Me convertí en un dios después de las nueve
وصرت إلها بعد التاسعة
Géneros
مقدمة
البداية
الحلم الأول
الست توحة
الرحلة
الرواية
انقلاب
رحيل الملك
الكواليس
الحلم الثاني
Página desconocida
الرئيس
ابنة القمر
البشرى
قبل النهاية بقليل
وصرت إلها
القرار
التتويج
مقدمة
البداية
الحلم الأول
Página desconocida
الست توحة
الرحلة
الرواية
انقلاب
رحيل الملك
الكواليس
الحلم الثاني
الرئيس
ابنة القمر
البشرى
Página desconocida
قبل النهاية بقليل
وصرت إلها
القرار
التتويج
وصرت إلها بعد التاسعة
وصرت إلها بعد التاسعة
تأليف
محمد السباعي
إهداء
إلى كل ساكن، حتى الموتى يتحركون.
Página desconocida
مقدمة
إن كان من الصعب أن نكون ما نريد، فيجب أن يكون من المستحيل أن نصبح ما يريده الآخرون، ما بين المسموح والممنوع، ما بين الصعب والمتاح، نرتحل سويا بين عبرات الزمان ورغبات المكان، لا تبحث عن الحقيقة بين السطور، فقد تكون الحقيقة في الصفحة الأخيرة، أو في الكلمة الأخيرة، أو في الحرف الأخير.
البداية
رغم عدم رغبتي للذهاب كالعادة فإنني نزلت، وضغطت زرا صغيرا بسلسلة مفاتيحي؛ لتضيء أنوار المدرعة مرتين، مصدرة صفارة تحذيرية قبل أن تفتح أبوابها، ليست حقا أبوابا؛ فلم يكن لها أكثر من بابين، يطلق عليها الأصدقاء العديد من الأسماء: المقاتلة «فلة» أو «فراولة»، ولكن أعتقد أنها تفضل أكثر «فراولة»؛ فكانت سيارتي الألمانية الفولكس المشهورة بلقب الخنفساء، لم تكن تصغرني عمرا سوى بعامين؛ هي من إنتاج عام 1967، ربما لهذا السبب أحبها.
ربطت الحزام، رددت الأدعية المعتادة: «سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين وإنا إلى ربنا لمنقلبون.» وأيضا لم أنس قول: «بسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم.» ثلاث مرات وتوكلت عليه.
أدرت السيارة لأسمع صوت «الزقزقة» فتتهلل أساريري، أدير الصوت، وطبعا لهوسي التكنولوجي فلدي قارئ أسطوانات وقارئ للذاكرة الومضية، وأخذت أقلب بين الأغنيات حتى توقفت على صوت فيروز وبدأت أردد معها أثناء التحرك: «يا لووووور حبك قد لوع الفؤاد، وقد وهبتك الحب والوداد، ألا تذكري ملاعب ال...»
ألا تذكري، أحب هذه الكلمة! تذكرت سبب خروجي اليوم، سنتقابل عند «جوفيال» لنشاهد فيلما يقول إنه عبقري «واج ذا دوج ؟» عقدت حاجبي محاولا التذكر، هل نطقت الاسم بشكل صحيح أم لا: «واج، باج، تاج، ماذا قال لي؟ دلل الكلب؟ قلع الكلب؟ هشك الكلب! نعم هشك أمه ...» ضحكت.
مع اقترابي من بيت «جوفيال» أخذت أراجع كل ما أذكر من المعلومات حول الفيلم، إنتاج 1997 «روبرت دي نيرو» و«داستين هوفمان»، المخرج «بيري ليفنسون»، إنتاج «ليفنسون» و«دي نيرو»، تضايقت قليلا فلم أتذكر اسم مهندس المناظر رغم أن الطبيعي ألا أتذكر سواه! لم أهتم بمعرفة قصة الفيلم؛ فسأشاهده، ولكن أهتم دوما بالتفاصيل والتوثيق.
اقتربت من بيت صديقي، وأنا أعد نفسي بألا أتأخر؛ فالغد سيكون يوما طويلا، لا أريد التفكير فيه الآن (هكذا تمتمت لنفسي). صعدت للطابق الأول، ابتسمت ليافطة نحاسية مكتوب عليها باللون الأسود: «عماد السيد»، وبالأحمر «مخرج»، وتذكرت أول مرة علقها على باب شقته، بعد عرض فيلمه الأول؛ وأقصد الأول للعرض وليس الأول في الإخراج، تذكرت الفيلم «بلح زغلول» عن ثورة 1919، والذي اعتبره النقاد فيلما «قوميا»، وقيل فيه «رؤية جديدة»، رغم أننا نعتبره بما فينا عماد جوفيال نفسه فيلما تجاريا أو «أكل عيش».
ابتسمت مرة أخرى وطرقت الباب ثلاث مرات، مرتين، مرتين، مرة، فتح الباب، العصابة كلها هنا؟ هكذا صحت عندما فتح الباب «أبو علي»، صافحته بحرارة قائلا: «وحشتني يا بقبق، بقالي ييجي 3 ساعات ماشفتكش ...» ضحك حسن عبد العال الكاتب والسيناريت قائلا: «إنت جيت يا سحلف! قلنا هاتعمل فيها ميت كالعادة ...»
Página desconocida
أدخلني ويده على كتفي «الحق بقى بقية العصابة قبل ما يخلصوا التموين» ضاحكا قالها. سلمت على عماد قائلا: «إزيك يا ابن السعاتي؟» ضحك قائلا: «يا واطي، انس بقى ...» ابتسمت: «العيال الصيع دول عاملين إيه معاك يا شاعر؟» محدثا صديقي أحمد شنن الشاعر: «صيع، هانعمل إيه يا هندسة!» هكذا رد. فقلت مشيرا لكوفيته الحمراء الشهيرة: «وحياة امك طول ما انت لابسلي كوفية الشيوعيين دي ما انت فالح.»
تلفت حولي باحثا عن الضلع الأعوج الذي يكمل العصابة؛ محمد شعراني، مهندس العمليات القذرة كما نسميه: «أومال فين أبو شعرة؟ بيعمل شاي ولا زانق الشغالة في المطبخ؟» ضحك الجميع ورد جوفيال: «لا طلعة شاي، الشغالة روحت؛ كانت مطبقة ورديتين ...» وتقريبا خرج شعراني من المطبخ حاملا صينية عليها أكواب الشاي: «سمعت صوتك يا وسخ من جوه. شغالة مين يا رمرام ...»
ضحكت بصوت عال ناظرا لجوفيال: «الكلام إلك يا جارة، حقك عليا يا أبو شعرة، هاتفرجونا على إيه في ليلتكم السودا دي؟ ما تحط يا عم دلع الكلب ولا هشك الكلب اللي قرفتونا بيه ده؟» جلسنا جميعا، وقام شعراني بإغلاق النور، بينما جوفيال يدير أسطوانة الفيلم.
ارتحت قليلا في جلستي وتأملت وجوه أصدقائي، وعلى وجهي ابتسامة شجن رقيقة؛ فبرغم طول علاقتنا، ورغم اختلاف مجالات الدراسة؛ فعماد طبيب جراح لم يمارس الجراحة بعد الامتحان العملي للدكتوراه، وحسن خريج زراعة قسم محاصيل، وأحمد الذي نعتبره «اللي فلح فينا» خريج آداب قسم إنجليزي، وشعراني خريج حقوق، وأخيرا أنا مهندس معماري وانتهى بي الأمر كمهندس مناظر ومدير إنتاج، وسر ابتسامتي هو أنني تذكرت كما جمعتنا الدكتان الأخيرتان في المدرسة الإعدادية غربتنا السنون وحملتنا وحطتنا، لنلتقي جميعا في فيلم جوفيال القومي «بلح زغلول»، كانت فكرة شعراني أن نعمل جميعا سويا أو نجرب أو أي شيء «المهم نكون مع بعض.»
بدأت مقدمة الفيلم الذي لم أدرك حينها أن هذا الفيلم المأخوذ عن رواية (البطل الأمريكي) ستشكل جانبا كبيرا من مستقبلي، بل مستقبلنا جميعا أنتم ونحن.
بدأ الفيلم وسط سحابة دخان؛ فجميعنا من المدخنين، والجميع مترقب؛ فكلنا سمعنا عن الفيلم ولم يقرأ أحد منا الرواية الأصلية، فلم نكن ندرك بعد أن تلك الرواية ستكون الكتاب الأسود للفترة المقبلة، ورغم أن الفيلم مصنف كفيلم كوميدي فإننا لم نتعامل معه على هذا الأساس رغم ضحكاتنا المتناثرة بين الحين والآخر، فكل منا تناول القصة من منظوره الخاص، وغاص في أحلام يقظة، أو هكذا بدا علينا.
انتهى الفيلم وأضيئت الأنوار، ونظرنا جميعا لشعراني وعلى وجوهنا ابتسامة بلهاء، وبدأ شنن محدثا شعراني: «ماتقوم تشوف البت الشغالة جت ولا لأ يا معلم.» ضحك الجميع واستمر الضغط على شعراني حتى استسلم لمصيره وذهب لعمل المزيد من الشاي.
تلاقت نظراتنا أنا وعماد وحسن وكأننا التقطنا شيئا ما من الفيلم، «الفيلم جامد أوي.» هذا ما قاله عماد رافعا حاجبه، ليرد حسن بسرعة: «لأ سافل بعيد عنك.» كالعادة ضحكنا، وكلما حاول شنن الحديث صددناه بقولنا: «بس يا شيوعي.» حتى جاء شعراني بالشاي مسمما أبداننا بعبارات التقطيم، وكيف أنه الشمعة التي دوما تحترق لتضيء لنا الطريق.
ودار بيننا حديث مطول حول فكرة الفيلم وكيفية التناسق بين الدور الاستراتيجي ل «دي نيرو»، ودور المبدع ل «هوفمان»؛ بالفعل أبرز هوفمان مساحة جديدة من الدور الإبداعي للمنتج فأغلب - حتى - العاملين في المجال ينظرون للإنتاج «كزكيبة الفلوس»، ولا يمكن تجاهل أنه أيضا بخيل.
ثم انتقلنا للحديث في العمل كالعادة، وبدأ عماد بتلقيني التعليمات وأخذ يستحلفني بأمهات المسلمين وأمهات الكتب ألا أتأخر غدا عن التصوير، وكلما سألني: «هي المناظر جاهزة؟» أجيبه: «ما تقلقش.» وطبعا على وجهي الابتسامة «اياها»، ولم أفصح لعماد بأي شيء عما قمت به للوصول لتلك المناظر والمجسمات. «بتوع الملابس بيشتكوا منك يا هندسة.» رفعت حاجبي لعماد: «دول شوية صيع، إحنا متفقين على ملابس للجيش البريطاني بعد الحرب العالمية الثانية، لما يجيبوا هدوم بتوع الفايكنج ويقولولي: عايزين فلوس، ابقى راجل لا مؤاخذة لو اديتهم مليم، ولا انت شايف إيه يا فنان؟!» واستمرت المناكفات حتى انتهينا من الشاي، وكل من ينتهي من كوبه يشكر عماد، ويصرخ شعراني: «يا ابن الكلب، هو عماد كان هو اللي عمل الشاي؟» ونضحك كثيرا ونكررها الواحد تلو الآخر، حتى انتهت الأمسية ومشينا جميعا.
