسنها، فلا أقل من أن يدركوا جمالها ويحصلوا لذة رؤية الجميل، إنه لا تتم وطنية المرء إلا إذا عرف أمته قديمها وحديثها، فإن من جهل قديمها فهو مدع في حبها؛ لأن من جهل شيئا عاداه.
ربيع الحياة1
رأيت صباح اليوم أزهار الربيع على أكمل ما تكون، إما في أكمامها وآثار الصحة بادية عليها، وإما زاهية قد مزقت أكمامها وأسفرت من حجابها بين بين، لا هن سوافر خالعات العذار، ولا هن متخذات ستورا من الأكمام والأفنان، أسفرن فكلهن قرة للعين، ولذة للشم، ومبعث لحركات العواطف، لا أعرف عن طريق اليقين الوجه في جمال هذه الزهور، ولكنها في الواقع جميلة، كذلك لا أعرف الصلة الخفية بين رؤية الأزهار وشمها، وبين آيات الحب، جلت حكمة الله أن تتناولها عقولنا، ولكن الاستقراء دل على أن هذا النوع الإنساني منذ نشأ إلى اليوم، يتعشق الزهر ولا يطيب له مجلس لهو إلا إذا كان للزهر فيه المقام الأول منثورا ومنظوما، صحبا أو أشتاتا، بل كلنا يود أن يكون له بستان من زهر، ومن لم يجد هرع وقت فراغه إلى الحدائق العمومية، ومن لم يجد من الفلاحين أعجبه كثيرا أن يقيم وقت أنسه على قرب من زهر الفول، ومن لم يجد اتخذ له صورة بستان أو خيال بستان من الزهر في آنية للفخار يضع فيها القرنفل والورد في شبابيك داره، بل أصبح من القضايا البديهية أن الدلالة الوضعية على رقي أمة عنايتها بالزهر واستمتاعها به، وما هذا الاستقراء التام إلا جاعل نسبا ثابتا بين الزهر وبين الأنس ومسارح العواطف وحركات القلوب.
لقد يسمج التعليل المنطقي في موضوع كهذا خفيف بطبعه لا يحتمل ثقل المنطق ورصانة التدليل، ولكني أستأذن القارئ أن أستدل بهذا الاستقراء على أن الزهر من دواعي التقريب بين القلوب وبين عوامل الائتلاف بين الجنسين، وقد كان دائما مفتاحا تستفتح به هدايا الوداد، بل اتخذت ألوانه المتنوعة وأنواعه المتعددة علامات على المشاعر المختلفة التي لها علاقة بذلك المعنى المعروف بآثاره المجهول بكنهه، وهو الحب.
Página desconocida