ويركز الدكتور عثمان أمين على تأثير زينون في الفلاسفة العرب والمسلمين ويشير إلى ما حفظه الشهرستاني من حكم وأمثال كثيرة منسوبة لزينون؛ فقد ذكر الشهرستاني حكما كثيرة أثرت عن زينون وهي تلائم ما نعرفه من أخلاقه ... ونورد هنا بعضها: رأى زينون فتى على شاطئ البحر محزونا يتلهف على الدنيا، فقال له: «يا فتي، ما يلهفك على الدنيا؟ لو كنت في غاية الغنى، وأنت راكب في لجة البحر، قد انكسرت السفينة وأشرفت على الغرق، وكانت غاية مطلوبك النجاة ويفوت كل ما في يدك ؟» قال: «نعم.» قال: «لو كنت ملكا على الدنيا، وأحاط بك من يريد قتلك، كان مرادك النجاة من يده؟» قال: «نعم.» قال: «فأنت الغني وأنت المالك الآن.» وقيل لزينون: «أي الملوك أفضل: ملك اليونانيين أم الفرس؟» قال: «من ملك شهوته وغضبه.» ونعي إليه ابنه فقال: «ما ذهب ذلك علي، إنما ولدت ولدا يموت وما ولدت ولدا لا يموت!» وقيل له، وقد كان لا يقتني إلا قوت يومه: «إن الملك يبغضك.» فقال: «وكيف يحب الملك من هو أغنى منه؟»
وفي مقامنا هذا لا نملك إلا أن نسلط الضوء في عجالة على بعض مبادئ الرواقية الرئيسة. وأول هذه المبادئ الذي يعد مفتاحا لكل الفلسفة الرواقية هو مبدأ «العيش وفق الطبيعة»:
ad naturam vivere.
to kata physin zein.
وكلمة الطبيعة
natura, physis
تعني هنا طبيعة الإنسان نفسه والطبيعة الكونية؛ ففي إطار الفلسفة الرواقية لا فرق بينهما، وهما متداخلان ومتفاعلان ويشكلان معا كيانا عضويا؛ فالعيش وفق الطبيعة إذن يعني الانسجام والوئام بين الإنسان والبيئة من حوله. وأدعو القارئ الحصيف أن يتأمل الآن فيما يجري في دنيانا الراهنة من تغير مناخي وتلوث البيئة والكوارث الطبيعية المتتالية ...
أفليس هذا كله نذيرا لنا بأننا لا نعيش وفق الطبيعة؟
النار هي خالقة الأشياء، وهي أسمى عناصر الكون. أما النفس الإنسانية فهي من هواء ساخن؛ فهي متصلة بأسمى العناصر وخالق الأشياء أي النار. وأي خلل يصيب النظام الكوني من الطبيعي أن يصيب النفس الإنسانية، التي هي أيضا إذا تعرضت للخلل أصابت النظام الكوني بالخلل. ويتمثل الخلل الذي يصيب النفس الإنسانية في هزيمة العقل أمام العاطفة والأهواء. هذه الهزيمة المنكرة تتجسد شرا مستطيرا في تراجيديات سينيكا؛ فعلى سبيل المثال تعشق فايدرا في المسرحية التي تحمل اسمها (أو اسم هيبوليتوس) عنوانا؛ ابن زوجها الشاب العفيف هيبوليتوس، وعندما يصدها وقبل أن تموت تترك رسالة تتهمه لدى أبيه بأنه اغتصبها. عاطفة مستعرة وشر مستطير حطم الأسرة جميعا والمدينة بأكملها، ثم امتد الشر إلى الطبيعة نفسها حيث خرج من البحر وحش أسطوري لا مثيل له أصاب خيول عربة هيبوليتوس بالجنون، فمزقت الخيول صاحبها إربا إربا ... كوارث طبيعية تصيب النظام الكوني بالخلل؛ لأن العقل داخل النفس الإنسانية تلقى هزيمة فادحة على يد جحافل العاطفة والأهواء الفتاكة.
على أن النار خالقة الأشياء وحارسة النظام الكوني تحرق الأشياء جميعا في حريق كوني هائل
Página desconocida