Página desconocida
عدت لسيارتي الحبيبة، أدرت صوت فيروز مرة أخرى وانطلقت، كانت الساعة قد تجاوزت منتصف الليل بفترة كافية لتناثر اللجان بالقاهرة، ومررت بلجنة مبتسما فطلب مني شخص «ما» الرخص، فقمت بإبرازها ليأخذها بعصبية، ينظر بها كمن يتعلم القراءة، سألته: «خير فيه مشكلة؟» فرد بعنجهية: «اركن وانزل من العربية.» لم تعجبني المعاملة فأجبت مبتسما: «لا مش هاقدر انزل؛ أصلي قالع البنطلون.» نظر لي بغضب شديد قائلا: «على فين إن شاء الله يا باشمهندس ؟» أجبت: «على حزب الريح، هو يفرق مع حضرتك ايه أنا رايح فين؟» فرد متظاهرا بالبرود: «لما اسألك تجاوب طوالي، مش ناقص غير تقول لي انت ماتعرفش بتكلم مين؟» فقلت: «لا مش لازم أقول، بكرة إن شاء الله زي دلوقتي كده هاتعرف أنا مين، ويا ريت الرخص عشان مش ناوي اكمل السهرة هنا.» ربما حدة لهجتي وترته بعض الشيء لأنني وجدت الرخصتين في يدي الممدودة، شكرته ومضيت مرة أخرى في طريقي.
خففت من سرعتي مع اقترابي من الكوربة حيث أسكن، لم يكن سكني الأصلي؛ فبعد وفاة والدي تركت بيت العائلة لأختي الصغرى لعدم حاجتي إليه، أو لاقتناعي بأنها أولى به مني؛ فهي متزوجة ولديها محمد ومريم. أعتقد أني تركته لها بسبب مريم؛ فلم أتعلق بطفلة مثلما تعلقت بتلك الطفلة، لم يكن بيت العائلة بعيدا؛ فكل أحداث حياتي كانت تدور حول الكوربة. ابتسمت حين تذكرت السمسار الذي مكنني من شقتي الحالية؛ فقد طلبت منه في البداية غرفة بأي سطح من أسطح «بواكي» الكوربة، وحين طلب بطاقتي ووجدني مهندسا ارتاب وظن أنني هارب من حكم قضائي، وحاول أن يزيحني عن فكرة غرفة السطح لثلاثة أشهر تقريبا، وأعتقد أنه نجح؛ فقد شعرت أنه من العلاقات التي يجب قطعها.
دخلت شارع البوستة حيث أسكن فوق مكتب بريد مصر الجديدة، تعجبني التجديدات التي حدثت لمكاتب البريد، وحتى العاملين بالبريد أشعر أنهم تجددوا أيضا؛ فلم تكن تلك الابتسامة الودودة موجودة قبل اللونين الأخضر والأصفر اللذين أصبحا سمة مكاتب البريد الآن. لم أرهق نفسي بالبحث عن مكان لترك سيارتي، لكني مسحت الشارع الضيق بعيني سريعا؛ فربما أضطر لمليون قسم في الصباح للأستاذ منير مدير المكتب. توقفت بجوار مدخل المكتب ونزلت أزيح الأقماع المخططة بالأبيض والأحمر، وحرصت على وضعها أمام باب المكتب، وتركت سيارتي مكانهم وصعدت السلم بتكاسل حتى وصلت لشقتي.
فتحت الباب على صالتي الصغيرة، وشعرت بالراحة حين طالعت أريكة أمي التي احتفظت بها، لم تطل ابتسامتي ودلفت لحجرة نومي، وهي الحجرة الوحيدة بالبيت، ونقلت فيها حجرتي كاملة من بيت أمي كي لا أشعر بأي غربة، حين وصلت لسريري كنت قد رسمت مسارا لحركتي من حذائي المخلوع والجاكت، وتهاويت على السرير.
زارني رجل المباحث باللجنة في نومي عدة مرات بابتسامته الخبيثة ومعطفه الصوفي الأسود بلا داع، لم أدرك أن لعب دور الكهنة وأنصاف الآلهة هو جزء من تركيبة المؤسسة، لم أكن أعرف شيئا عن المؤسسة. •••
دقات متوالية وصوت «عم رمضان» يدوي بلكنته الصعيدية الجميلة: «يا باش امهندز، يا باش امهندز ...»
قمت كالرجل الآلي؛ فقد تعودت على «فزعة» الثامنة صباحا منذ انتقلت لهذا البيت، خطفت مفاتيح السيارة بدم بارد وعين شبه مغلقة. - صباح الفل يا عم رمضان. - يا باش امهندز، الأستاذ منير أرمانيوس بيجول إني ماعشوفش شغلي وعايجيب بواب تاني، يرضيك اكده؟ - صباح الفل يا عم رمضان، لا هو هايجيب بواب ولا انت هاتمشي، اديله المفاتيح وقله كلمتين وأنا هابصله من البلكونة، انزل يا راجل يا عجوز دا انت تاكل دماغ بلد، خليه يقفل العربية كويس.
لم أر ابتسامة «عم رمضان» الشقية والبريق الذي يطل من عينيه لإطرائي، لكني أعرف جيدا حين يتحول هذا الوجه العجوز العبوس الدائم الشكوى لوجه طفل صبوح تفوق في مدرسته ويبتسم بخجل لإطراء أهل البلد عليه، لم أره مرتديا سوى الجلباب الأبيض وتعتلي رأسه عمامة ضخمة، وسمار لونه من سمار أهل أسوان أو النوبة، ولكنته ما بين سوهاج وأسيوط، وقدرته التآمرية تميل لما بين بني سويف والفيوم، وقدراته الإجرامية لا حدود لها، كلما أسأله: «إنت منين يا عم رمضان؟» يرد: «من بلاد الله يا باش امنهدز عاتناسبني ولا إيه؟!» وتتكرر تلك الجملة الحوارية كلما ناديته ليشرب معي الشاي في تلك الشرفة الواسعة، فيعد الشاي ويفرش سجادتي المصنوعة من صوف الخراف (كليم) ويجلس متكئا على إحدى رجليه وساندا كوعه على ركبة الأخرى، لنبدأ بتلك الجملة وننتهي بها، ولم أكن أعرف وقتها أيضا أن «عم رمضان» لم يكن من الصعيد أصلا. - أنا آسف يا أستاذ منير، والله ما كان في مكان اركن، قلتها صائحا ورافعا يدي معتذرا. - يا باشمهندس مايصحش؛ حضرتك عارف عربية الطرود بتيجي بدري، واحنا مش عايزين مشاكل مع حد. - معلش يا أستاذ منير، لو مش هاندلع عليك هاندلع على مين بس! جملتي الختامية المعتادة لأستاذ منير. - اتدلع يا سيدي اتدلع.
أغلقت باب الشرفة وتسللت للسرير مرة أخرى ورميت نفسي كالأطفال، وقدماي في الهواء، رافعا ذراعي بجوار رأسي، وأكملت نومي مرددا: أنا مش هنام؛ ربع ساعة واقوم اكلم الورشة واشرب شاي وانزل، أنا مش هنام، أنا مش هنام ... وسقطت في نوم عميق.
الحلم الأول
Página desconocida
كنت أحلم بسيدة وابنتها، كلتاهما آية في الجمال، كنا في منزل، لا أعرف أي منزل، في البداية لم أتعرف على ملامح السيدة ولا ابنتها، كنا نتحدث، وكانت هناك طاقة غريبة تحيط بغرفة الجلوس الإنجليزية الوثيرة، المكسوة حوائطها بالمكتبات من الأرض للسقف، لا يقطعها سوى باب الغرفة وشباك يقابله؛ مكتبة مليئة بعجائب الكتب، لا أذكر منها شيئا، لكني أذكر دهشتي كلما لمحت عنوانا منها.
كانت السيدة برغم أناقتها وعذوبتها، تشعرني بأنها عرافة غجرية تقرأ الطالع، وبرغم هذا الشعور لم أقاوم ابتسامتها وهي تقدم لي فنجان الشاي، ناولتني إياه وعيناها مثبتتان في عيني تمسمرني في مقعدي الجلدي، كنت أراني وأندهش مني في الحلم، فقد كنت مسلوب الإرادة تماما، مددت يدي لتناول فنجان الشاي فلامست أصابعي طبقا صينيا مزججا باردا تشع من مركزه حرارة من قاع الفنجان، ولامست شيئا آخر ربما أصابعها، فسرت رعشة في جسدي تشبه تنميلة الكهرباء الخفيفة، ولم يطرف جفني، شعرت بأن هناك قوة شريرة تسيطر علي، وكدت أجزم بأن الشاي مسموم.
ظهرت ابنتها من خلفها مستندة على باب الغرفة، فزعت من تقارب الشبه وتقارب العمر أيضا، توقف الزمن على تلك الصورة، كل شيء توقف حتى الأنفاس، والفتاة تتحرك وحدها في الصورة بجسدها الذهبي الممشوق والمسدل عليه ما يشبه الدثار أو الشال من الكتان الأبيض الشفاف، لم تكن ترتدي أي شيء غيره، مفتوح من الجانبين، فكلما تحركت ظهرت ساقها بردفها، كانت تتمايل وتنظر لي بإغواء لم أر مثله من قبل ؛ فكانت عيناها تمد سلاسل الفولاذ لتحيطني وتطرحني أرضا، كنت أحدق بها وما زالت يداي ممتدة ممسكة بفنجان الشاي وملامسة لأصابع أمها، وأمها محدقة في نظرات الجوع بعيني بمنتهى الرضا.
لماذا تحاولان إغوائي؟ فأنا لا أملك شيئا يذكر، صعقت؛ فقد كانت أفكاري تتردد في الغرفة بدوي مذهل، أشعر بوجهي يحترق من الخجل، خفضت نظري بعيدا عن تلك الحورية، لتتلقفني نظرات أمها التي زادت إشراقا وتوهجا قائلة دون أن ينفرج ثغرها: «بل تملك.» وضحكت الفتاة بتقطع مبتذل. أربكني صوت المرأة، بل قطعني لنصفين يملؤهما الارتباك، لتتلاعب بهما تلك الضحكات المتقطعة، وددت لو يحدث أي شيء يلملم ما تبعثر مني، وانتفضت على انهيار جدران الغرفة وظهور كائنين يشبهان المسخ الشيطاني من وسط أدخنة ملونة كالتي نستعملها في المؤثرات، الغريب أن شكلهما كان كرتونيا مضحكا إلا أنه أصابني بفزع رهيب، انتفضت من مقعدي برجفة، فعلوت عن المقعد وسقطت مرة أخرى على سريري فاتحا عيني كفم ذئب يعوي.
وجدتني أتنفس سريعا فقمت من السرير بعصبية وغضب وخوف، هرعت للثلاجة، وفتحتها بعصبية، لا أعرف ماذا أوقعت وأنا أسحب زجاجة الماء، لم أفق من فزعي حتى أفرغت الزجاجة بالكامل بجوفي.
الست توحة
وقفت مستندا لباب المطبخ موجها نظري للأرض حتى تبينت ملامح البلاط الموزاييك المزركش، وأنا أتصبب عرقا، وكلما ركزت أكثر أرى تلك المخلوقات الكرتونية المضحكة، وابتسمت عندما تذكرت كم الفزع، عدت لغرفة نومي، الساعة التاسعة والنصف وقد ظننت أنني نمت لعدة أيام.
عدت مرة أخرى للمطبخ وأشعلت الموقد، وضعت بعض الماء ليغلي بينما جررت كوبا زجاجيا ووضعت فيه ملعقة ممسوحة من الشاي وثلاث ملاعق من السكر البني، وأخذت أقلب في الأرقام بهاتفي المحمول بحثا عن رقم الحاج إبراهيم عبد الرحيم، واتصلت به. - أيوه، سلام عليكم يا حاج إبراهيم. - أهلا يا كبير. - الله يخليك يا حاج، طمني أخبارنا إيه؟ التصوير النهارده. - عيب يا كبير، هو أنا عمري قصرت رقبتك في أيها شغل قبل كده؟ - قوللي طيب ابعتلك العربية إمتى؟ - هاقولك يا كبير، اديني ساعتين كمان وابعتها، فاضل بس مدرعتين ودبابة اترشوا ولسه ماعضموش. - ساعتين وهاكلمك يا حاج، سلام عليكم.
صببت الشاي وخرجت من المطبخ لغرفة النوم مرة أخرى، لا أعرف متى فتحت الشباك لكن الضوء ضايقني، شعرت بوخزة في عيني من الضوء، وضعت كوب الشاي على طاولة صغيرة لأقفل الشباك، فوجدت جارتي «توتي» بملابسها الثورية المتفجرة، والمتحررة أيضا، فلملمت الشيش قليلا كي أراقبها، وكعادتها لمحتني، وابتسمت مرسلة نظرة دلال مع كل حركة، أعرف أنها تراني، ولم ألملم الشيش كي لا تراني؛ بل لأراقبها دون أن ترى عيني وأنا أتفحصها، كانت تغير ل «هاني» ملابسه، وهاني هو ابنها الأوسط، كما لديها ثلاثة صبية، لديها ثلاثة أسماء، وحين أراقب أبناءها أشعر أن كل اسم هو الأم الشرعية لهذا الصبي؛ فعبد العزيز هو ابن الحاجة فتحية ومعروف في الشارع ب «زيزو»، وهو مراهق مشاغب دائم العراك، أراه طفلا كبيرا «مدهول» لكنه طيب القلب، ومصطفى هو ابن الست «توحة» وما أحبه في هذا المصطفى أنه «عايق» بغض النظر عن ألوان ثيابه والتركيبات القوية التي تختارها الست «توحة»، إلا أنه دائما نظيف، لامع الشعر، تفوح منه رائحة زيت الزيتون، وهو الوحيد الذي أراه ينام بملابس نوم عكس أخويه، أما الأستاذ هاني أو «ننوسة عين أمه» كما تناديه أمه «توتي» فهو نواة جيدة لصبي مدلل دلال البنات، لكنه الوحيد الذي يحمل ملامح أمه، أما أنا فأراها بشخصياتها الثلاثة أنثى، وأسميتها «نواعم».
لم أقابل زوجها؛ فقد رحل عنها قبل أن أسكن هنا، يقال إنه هجرها منذ ولادة هاني؛ أي منذ أربعة أعوام وعدة أشهر هم عمر هذا الصغير المدلل.
Página desconocida
كانت تلتفت كل حين لتمنحني ابتسامة دلال، تذكرت أول يوم لي في هذا البيت وكنت و«عم رمضان» نقوم بتوزيع ما حملته معي من قطع أثاث في نهار يوم حار من أيام أغسطس، وكان الشباك مفتوحا وجميع شبابيك الشقة المقابلة مفتوحة، ولمحت امرأة مكتملة النضج، وأقصد النضج الأنثوي، كانت ترتدي قميص بيت عاري الصدر والظهر، وقصيرا، وضيقا، ولامعا، وأحمر، وكانت بداخله تشبه التينة الغضة الناصعة البياض، كان شعرها ثقيلا وكالح السواد، تشبه أو تحاول أن تشبه «هنومة» في باب الحديد؛ الأنثى التي لم تستوقفها المدنية ولا تعرف عن أنوثتها سوى إظهار مفاتن جسدها المرمري، لم تكن رفيعة ولا ممتلئة، كانت يونانية القوام مكتملة التفاصيل دون إسراف، منذ اللحظة الأولى امتدت الجسور بيننا، ربما شعرت بنظرة التفحص الأولى وأعجبتها النظرة وصاحبها كما أعجبته، حتى «عم رمضان»، وكانت بداية علاقتي به والتي حاول جاهدا فرض سيطرته بها، لاحظ تلك الجسور الممتدة بين الشباكين فقال لي وقتها: «لا يا باش امنهدز؛ دي الست «توحة» جارتنا، والبيوت أسرار يا بيه.» ولما سألته عما يعنيه تهرب مني، فشعرت أنه فقط يستعرض عضلاته، ومنذ ذلك اليوم ونحن نتبادل النظرات والابتسامات، وتمارس هي كل فنون الإغواء عن بعد، فتفتح كل النوافذ وتمسح بلاط شقتها نصف عارية، أو تبدأ في تغيير ملابسها والنافذة مفتوحة، وتدعي أنها انتبهت فتأتي شبه عارية لتغلقها بإغواء يفوق الآفاق، وتمنحني ابتسامتها ونصف الغمزة، أعتقد أنها تستمتع بمراقبتي لها وبلعبي الكرة مع زيزو وفض اشتباكاته مع أبناء الشارع كلما صادفته.
اقتربت من النافذة المقابلة لي ووقفت بمواجهتي ودفعت بالشيش لتفتحه على مصراعيه، لم أشعر أنها تقوم بما اعتدنا عليه دوما، شعرت أنها تريد المواجهة ففتحت الشيش على مصراعيه بدوري، ورجعت خطوتين للخلف كي لا يراني سواها، وأشعلت سيجارة محدقا فيها وكوب الشاي بيدي، كنا نشبه صنايعي في ورشة يوم القبض يغازل بنتا في دبلوم التجارة أثناء مرورها بالورشة التي يعمل بها، ابتسمت حين نظرت لملابسي لأتأكد أنني لا أرتدي قميصا من المربعات الصغيرة، ولست مشمرا عن ذراعي فاتحا أزرار القميص لأريها شعرات صدري الكثيفة، لا أدري لم شعرت أنها انتابها نفس الشعور، ولأول مرة منذ عرفتها بدأت في الإشارات.
أخذت تشير على يدها مكان الساعة، ثم تشير بسبابتها بحركة نصف دائرية، ثم تشير بسبابة على نصف السبابة الأخرى، ثم تشير للشارع، حاولت لعب دور من لم يفهم فرمقتني بحدة، وأعادت تأكيد الموعد في الشارع بعد نصف ساعة، وتظاهرت بالسعادة والموافقة، لم أتظاهر في الواقع بل كنت فعلا سعيدا بهذا الموعد وغرابته؛ فأخيرا قد أتمكن من معرفة رائحة شعر «نواعم».
ابتسمت مرة أخرى وأغلقت النافذة، أغلقت نافذتي بدوري، ونظرت في الساعة، وجلست على السرير أنفث الدخان لأعلى في الهواء مراقبا تشتت خيوطه، تحولت جلستي للتمدد وأطفأت السيجارة، بل ألقيتها في كوب الشاي الفارغ، وشبكت يدي خلف رأسي مستندا على ظهر السرير ومحدقا في سقف الغرفة، وأكاد أكون اخترقته فلم أعد أراه.
انتبهت على صوت جلبة عالية في الشارع، فقمت مفزوعا، وكأنه يوم الفزع بالنسبة لي، نظرت للساعة أثناء ذهابي للشرفة، فوجدت أنني تأخرت بالفعل عن الموعد ربع ساعة، فتحت الشرفة بسرعة لأجد «توتي» قد تحولت «لفتحية» وهي تصرخ في رجل يشبه المجذوب بالشارع، وأغلب الجيران يحاولون تهدئتها وهي تستحلفه وتتوعده صارخة ومكررة: «وديني لاعرفك مقامك ...» لا أعرف لماذا شعرت أنها توجه صريخها لي، وانفلتت من وسط الزحام مكررة جملتها التهديدية، واختفت بسرعة داخل عمارتها.
وبدأت الناس تنفض، والمجذوب يقف مذهولا مثلي تماما، فقد عرفت أني قد ضيعت فرصة ذهبية للاقتراب منها، لم يستمر ذهولي كثيرا؛ فقد خرجت «فتحية» من شرفتها، وهي تكرر نفس الجملة ولكن تلك المرة لي، وعيناها في عيني، وبيدها أنبوبة غاز صغيرة من التي تستعمل في تشغيل المصباح الغازي (الكلوب)، ورفعت يديها بالأنبوبة، وكدت أصرخ من جنونها، فستحدث انفجارا في الشارع، وقد تقتل الرجل، رفعت يدي في الهواء في محاولة لا شعورية لإيقافها، لكنها كانت أسرع من حركتي اللاشعورية وألقتها.
تابعت الأنبوبة بعيني لكنها لم تكن موجهة ناحية الرجل، فحمدت الله، فسوف تسقط في الشارع مدوية وينتهي الأمر، ثم فزعت؛ فقد كانت موجهة لسيارتي الصغيرة، حطمت الزجاج وانفجرت داخل السيارة، وأنا رافع حاجبي للسماء من الذهول، والتفت إليها بكل الذهول والغضب، فتلاقت أعيننا، واستشاط غضبي حين رأيت نظرة النشوة في عينيها، نشوة المنتصر، وهي تحاول إخفاء ابتسامتها صارخة: «يا لهوي!» وهرعت مفزوعة من الشرفة.
لم أتبين ما ارتديته، سحبت هاتفي، ومفاتيح السيارة، نزلت قافزا بين السلالم، وخرجت للشارع، وكانت السيارة بين العمارتين، خرجت هي في اللحظة نفسها، والجيران يحاولون إطفاء الصالون المشتعل، والأستاذ «منير» يصيح بهم أن يبتعدوا ممسكا بطفاية الحريق الخاصة بسيارته، محاولا فتحها أثناء صريخه، وفتحها ورش تقريبا كل المجتمعين حول السيارة حتى وصل إليها، وأخمد نيرانها لكنه لم يتمكن من إخماد نيراني.
وصلت معها للسيارة، الجميع يحاول تهدئتي، وهي تحولت من قمة الغضب والتوعد لقمة التوسل والاعتذار، وأنا ما زلت مذهولا من فعلتها، أصرت أن تذهب معي لتغيير الزجاج، وإصلاح صالون السيارة، وأنا كنت أريد الابتعاد عن الزحام بأي شكل وسط العبارات المهدئة لي، واللائمة لها، وبدا علي الانصياع لرغبتها تحت ضغط الجمع الغفير، نظرت للأستاذ «منير» شاكرا دون أن أنطق، وفتحت السيارة وجلست وجلست هي بجواري، وانطلقت دون أن أنطق أيضا.
خرجت من الشارع، وصلت للمترو وانحرفت يمينا، ولم ينطق أي منا حتى وصلت لجوار سينما نورماندي، وبازليك الكوربة في مواجهتي، لم أنطق أنا بل ازداد ذهولي حين وضعت يدها على يدي فوق عصا السرعات، فنظرت إليها فوجدتها تنظر إلي مائلة بجسدها حتى كدت أسمع دقات قلبها، وسمعت صوتا عذبا، يختلف عن الصريخ المعتاد في الأطفال، وفي «عم رمضان»، وفي المجذوب، لا أعرف إن كانت تهمس، أم تتأوه قائلة: «حقك عليا، ماتزعلش مني، لما ماجيتش خفت ماتجيش، وكنت ممكن أولع في الشارع كله عشان أقابلك النهارده.»
Página desconocida
لا أعرف أين هرب غضبي من سماع تلك الهمهمة، وأين هربت دمائي من لمسة يدها ليدي، وجدت كلمات تتساقط من فمي تشبه الفحيح. - إنتي مجنونة؟ - هو انت شفت جنان لسه! (قالتها وهي تعتدل فكدت أرى ركبتها.)
مررت بعيني على جسدها بالكامل، وأنا أنحرف بالسيارة بعد البازليك، ولمحت مكانا شاغرا فتوقفت بالسيارة ونظرت إليها، كانت ترتدي فستانا من المخمل الأسود والبني، كان ذوقها شعبيا إلى حد كبير، خاصة المشغولات المرسومة على الفستان، الذي كان قبل جلوسها بجواري تحت ركبتها بقليل، وشال أسود منسوج تغطي به صدرها، وحين وصلت عيناي لرقبتها، رفعت الشال لتظهر خصوبة نهديها ببياضهما الرخامي، ببروزهما خارج فتحة الفستان، لم أر هذا الجزء من الفستان شعبيا على الإطلاق.
انفرجت شفتاها عن ابتسامة ماكرة، وهي تراني أتفحصها، نزلت بعيني أكثر، مررت ببطنها ونزلت لطرف الفستان، الذي ارتفع فوق ركبتها بقليل، كان بياض لونها أخاذا، وسيقانها تلمع نعومتها، واستمرت عيناي في النزول، لصندلها الأسود اللامع ذي الكعب العالي، والشريطة الحمراء اللامعة بفراشة برتقالية، لتظهر أصابع قدميها بأظافرها المطلية بلون أحمر قان بعناية شديدة، ومقلمة بعناية أشد.
لم تستغرق تلك النظرة أكثر من جزء من الثانية، لكن كل التفاصيل قد حفظتها في ذاكرتي، رفعت عيني لوجهها وكأني أراها لأول مرة، كان جمالها ريفيا؛ العيون الواسعة، السوداء، المكحلة، الأنف الدقيق المرتفع بعض الشيء، والشفتان الممتلئتان قليلا والملونتان بالأحمر، وذقنها الدقيق، الذي يذكرني بالنقطة في نهاية السطر.
كان شعرها منسدلا بسواده، وثقله، ويلوح فوقه طيف أحمر، استمرت نظرتي مدة أطول، لم يفقني من تأملاتي سوى وخز في جسمي كله، فانتبهت أننا جلسنا فوق الزجاج المكسور، والكراسي المحترقة، فنظرت بشكل تلقائي لنفسي، فوجدتني بالجينز، وحذائي الخفيف بلا جوارب، وقميص أبيض مقلم بأقلام رفيعة، أزرق وبني، شعرت بالبرد؛ فما زلنا في نهاية شهر يناير، ولا يصلح قميصي أبدا لمثل هذا الجو، سحبت يدي من أسفل يدها، وشعرت بأنني استرددت عافيتي من تأثير الصدمات المتوالية. «بقولك إيه، تعالي ننزل بس ننفض القزاز المكسر ده.» قلتها ونزلت، وبدأت في تفحص السيارة للمرة الأولى، أو هكذا كنت أحاول أن أبدو، لكن في الحقيقة كنت أريد رؤيتها واقفة. - حاضر، أنا آسفة والله (قالتها ونزلت).
حاولت إزالة الزجاج بسرعة بلا فائدة من كرسي، ودرت حول السيارة لأذهب ناحيتها.
وقفت فكانت محاصرة بيني وبين السيارة، ويمنعها من الهرب الباب المفتوح، لم تحاول الهرب في الحقيقة، بل وقفت مبتسمة في توسل، وأخذت تردد الاعتذارات، ولم أكن أسمع ما تقول، بل كنت مستمرا في معاينة المجنونة التي أشعلت سيارتي، وأشعلت معها رغبتي.
كانت فارعة الطول، وممشوقة بتناسب مثير، كانت تظهر عليها كل علامات العناية بمظهرها، ملت بجسدي قليلا لأنظف الزجاج من الداخل، فكدت ألمسها أو بالأحرى أن أسند رأسي على صدرها الذي لفح وجهي لهيبه، اعتدلت وانسحبت بعيدا قائلا بأننا لن نتمكن من تنظيف الزجاج، فابتسمت لي بخيلاء، ومالت بجسدها للداخل وكأنها تقرأ ما يدور بذهني فقد كنت أتشوق لرؤية مؤخرتها في الوضع مائلة، أقلقتني فكرة أنها تقرأ ما يدور بذهني، وتذكرت الحلم بالأم وابنتها، شعرت بالخوف لوهلة بينما كانت تضرب الكرسي بيدها ذات الأصابع الطويلة المنحوتة بدقة عالية، فيطير الزجاج فتزيحه بعيدا، امتزجت صورتها برغبتي التي كانت مشتعلة في الحلم، فبدأت بتفحص مؤخرتها البيضاوية المشدودة وكان المخمل الداكن يزيدها إثارة، وكاد التقاء مؤخرتها بردفيها أن يفلت زمام رغبتي، ومنعت نفسي للحظة من ضرب مؤخرتها بيدي، فاكتفيت بوضعها على وسطها لتخرج من السيارة، وتقف تقريبا بين ذراعي ويلامس كل جسمها كل جسمي، كان جسدها مزيجا غريبا من القوة والليونة، نظرت في عينها: تعرفي نظرية التوتر السطحي؟ - طبعا، يبان عليك التوتر من برة وانت راسي وتقيل من جوه، يعني عكس نظرية «من برة هلا هلا ومن جوه يعلم الله» (قالتها وبعينها نظرة انتصار رافعة حاجبها الأيسر). - (ضاحكا بصوت مرتفع) لا مش دي؛ التوتر السطحي نظرية على الموائع بيكون سطحها غشاء مرن مشدود يقاوم الاختراق ويعمل على تقليل مساحة السطح.
تحولت نظرتها من الاستنكار، للغضب، للوم، وكادت تصيح وهي تدفعني عنها، «إوعى» وركبت السيارة مرة أخرى ودفعتني ثانية لتغلق الباب، وكأنها ستنطلق بالسيارة، رجعت لمقعدي ناظرا لها مبتسما؛ فقد أثارتني أكثر بسذاجتها، ومحاولتها التنصح بطريقة «الفلاح لما يتنور»، أغلقت بابي. - مالك بس، حصل إيه؟ - إيه يعني غشاء ومش غشاء؟ انت مش عارف إني كنت متجوزة وعندي تلات عيال؟
لم أضحك هذه المرة، بل ابتسمت لها بدفء قائلا: «لا يا ستي، انتي فهمتيني غلط، أو انا ماعرفتش أقول.» - هاتقول إيه تاني؟ ما بلاش ... - لا أنا كان قصدي إن جسمك حلو ومشدود ولين في نفس الوقت (قلتها ووضعت يدي على فخذها، وشعرت بيدي تحترق وبجسدها يذوب). - ما تقول لي جسمك حلو يا توحة وخلاص، إيه بقى لازمتها النظريات! ما تخليك دوغري كده واتعلمها من واحدة زيي مش متعلمة. - إنتي هاتعلميني الجنان. - وهو الجنان وحش يا أستاذ محمد؟ - لا يا ست توحة، لو منك يبقى مش وحش، أعمل فيكي إيه دلوقتي؟ نزلتيني في البرد دا بمنظري كده! - أدفيك، ووضعت يدها مرة أخرى فوق يدي. - وولعتي في عربيتي. - أطفيها. وأشعلت نيران الجحيم بنظرتها. - أعمل فيكي إيه؟ - بوسني.
Página desconocida
تمنيت ألا تدرك ما أصابني به طلبها من ذهول، حاولت التظاهر بالثبات والتماسك، حاولت الرد أو التعليق، بلا جدوى، كم هي جريئة تلك المرأة! أتراها تعبث بي أو تتلذذ في رؤية تأثير ما تفعله في عيني؟ فهي لم تفلتهما من شباك عينيها ... لم تتركني كثيرا لحيرتي، وربما تعمدت إفهامي أنها تقرؤني.
ماتخافش، قالتها وهي تضع يدها فوق يدي المرتاحة المنسية فوق فخذها، شعرت بأنها أيقظتها من سبات عميق لتغطيها بلحاف وثير لا يقل نعومة ولا ليونة عن باقي جسدها. - هو باين عليا أوي إني خايف؟
بابتسامة عذبة ونظرة توسل: لا يا سي محمد، مش قصدي؛ دانا بتمنى اليوم دا من زمان. - اليوم اللي هنا ولا اللي مش هنا؟ (مبتسما بخبث.) - هانتفق، وهالبسلك اللي عمري ما لبسته، وهاطبخلك اللي عمرك ما أكلته، واسمعك اللي عمرك ما سمعته، وأوريك اللي عمرك ما شفته، بس انت مش هاتيجي (قالتها بنفس النظرة المتوسلة). - مين قال مش هاجي؟! (سحبت يدي من مرقدها معترضا.) - مش هاتيجي، أنا عارفة، أنا حلمت إنك مش هاتيجي. - حلمتي؟ خير اللهم اجعله خير (بتهكم لم أقصده). - هاستناك كل يوم تلات الساعة 11 الضهر لحد آخر تلات في عمري. - بعيد الشر، بس ليه التلات مش الأربع؟ - عمة «هاني» ابني بتيجي تاخده يشوف سته. - والنهارده الولاد فين؟ النهارده الجمعة. - عند ستهم كلهم (مسكت يدي وجذبتها لصدرها).
شعرت أنها تغويني بوضعها على نهدها القابل للانفجار بما لذ وطاب من فنون الهوى، لكنها وضعتها أعلى صدرها وركزتها على دقات قلبها هامسة لي: «اسمع، دا اللي مستنيك يا سي محمد».
لا أعرف كيف انتهى ذلك الموقف، أو كيف سحبت يدي، أو كيف تركتها تقبل يدي وتودعني خارجة من سيارتي المحترقة وكأنها تودع شهيدا في حرب القناة، وكيف اختفت ...
الرحلة
أسندت رأسي على المقود، وأنا أشعر بوخزة متقطعة في صدري، متعجب من تلك المرأة (توحة)، حاولت أن أغمض عيني، فانهالت على رأسي أشباح الأم وابنتها، حاولت تثبيت أي صورة لأقارنها ب «توحة» لكن الفارق صار أبعد بين الثلاثة، لماذا لم أسألها عن الحلم؟ لماذا لم أرجع معها ما دام أولادها ليسوا بالبيت؟ شعرت بألفة غريبة وقتها، لم أعد أراها كما اعتدت؛ فقد غمرتني بفيض آخر من المشاعر، شعرت بها تحتضن روحي بهدوء، لكن هناك شعور آخر يجتاحني الآن؛ الغيظ، نعم، الغيظ، فقد أشعرتني بأنني طفل تروضه، تقرؤني طول الوقت؛ بينما ظننتها تمارس فنون الإيقاع بابن الجيران كانت تقوم بتسويتي على نار هادئة، تمنح، وتمنع.
هل تملك حقا؟ وأين كنت أنا من كل هذا؟ هل كنت فقط المثقف المنحرف الباحث عن الخصوبة بين الطوائف الثقافية والاجتماعية المختلفة؟ وكيف تشعل سيارتي، فقط لأنزل لها؟ ما سر الحلم؟ هل كانت تحلم معي في الوقت نفسه؟ وبدأ الصداع يعربد برأسي.
محير هو الشعور بأن أكون صيادا وفريسة لطريدتي، رفعت رأسي وكانت الساعة جاوزت الحادية عشرة عندما رن جرس الهاتف. - أهلا يا عماد. - لا بقولك إيه، صوتك حزايني وبتقول لي عماد يبقى فيه مصيبة، الشغل باظ يا هندسة؟ - لا يا حبيبي كله بخير الحمد لله، إبراهيم مستني ابعتله عربية تنقل الشغل، انت عايزني الساعة كام؟ - لا انت مش طبيعي أكيد؛ «حبيبي!» و«انت عايزني الساعة كام؟!» انت اتربيت يا واد انت في سواد الليل؟! - هاكلم إبراهيم وأجيلك، سلام.
لا أعرف ماذا أصابني، قلة النوم والأحلام الغريبة، وحريق السيارة، وأخيرا «توحة»، والآن لا أطيق كلمة من أحد، لولا تعب «عماد» في استخراج التصاريح اللازمة للتصوير أمام قصر عابدين لكنت الآن ممددا في سريري و«توحة» ممددة لجواري. - سلام عليكم يا حاج إبراهيم، أخبارنا إيه؟ - جاهز يا باشمهندس، تبعت عربية ولا أجيب لك من عندي ؟ - هات من عندك، وادي السواق نمرتي يكلمني لما يقرب من منزل الدائري من الكورنيش عشان أقابله بالتصاريح عشان اللجان، قدامك قد إيه تقريبا؟ - نص ساعة تحميل ونص طريق؛ يعني ساعة يا باشمهندس. - على خيرة الله، سلام عليكم.
Página desconocida
ما زال أمامي ساعة كاملة للوصول لكورنيش المعادي، تلفت حولي لأعرف الاتجاهات مرة أخرى، سأعود مرة أخرى وأمر بجوار نادي هليوبوليس، ثم بيت الرئاسة، وأنحرف لليمين، وأصعد كوبري السادس من أكتوبر ... أدرت السيارة وانطلقت بهدوء أبحث عن صوت فيروز؛ فهو أكثر ما أحتاج إليه الآن، «بعدك على بالي، يا قمر الحلوين، يا سهرة تشرين، يا دهب الغالي.»
أزاحت حجرا جاثيا من على صدري تلك الفيروز، وأخذت أغني معها وأنا أتحرك بالسيارة ببطء، أعبر بين بيت الرئاسة والقصر الجمهوري، ابتسمت لنظرات الحرس الرئاسي المرتابة في منظر السيارة ولم أتوقف عن الغناء، لكني عند المنحنى شعرت أن كل لجان المرور بالعاصمة ستلاحقني، سيارة قديمة مهشمة الزجاج الأمامي، يقودها رجل في أول الأربعينيات في شهر فبراير بقميص مفتوح ... كدت أنفجر من الضحك.
رغم الزحام الشديد من مخرج نفق العروبة، ومرورا بالصالة المكشوفة، وبانوراما حرب أكتوبر، وأرض المعارض، «نفسي اتفرج على بانوراما أكتوبر دي»، هكذا همست لنفسي؛ مهندس معماري ويعمل بالسينما، ولم يزر بانوراما حرب أكتوبر من قبل! عقدت حاجبي قليلا وأنا أعتلي كوبري السادس من أكتوبر الذي لا يعني الكثير، حتى رؤية مئذنتي مسجد النور بالعباسية لتبدأ سلسلة بانورامية لشارع رمسيس، وكلما اقتربت من غمرة أنظر لليسار، لأستمتع بمدرسة القلب المقدس، أحب جميع تفاصيلها، حتى المباني المستحدثة بها رائعة، وفتياتها بالتنورة المربعات الكحلية في الأزرق في الأبيض والقميص السماوي، أتذكر «سعاد حسني» وفيلم صغيرة على الحب، أستمر في متعتي الوحيدة أثناء الزحام.
الهواء البارد يضايقني؛ يشعرني بمقدمة احتقان لجيوبي الأنفية، «منك لله يا توحة ...» نفثتها مبتسما، مجنونة هي، لكنها جميلة، حاولت إغلاق قميصي قدر الإمكان «الله عليكي يا فيروز»، جااااااءت معذبتي، بغيهب الغسق.
تشاء الحتمية القدرية اليومية التوقف التام بين مسجد الفتح ومحطة مصر التي تفتقر تماما لتمثال رمسيس الثاني، الذي تم نقله للمتحف المصري الكبير، وكأن تلك البقعة من الكوبري هي بوابة العبور أو الانتقال من قاهرة لقاهرة أخرى، ونقف الآن على الحدود لتهب بي نسمة باردة رطبة بعض الشيء، لألتفت يميني على سيارة إنجليزية فارهة بغطاء مكشوف، عقدت حاجبي لفكرة كشف سقف السيارة في هذا الجو، حتى وقعت عيناي على مقودها الممسك بأصابع لم تتعرض أظافرها سوى للتقليم والرعاية طوال حياتها، لا أعتقد أن هذه الأيادي قد غسلت أي أطباق قط، أو حتى غسلت نفسها؛ فتلك الأيادي يبدو أنها تغتسل بحليب الماعز، ابتسمت لطلاء الأظافر الأحمر القاني، ورغم أنني لم ألتفت بعد لصاحبة الأصابع الحليبية، فإن الفارق واضح بينها وبين «توحة»، حاولت اختلاس النظر دون أن أحرك رأسي لتفاجئني ابتسامة جعلتني ألتفت برأسي ورقبتي ناحية هاتين الشفتين، لا أعرف كيف هبت رياح برية مشبعة برائحة التوت البري، والفراولة، والكرز، فأكاد أغمض عيني. لم أر عينيها، أميرة الغابات تلك، فكانت ترتدي نظارة شمسية تغطي نصف وجهها، لكن ما ظهر منه يبشر بالكثير، شعرت بأني في عجلة من أمري، وكأنني لص تلاحقه الشرطة، أحاول سرقة كل ما تصله عيناي دون تدقيق لأقوم بفرز السرقة في وكري السري، فرمقتها بنظرة فوتوغرافية سريعة، لم أبتسم حتى لابتسامتها المربكة، فلم أعرف أكانت لي، أم مجرد استهزاء بسيارتي المضحكة، أو ربما شفقة بكلينا، رفعت صوت فيروز قليلا متظاهرا بالاستغراق في الحالة الفيروزية، محركا شفتي دون أن أسمع أي شيء، فرأيت حورية الغابات تضحك، واضعة أناملها الدقيقة على ثغرها، فلم أفهم السبب حتى تحركت السيارات بالفعل، تحركنا جميعا سويا لكن قدرتها على الإفلات من الزحام كانت مميزة، ربما لا تقف تلك السيارات في الزحام، أجد عذرا شرعيا لكل من يلمحها في مرآة سيارته ويفسح لها الطريق، مهما كلفه الأمر من قطع طريق على سيارة مجاورة، أو التسبب في حوادث مريعة؛ فكل ما يتلبسه هو الإفساح لملائكة الرحمة بالمرور، فربما ستنقذ تلك الحورية ملايين الأرواح، أو ربما ستحصدها.
انفجرت في الضحك؛ فقد عرفت لماذا ضحكت الحورية؛ فقد كانت فيروز تردد «نادي لك يا حبيبي ما بتسمع لي ندا ...» وددت لو ارتديت قبعة لأرفعها للست فيروز، منقذتي دائما.
مررت بمستشفى السكة الحديد، ومبنى الأهرام، ونقابة المهندسين، وجمعية المهندسين بمبناها العريق، الذي يشبه من الأمام الطراز المملوكي، ومن الخلف عمارة المنمنمات الكنسية، ومع اقترابي من منزل ميدان التحرير، حاولت اختلاس النظر لغنيمتي التي ظفرت بها عند الحدود؛ امرأة في أواخر الثلاثينيات أو أوائل الأربعينيات؛ فنضارتها قد تخدع أعظم خبراء الجواهر؛ شعرها أسود قاتم تتخلله خصلات فضية اللون، كخيوط من النجوم الفضية تلمع في سواد الليل، شعرها كان طويلا؛ فما ارتاح منه على كتفها الأيسر كان يصل لفخذها، بشرتها بيضاء رخامية بلون الحليب الرائق، لمحت أيضا بنطالا جلديا أسود ضيقا؛ تبدو ممشوقة القوام طويلة العظام، يغطي صدرها قميص مجسم أبيض اللون، يظهر فقط ترقوتها، وسترة جلدية سوداء، تشبه السيدة القطة في الرجل الخفاش، جعلتني أتمنى لو كنت خفاشا، وتساءلت كم يكلفني قيادتها، لم أحاول أن أفصح لنفسي أكنت أقصد السيارة الفارهة أم الحورية الفارهة أيضا ... ابتسمت.
حمدت الله أنني لم أتجاوز المنزل، نزلت متدحرجا بسيارتي الحجرية، المهشمة، المحترقة، الجميلة، لأبتسم تحية للمتحف المصري، البديع مبناه الكولوني العريق، يعجبني كثيرا ثقته بنفسه، واسترخاؤه بقوة جاعلا حداثة مبنى هيلتون النيل، وأندلسية جامعة الدول العربية، مجرد خلفية متعادلة لعضلاته القوية الممسكة بميدان التحرير، حتى مبنى المجمع الأرت ديكو الفريد، الذي أشعره قد بلع مبنى وزارة الخارجية القديم، وزخارفه الباروكية الرائعة، استمر زحفي بجوار المجمع متخطيا مسجد عمر مكرم مجاهدا للوصول للكورنيش، وأخيرا اعتدلت موازيا لكورنيش النيل متجها لمطلع الكوبري الدائري باتجاه المعادي.
رغم ما أشعر به من برودة حادة داخل أنفي، فإنني لم أستطع مقاومة طقسي التقليدي بملء رئتي من هواء النيل، وابتسمت أثناء مروري بفندق جراند حياة، وبسفارة إيطاليا، وتذكرت كيف أعجبني ظهورها في مسلسل فارس بلا جواد. اقتربت الآن كثيرا من المكان المنشود، والآن يجب أن أطيل قليلا وأعاود أدراجي لأتوقف بجوار منزل الكوبري باتجاه ميدان التحرير مرة أخرى، وبالفعل وقفت قبل المنزل وأطفأت السيارة.
اقترب من السيارة مندوب شرطة، أو أمين شرطة، فلم أكن أعرف الفرق، جاء مبتسما، لافتا نظري أن الانتظار ممنوع في تلك البقعة، فبادلته ابتسامة مماثلة قائلا: إن ذلك ممنوع على السيارات، وما أقوده أبعد ما يكون عن كونه سيارة، فضحك قائلا إنني أستحق سحب السيارة، بسبب مخالفة الأمن والمتانة و... و... فقاطعته أن الرخصة أيضا منتهية منذ زمن غير معلوم، ونزلت من السيارة، وأعطيته سيجارة وأخذنا ندخن سويا، ونتجاذب أطراف الحديث، وأعتقد أننا صرنا أصدقاء إلى حد بعيد، وحكيت له أنني في انتظار السيارة المحملة بالمناظر الخشبية، والشيء الوحيد السليم معي هو تصريح مرور تلك السيارة في وسط العاصمة، موقعا من حكمدار مرور القاهرة، فشعر أنني شخصية مهمة رغما عنه، فلم يكن يبدو علي أي أهمية، فنصحني بعدم السير بسيارتي في وسط البلد؛ فحتما سيتم سحب السيارة. بدا لي كلامه مقنعا فطرأت لي فكرة، سألته عن اسمه فأجاب: «محسوبك عصام.» فسألته عن انتهاء ورديته، فأفهمني أن الموضوع يمكن تنسيقه لو: «سعادتي محتاج أي خدمة»، فعرضت عليه أن يحضر التصوير معنا، ثم نتعشى سويا بعدها، تهللت أساريره من فكرة حضور التصوير أمام قصر عابدين، لكنه حاول إخفاء سعادته باعتذارات همهمة غير مفهومة، فأصررت أن يكون ضيف التصوير اليوم، وهكذا صرت محميا بصديقي الجديد «عصام» من أنياب رجال المرور.
Página desconocida
استأذن «عصام» أن يقوم بدورة في مكان خدمته للاطمئنان على استتباب الأمن على أن يعود إلي سريعا، فابتسمت واعدا بانتظاره، انكمشت بردا ملتفا حولي و«عصام» يبتعد.
اتصلت مرة أخرى بالحاج إبراهيم وأخبرته بمكان انتظاري، وطلبت منه أن يتصل بي السائق لأتابعه، تحسنت حالتي كثيرا، وشعرت بالبرد أكثر، فكنت أتحدث بالهاتف وأنا أتحرك بخطوة رياضية ممدودة، متابعا مجموعة من المحال التجارية المتنوعة جيئا وذهابا، مستمتعا بهوايتي في تسوق النوافذ.
قمت بمجموعة من الاتصالات لفريق العمل بالكامل، وتوقفت أمام نافذة لمتجر ملابس، ولمعت في رأسي فكرة شراء جاكت يقيني من البرد، ويستر قميصي المقلم قليلا ، لم أتردد كثيرا دخلت وعيني على جاكت من الجلد المقلوب بلون وبر الجمل، وجذبت معه كوفية من الكشمير الخفيف بلون يختلف فيه الأئمة من الزيتوني المطيف بسحابة زرقاء، قمت بقياس ما اخترته ولم أخلعه بل أعطيت البائع بطاقة ائتمانية، فخصم حسابه ووقعت له على الإيصال، وانصرفت في دهشة من البائع دفعته للخروج خلفي ومراقبتي وأنا أتحرك مرة أخرى ناحية السيارة.
كان «عصام» بانتظاري وبيده كوبان من الشاي المغلي قدم أحدهما لي، شكرته بحرارة؛ فهذا ما كنت فعلا أحتاجه، بدأت في الحديث مع عصام في أمور عامة، وسألته عن أحوال الدنيا، وبدأ عصام وكأنه ينتظر أي فرصة ليشكو أحوال الكون، فجميع الأحوال متردية، والراتب لا يكفي، ولولا «ولاد الحلال» و«الحسنات» التي يرزقه الله بها من هنا ومن هناك لكان مات جوعا من زمن، والضباط لا يرحمون ولا يدعون رحمة الله تحل بأحد، وكثير منهم يقاسمه «الرزق» الذي يتحصل عليه، وأنه يتمنى لو يتم نقله للمباحث؛ فبرغم أن العمل أكثر فإن الرزق أيضا أكثر وأكثر، كنت أبتسم من وقت لآخر متظاهرا بالتعجب تارة، وبالتأثر تارة أخرى، لكن في الحقيقة شعرت بالأسى لا لحال «عصام» بل لحال البلاد؛ فكيف أطلب ممن هو مثل «عصام» أن يوفر لي الأمان الذي يفتقده هو تماما، ليتحول زيه الرسمي بكل الهيبة النظامية «لعدة الشغل» التي يسترزق منها، فلا فرق فعليا بينه وبين أي مواطن يتحايل على الظروف ليلتقط فتات الرزق من هنا أو من هناك.
اتصل السائق «أبو ميار» ليخبرني أنه اقترب من منزل المعادي فأخبرته أن ينزل في اتجاه التحرير، وما هي إلا لحظات وهبطت سيارة نقل من الشاسيه الطويل بيضاء اللون، مكدسة بالمناظر الخشبية الملونة، دبابات ومدرعات ومدافع، كانت مصنوعة بمهارة، تخيلتها في موقع التصوير وأنا أراجع الإضاءة، بحيث تظهر مجسمة وطبيعية كالأبقار في فيلم الراقص مع الذئاب، وابتسمت ببعض الإطراء على نفسي «يعني هو كيفن كوستنر أجدع مننا في الإنتاج في إيه!» هكذا حدثت نفسي وأنا أتفحص المناظر، حييت «أبو ميار» وركبت السيارة وبجواري عصام الذي وضع كوبي الشاي على حافة الرصيف معللا أن صاحبهما سيجدهما، وانطلقنا في اتجاه ميدان التحرير.
أعطيت عصام التصريح وورقة بخمسين جنيها ليتعامل مع أي معوقات أمنية في الطريق. - إنت بتشتمني كده يا باشمهندس. - العفو يا عم عصام، هو فيه فرق بينا؟ بس عشان لو حد سخف تتصرف على طول. - لا معلش خلي الفلوس معاك ولما ماعرفش اتصرف هابقى اقولك.
ورفض تماما أن يأخذ النقود، ووضعها في منفضة الدخان وأغلقها عليها ومنتصفها في الخارج، كنت أعرف قدر حاجته للنقود لكنه أحرجني برفضه الحاد الغير قابل للتفاوض، فاعتذرت له بلطف مرة أخرى، وتولى «عصام» أعمال الملاحة فأمرنا بالانحراف في تفريعات جانبية وصولا لشارع قصر العيني، وعند إشارة مجلس الشعب بدأت المضايقات، فأوقف الركب رائد شرطة، فقفز «عصام» من السيارة وطلب مني عدم التحرك، وذهب للتحدث مع الضابط، وتصورت ما يقوله وهو عائد مبتسما بزهوة النصر، وركب جواري ثانية. - خيرا؟ (سألته مبتسما.) - خير إن شاء الله يا باشمهندس، الباشا بس هايطلع معانا بوكس، وهاييجي يوصيك على خدمة عند إسماعيل باشا - حكمدار المرور - هو فاهم إنك قريبه، الموضوع دا يهمه شخصيا.
رفعت حاجبي بتعجب ولم أنطق حتى رأيت الضابط يقترب مبتسما، فأظهرت الجدية الممزوجة بالغضب، فمد يده مصافحا: مساء الخير يا باشمهندس، ثواني بس هاطلع معاك عربية عشان التأمين لحد عابدين، وهاتفضل معاكم لحد ما ترجعوا إن شاء الله. - ربنا يخليك، أنا شاكر ذوقك الحقيقة، بس مش عايز أسبب أي إزعاج. - لا يا باشمهندس العفو، دا خط إسماعيل بيه أوامر، هو قريبك؟ - إسماعيل بيه ولا خطه؟ (ضاحكا.) - (ضحك بدوره) لينا عندك خدمة يا باشمهندس بس لما تخلص شغلك بالسلامة، أنا الرائد «عمر عبد السلام». - مهندس محمد أحمد، أهلا بحضرتك، ما تيجي تحضر التصوير معانا طيب، هاتنبسط جدا (وكأنه كان مترقبا لعرضي، تظاهر بالتفكير لأقل من ثانية واحدة، رفع جهاز اللاسلكي لفمه). - ألو عمليات، ألو عمليات، رائد عمر! - ابدأ الإشارة يا باشا (هكذا جاء الرد من الجهاز).
تحرك مبتعدا وهو يتحدث في الجهاز مشيرا لسيارتي حينا وللسيارة النقل حينا، وبدا عليه التوتر قليلا ثم تهللت أساريره وقفز بجوار السائق في سيارة الشرطة «البوكس»، ورجعت السيارة للخلف حتى أصبحت بجواري، وتعجبت من اختلاف نظرة الرائد «عمر»، فقد تبددت نظرة الود، وحلت محلها نظرة ميرية صارمة، «اديني رقمك يا باشمهندس» هكذا قال بصوت ثابت النبرة، أمليته رقم الهاتف بنبرة ثابته مماثلة، فأردف: «هارنلك، اطلبني، ولا مامعاكش رصيد ...» وضحك بصوت مرتفع وأنا مبتسم؛ فكنت أراه كمن مسه جنون العظمة بمجرد ركوبه سيارة الشرطة، وأجبته بابتسامة خبيثة: «من عينيا.» وانطلق الموكب مرة أخرى باتجاه ميدان التحرير، ولكن بترتيب مختلف: الرائد «عمر» يتصدر الموكب بصوت بوق الشرطة المميز، والأضواء الزرقاء أعلى مقصورة القيادة، يليه «أبو ميار» منتشيا، ثم سيارتي المحترقة وبها جلست أنا و«عصام» ندخن السجائر، سألته عن هذا الرائد. - دا مجنون يا باشمهندس. - مجنون ازاي يعني؟ - فاكر نفسه جيمس بندق (ضاحكا). - إنت قلت له إيه يا صايع؟
لمعت عيناه وكأنما أعجبته كلمة «صايع»: ليه بس كده يا «باشا»! مافيش والله، قلت له إني واخد التعليمات من إسماعيل بيه طوالي. - وهو كان بيكلم مين على اللاسلكي، هاتودينا في داهية يا أبو عصام! - (ضحك مقهقها متفاخرا) يا باشمهندس دا شغل رسم؛ عشان يبقى عمل واجب مع «إسماعيل» بيه، ماتشغلش نفسك يا باشمهندس، من دلوقتي الرائد «عمر» هو اللي سايق.
Página desconocida
ابتسمت؛ فقد أعجبتني الفكرة ونحن نخترق وسط البلد، فلم نتوجه من باب اللوق بل من قصر النيل، موكب مهيب، سيارة الشرطة في المقدمة، يليها عربة «أبو ميار» المحملة بالمناظر الملونة، وتليها عربتي و«عصام» حامل التصريح، كانت يد الرائد «عمر» المرسلة خارج سيارته بجهاز اللاسلكي وكأنها عصا موسى التي تشق البحر، وتحيله أرضا ممهدة، لكننا لم نكن نعبر سيناء، ولم نكن بني إسرائيل.
كان الانتقال بين رحاب قاهرة الخديوي ممتعا، فلم يسبق لي التحرك في ركاب مذللة خطاه بهذا الشكل، عجبت من الفوضى التي يحدثها موكبنا، وعجبت لحد استخدام السلطة، ولا أنكر استمتاعي بها قدر استيائي منها. التصريح سليم؛ فبالطبع «شعراني» هو من أحضر التصريح كما يحضر كل ما نتمناه من أوراق رسمية، ابتسمت عندما تذكرته، وكيف كنت متشككا في التصريح يوم أخذته منه: «شكلك هاتسجنا يا أبو شعرة بالورق اللي بتجيبه ده!» كان هذا تعليقي وأنا أتفحص التصريح، فرد ضاحكا: «اتسجن انت بس وماتحملش هم.» ولكن التصريح لم يكن السبب الوحيد لتلك الرعاية المركزة لموكب «المحمل» الذي يختلف كثيرا عن كسوة الكعبة؛ فمحمل «أبو ميار» لم يكن سوى مناظر خشبية ملونة، كان وجود «عصام» ورغبته في التقرب لي بنحو إنساني هو العامل الثاني، لم يراودني شك وقتها أن القصة التي اختلقها «عصام» للرائد «عمر» هي العامل الثالث، أما أغراض الرائد «عمر» الغامضة فكانت العامل الرابع، لتأتي القصة التي يجب أن يكون اختلقها لتلعب دور عصا موسى في رحلتنا لاختراق الزحام، كانت العامل الخامس، لا أعتقد بأن أي مريض يحتضر في سيارة إسعاف قد يحظى بكل تلك العوامل، قد يفقد المريض حياته لكن لا يصح أن تتأخر المناظر الخشبية على الأستاذ «عماد».
لا أدري كيف وصلنا لميدان الأوبرا بتلك السرعة، وبدا تمثال إبراهيم باشا شامخا مستحوذا على الميدان بالكامل بحصانه الذي قضى به على الحركة الوهابية، وحمى إمارة الحجاز، وكاد يدخل الآستانة لولا تدخل سفراء أوروبا، وإقناع الآستانة بإبرام اتفاقية كوتاهية عام 1833م، والتي قضت بتثبيت ولاية محمد علي على مصر وكريت وسوريا، وتجديد ولاية إبراهيم باشا على جدة وإمارة الحجاز، مقابل تراجع الجيش المصري عن باقي الأراضي التابعة للأناضول؛ فصارت حدود مصر الشمالية تصل إلى مضيق كولك بجبال طوروس، ثم معاهدة لندن عام 1840م والتي صارت مصر بعدها حكرا على أسرة محمد علي، لكنها وضعت مصر تحت الوصاية الأوروبية أيضا، عظيما وقويا كان محمد علي.
لم أنتبه لمسجد الكخيا أو «عثمان كتخدا» بسلمه الحجري، دائما أشعر بأن هذا المسجد ما زال غير مكتمل التشطيب والدهان، وأني في يوم سأجد سقالات «المقاولون العرب» منصوبة، ويقومون ببياض جدران المسجد بالمصيص الرديء أو الجير.
اقترب الموكب من ساحة قصر عابدين ، وكانت الساحة مليئة بجموع لم أرها سوى في مظاهرات حركة «كفاية»، الفارق الوحيد أن جموع مظاهرات حركة «كفاية» مكونها الأساسي رجال الأمن، فكلما أرى مظاهرة أو تجمعا، أتذكر يوم أن رأيت بجوار مبنى وزارة الداخلية مشروع مظاهرة، لم أر المتظاهرين بالفعل، فقد رأيت لافتات، ويخفيهم آلاف مؤلفة من رجال مكافحة الشغب، فكانت النسبة تقريبا ألف جندي لكل متظاهر، وكان تعليقي يومها أنها: «مظاهرة رجال مكافحة الشغب ضد حركة «كفاية»»، أما التجمع الذي أراه كان كله من المدنيين ومجموعات الكومبارس بالزي الحربي البريطاني بعد الحرب العالمية الثانية، لمحت بعض الجنود الكومبارس يرتدون ملابس الجيش الألماني، فطلبت من «عصام» أن يذكرني بالجنود الألمان، فاندهش قائلا: «ألمان؟» فقلت له: «ماتشغلش بالك بس قوللي ماتنساش العساكر الألمان»، فوافق مضطرا ومستاء.
اقتحم الموكب الساحة ببوق الشرطة، بعض الهرج والمرج، توقف الموكب وجرى بعض الجنود النظاميين، وتحرك نقيب شرطة مقتربا من سيارة الرائد «عمر»، الذي قفز من سيارته، ومشيرا بحركة بيده بحدة ناحية «عصام»، فقفز «عصام» بدوره من سيارتي وهرع للرائد «عمر» معطيا إياه التصريح السحري رافعا إياه في وجه النقيب، نزلت من السيارة في محاولة لمعرفة ما يحدث فلم أكن قريبا بدرجة كافية لمعرفة ما يجري.
اعترضت طريقي يد ممتدة فعرفت تلك الساعة الرقمية العتيقة، والتي يملكها «أبو علي» منذ الدراسة الثانوية من الساعات «الكاسيو»، التي كانت هدية المدرسين العاملين في الخليج لأقاربهم في الثمانينيات. - خير يا هندسة إيه الزفة دي؟ - موضوع كبير، بس تعالى نشوف بيقولوا إيه.
تأبطت ذراعه وأنا أقترب من الحوار الذي عرفت أن سيادة الرائد «عمر» قد تولى قيادة قوات الشرطة المسئولة عن تأمين الموقع أثناء التصوير، وأصبح النقيب الذي لم أعرف اسمه، وسيارته المحملة بقوات مكافحة الشغب أو الأمن المركزي تحت إمرته، و«عصام» أصبح ساعده الأيمن؛ فقد اختفى للحظة وعاد وفي يده كرسي للباشا قائد القوات. - ما تقلقش يا باشمهندس، الرجالة هايفضوا المكان حالا عشان تنزلوا الماكاتيات بتاعتكم، مش بتقولوا عليها ماكيتات برضو؟ (ضحك الضحكة نفسها البلهاء.) - ربنا يخليك ، إنت أنقذتنا فعلا، كان مستحيل نوصل في الميعاد ده. - ماتنساش بقى تقول «لإسماعيل باشا» (مقهقها مرة أخرى). - من عينيا، دا هايقدر جدا اللي سعادتك عملته معانا.
جذبت «أبو علي» وهو على وجهه كل علامات الذهول؛ فعادة كان يقوم بهذا الدور وتلك الاتصالات «شعراني»، وكأنه سمع اسمه في خاطرنا - وأقصد «شعراني» - كان بالفعل قفز بيننا وسألني عما يحدث، فحكيت لهما فيما بعد مقابلة «عصام»، وأرجأت قصة «توحة» لوقت الرواق، وحين أتممت قصة الرائد «عمر» ومعاونه الجديد «عصام»، حتى انفجر «شعراني» في الضحك قائلا: «كدة اليوم اتظبط ...» قاطعته: «يوم إيه اللي اتظبط؟ وإيه سر «إسماعيل» باشا؟ دا ولا الخديوي إسماعيل في زمانه.» - تفتكر الخديوي إسماعيل يعرف يعمل ربع اللي يعرف يعمله «إسماعيل منسي»؛ دا حكمدار مرور العاصمة، انت بتهزر؟ - والتصريح إيه اللي فيه عشان عم «عمر» يحول النقلة لمشروع قومي يعني؟ - ماتفهمش انت يا هندسة المواضيع دي، اعتبرها بروتوكولات مصالح. - المهم ماتوديناش في داهية يا أبو شعرة. - لا ما تقلقش، المهم نفطم «عماد» يكبرك بس قدام الراجل عشان الدور يتسبك.
كان عماد يجلس على كرسي الرحلات، بقماش الخيام المشدودة على القوائم الخشبية، والمكتوب على مسنده من الخلف «المخرج»، وبيده مكبر الصوت، وفي رقبته معلق تليفونه المحمول وساعة رقمية، لم يكن واضحا مكانه في البداية، لكن مع تحركات أكثر من مائة جندي بملابسهم السوداء، وإخلاء الساحة تقريبا، لم يبق سوانا، ومجموعات الكومبارس، وفتح الطريق «لأبو ميار» الذي كان مذهولا مما يراه، وشعر أن الحاج «إبراهيم» يعرف عظام القوم ممن تفتح لهم الطرق، ويصطف لهم رجال الشرطة.
Página desconocida
كان يحاول الإشارة لي وهو يفك الحبل السميك (سلبة) الذي يربط حمولة السيارة، ففهم الرائد «عمر» من إشارته أنه يسأل من سيقوم بإفراغ الحمولة، وبحركة أخرى من يده - أقصد الرائد «عمر» - للنقيب الذي لا أعرف اسمه، ويبدو أن تلك الإشارات يتم تدريسها في وزارة الداخلية؛ فقد فهم النقيب الإشارة وقام بإشارة أخرى تختلف عن الأولى لجنوده، فهجم مجموعة على السيارة، واستوقفت مجموعة أخرى إشارة صارمة فهمناها جميعا ، أسرعت بالتحرك ناحية السيارة لكن الرائد «عمر» أوقفني قبل الوصول إليها، طالبا مني ألا أقلق، وأنهم سينزلون كل شيء، ويرصونه مكان السيارة، ليتم ركن السيارة بجوار سيارات الجنود؛ «عشان نروق المكان» على حد قوله.
جاء «عماد» قاطعا المسافة بصراخه التقليدي، ومكبر الصوت في يده اليمنى، وملف تحت إبطه الأيسر، ويبدو أن «شعراني» قد أفهمه الوضع؛ فبدلا من تذمره المعتاد في مواقع التصوير فاجأني بابتسامة خبيثة ما بين الاحترام والحنق، مد يده مصافحا. - نورت يا باشمهندس محمد. - أهلا أستاذ عماد. أستاذ عماد المخرج (موجها حديثي للرائد «عمر»). - أهلا أستاذ عمر (ومد يده مصافحا ونظر إلي). - عمر بيه ضيفنا النهارده يا أستاذ عماد، يا ريت بقى تبيضوا وشنا معاه. - يا باشمهندس ضيوفك ينورونا. دي التصاريح بتاعة التصوير ودخول القصر وكل الورق (مد يده اليسرى بالملف الذي كان يحمله). - تمام، تمام (هكذا رددت بلكنة متعجرفة وأخذت الملف).
مرة أخرى شعر الرائد «عمر» بهيبتي، واستأذنته لمباشرة توزيع المناظر، وانصرفت مع عماد الذي كان يتوعدني همسا، مكررا أن الدنيا يومين، أكثر من مرة، فتركته وأخذت «حسن» وبدأت في ترتيب المناظر في أماكنها في ذهني أولا، جميع المناظر خارج سور القصر فقط ستدخل سيارة المندوب السامي البريطاني والذي سيلعب دوره «حسام فوزي»، انتبهت فلم تقع عيني على السيارة، أسرعت «لعماد» مرة أخرى عند كرسيه، وسألته عن السيارة فرد بأنها في الطريق وأنني المسئول وليس هو، بضحكة مستفزة. فقلت: «بلاش السواد دا يا ابن السعاتي.» فضحك قائلا: «صبرك عليا يا هندسة لما نخلص، ربنا يستر واليوم يعدي على خير.» - أنت قلقان يا عماد ليه؟ إن شاء الله خير لا أول ولا آخر فيلم يا فنان. - مش عارف، مش متعود على الزحمة دي، والمكان حساس أوي، والمعدات كلها متأجرة. - ما هو كل شغلنا بمعدات متأجرة، هانمثل بقى ولا إيه؟
ضحكنا مرة أخرى، وأخذت منه كل التعليمات الخاصة بوضع المناظر، وانصرفت وطلبت من «حسن» أن يلازمه، ويزيل حدة توتره، وبينما أبحث بعيني عن شعراني، جاءت السيارة «الأوستن» السوداء موديل 1942، برغم أنني تمنيت سيارة «رولز رويس» لكن ما باليد حيلة.
الرواية
لم أستغرق الكثير من الوقت في نشر المناظر في أماكنها، بينما كان «حسن» يقوم بدور مساعد المخرج؛ فنحن عادة نقوم بكافة الأدوار سويا، ولا نلتزم بهيكلة الأمور، فقط توزع المسئوليات الرئيسية ثم ينطلق الجميع، عدت لأجلس بجوار «عماد» و«حسن»، وثوان وانضم إلينا «شعراني»، كان «حسن» قد رتب المجموعات، ولاحظ العساكر التي ترتدي الزي الألماني، واستبعدهم من التشكيل، وبدا موقع التصوير كموقعة حربية على وشك اندلاع نيرانها.
لم يأت «شنن» التصوير بحجة وهمية؛ أن صديقته في فترة «التبويض» وفرصتهما للإنجاب تحين وقت التصوير، في الحقيقة ليس له صديقة من الأساس، ولكنها الحجة التي نعتاد أن نطلقها للاعتذار عن حضور أي حدث، وكل مرة يختلف الطرف الآخر «صديقة، زوجة ...» حتى إن «شعراني» مرة قال: «معلش يا جماعة، مش هاقدر آجي؛ خالتي في فترة التبويض ...» فقاطعناه تقريبا جميعا «وانت بتخلص الورق لجوز خالتك؟» وصارت من قفشاتنا أو لعناتنا الحقيقة، ورغم أن «شنن» له العديد من الأشعار الغنائية في هذا الفيلم إلا أنه لا يحضر التصوير أبدا؛ والسبب أنه لا يشعر بالراحة في الزحام ولا يتحمل الضوضاء.
جلسنا جميعا نراقب الموقع، كل شيء في مكانه، حتى قوات مكافحة الشغب والرائد «عمر» قائد القوات يشرب القهوة وبجواره «عصام» بكوب الشاي، ويبدو أنه يروي له مغامراته في أدغال مكافحة الجريمة المنظمة، و«عصام» يلعب دور المندهش ببراعة، والجميع في انتظار اختفاء قرص الشمس وحلول الظلام.
جذبت نص الرواية الأصلية للفيلم والذي لم ينشر؛ فقد كتبه «حسن» خصيصا للفيلم «عابدين 4 فبراير - رواية فيلم لحسن عبد السلام»، هكذا قرأت ما كتب على الغلاف الكرتوني الذي يشبه ملفات الرخص بإدارات المرور، ولا ألاحظ أي اختلاف في خط الكتابة ذاته، أخذت أقلب في الرواية رغم أني قرأتها عدة مرات، لكني من المعجبين - بل أشدهم إعجابا - بأسلوب «حسن» في فرض وجهة نظره، وإثباتها ببراهين لا تقبل الشك، وأيضا والأدهى هي وجهة نظره ذاتها، الرواية مقتبسة من مذكرات سير «مايلز لامبسون» للأيام الأربعة الأولى من شهر فبراير عام 1942، في البداية تعجبت من فكرة أن مذكرات أربعة أيام قد تكون كافية لأحداث فيلم، لكن حين قرأت المذكرات الأصلية، عرفت أنها قد تحتاج لعدة أجزاء؛ فسير «لامبسون» أو اللورد «كيلرن» كما أطلق عليه بعد حصوله على لقب فارس من الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس، كان رجلا لا يستهان به، ويعد من أفضل من خدموا الإمبراطورية، ومن أول من أدركوا أن الإمبراطورية لها مصالح، وليس لها أصدقاء.
كان يشير للملك «فاروق» دوما في مذكراته بلفظ «الولد»، بينما كان الملك «فاروق» يذكر «لامبسون» في أحاديثه بلفظ «جاموس باشا»؛ ربما بسبب ضخامته؛ فكان طوله 192 سنتيمترا وليس نحيفا على الإطلاق، فاستحق وعن جدارة لقب «جاموس باشا».
Página desconocida
كانت معاهدة 36 هي جذور حادث الرابع من فبراير، والتي أصر الإنجليز أن يحضر مباحثاتها كافة الأحزاب، عدا الحزب الوطني، الذي أطلق شعار «لا مفاوضات قبل الجلاء»، ووقع المعاهدة عن الجانب المصري «النحاس باشا»، وكان رئيسا للوزارة وقتها، وعن الجانب البريطاني سير «مايلز لامبسون» بوصفه المندوب السامي البريطاني، وبعد إقالة وزارة «النحاس» بعد عام واحد من المعاهدة، وتكليف «محمد محمود باشا» بتشكيل الوزارة، وهو أول تكليف يقوم به الملك «فاروق»؛ فتكليف «النحاس» جاء من الملك «فؤاد»، أزعج الإنجليز قليلا إقالة وزارة النحاس في البداية، لكنهم استحسنوا الفكرة حتى لا تقوى شوكته على حد تعبير «لامبسون»، وتوالت الوزارات من عام 1937م وحتى عام 1942م، فجاءت بعد وزارة «محمد محمود» وزارة «علي ماهر باشا»، ثم وزارة «حسن صبري باشا»، تليها وزارة «حسين سري باشا»، والتي تعتبرها إنجلترا من الوزارات المتفهمة لمصالح الإمبراطورية، وحين تم إقالتها، واستدعاء «علي ماهر» مرة أخرى لتشكيل وزارة لم يعجب «لامبسون» الأمر، وشعر بتهديد لمصالح الإمبراطورية؛ لكون «علي ماهر» على اتصال بدول المحور، مما يعد خرقا لاتفاقية 36، وأن «النحاس» هو أفضل من يتفهم تلك البنود في الوقت الراهن.
وكانت مذكرات «لامبسون» تضع وصفا دقيقا لما فعله خلال الأيام الأربعة من شهر فبراير، واستلهم «حسن» تلك الرواية منها، ومن بعض التقارير الأسبوعية التي كان يرسلها «لامبسون» للإمبراطورية، والتي كانت لها تركيبة ثابتة، تبدأ بما فعله بملاحظاته طوال الأسبوع، بما في ذلك الإشاعات التي سمعها، ثم تقرير «والتر سمارت»، المستشار الشرقي للإمبراطورية، ثم تقرير السير «كين بويد»، وهو آخر مستشار إنجليزي لوزارة الداخلية المصرية، وفي كثير من الأحيان كان يرفق تقرير «روبرت فيرنس»، وهو المشرف على الإذاعة، والجرائد، والبريد، والمكالمات الهاتفية التي يتم التنصت عليها من غرفة خاصة بمصلحة التليفونات المصرية بشارع «الملكة ناظلي»، والمعروف بشارع «رمسيس» حاليا.
لم تكن قراءة «حسن» للمذكرات هي المبدعة، بقدر ما أظهره من قدرة لا يستهان بها على إظهار مواطن الضعف والقوة في الشخصيات المشتركة في ذلك الحدث، ولم يغفر للنحاس قبوله تشكيل الوزارة بالدبابات والمدرعات الحربية البريطانية.
صاغ حسن الرواية من خلال رحلة لصائد سمك من بورسعيد، جاء ليطلب من الملك أن يبعد عنه وقريته أذى الجنود البريطانيين، فيأتي «سيد دنيس» وهو اسم بطل الرواية، وأسماه «دنيس» لكون هذا النوع من السمك يمكن اصطياده بدون وضع أي طعم في السنارة، ورغم حلاوة طعمه إلا أنه معروف بالغباء، وقلة البخت.
فيأتي بطلنا هذا إلى القصر، فيجد الملك نفسه يتعرض لمضايقات الإنجليز، فيعود أدراجه، كنت أقلب في الرواية حتى وصلت لأغنية الختام التي صاغها «شنن» بروعة يحسد عليها.
حبيبتي تعبت من تعبك
ومش قادر أجافيكي
وأقول يا رب يشفيكي
يا ريت العلة جت فيا
ومش فيكي
Página desconocida
يا ريت الروح بتتخصخص
وريش القلب يتقصقص
ولا يعلا علم غيرك في أراضيكي
يا ريت يا حبيبتي كان ليا
من بعد الحب والنية
مليون شراع على شراعي
مليون دراع على دراعي
واهد الذل من دارك وأبنيكي
قال الزمان عني
إني ماليش فيكي
Página desconocida
حاير ماليني الخوف
من غير نسب معروف
لا صيف قادر أكون ضلك
ولا في البرد ادفيكي
قولي يا مصر إني ابنك
لحم كتافي من تمرك
ودم عروقي من نيلك
ولو ماقدرش على حبك
كفاية أموت، أموت فيكي.
كنت أقرؤها، ويتردد في أذني صوت الشيخ «عبد الكريم» المنشد الذي عثر عليه «عماد » في أحد الموالد وأعجبه صوته، وأصبح ملازما لأفلامه، ورددت بصوت عال باللحن «كفاية أموت، كفاية أمووت، أموت فيكي» أفقت من حالتي حين سمعت صوتي فنظرت حولي فوجدتهم ينظرون مبتسمين جميعا، واختفت الشمس.
Página desconocida
انقلاب
تولى «عماد» من هنا زمام الأمور، وبدأ بالصياح بمكبر الصوت الذي وددت دوما معرفة من أين ابتلانا به. «مكيااااج! ملاااابس ...» والجميع يجيب: «تمام»، جميع الممثلين في أماكنهم، «حسام فوزي» في السيارة (سير مايلز لامبسون)، «أحمد بيومي» بملابس الصيد البورسعيدي (سيد دنيس)، كان المشهد بسيطا جدا؛ السيارة تصل لباب القصر الخارجي وتقف، وينزل منها سير «مايلز لامبسون» من زاوية رؤية «سيد دنيس» والباقي حركة الكاميرا بين جموع المناظر الخشبية للدبابات والمدرعات والمجنزرات البريطانية وسط عسكرهم، «إضاءة ...»
وحبس الجميع أنفاسهم «أكشن».
صار كل شيء حسب المخطط له، ونزل سير «لامبسون» ووقف أمام الباب الحديدي، وبدأت الكاميرا في التحرك واستعد «دنيس» للدخول في المشهد، وحدث ما لم يكن مخططا له.
فتح الباب الداخلي للقصر، وخرج منه مجموعة من الجنود بملابس الحرس الجمهوري، وهرعوا للباب الحديدي، قطعوا المسافة تقريبا في «لا وقت»، حاملين بنادقهم، تسمرنا جميعا، و«عماد» رافع يده للكاميرا كي لا يتوقف المصورون عن التصوير، وصل الجنود سريعا للباب الخارجي وفتحوه أمام ذهول الجميع، وذعر «حسام فوزي»؛ فهو حقا لم يكن المندوب السامي البريطاني، فنظر «لعماد» وأخذ يتلفت بين الجنود و«عماد» تحركنا أنا و«شعراني» سريعا، ونظرت للرائد «عمر» أملا أن يتحرك بدوره فينقذنا مما وقعنا فيه، ولم ندركه بعد.
يبدو أن نظرتي متعارف عليها في علوم الاستغاثة الأمنية، فتحرك الرائد «عمر» سريعا أيضا، وتحدث أحد الجنود ويبدو أنه قائد تلك المجموعة: «مين صاحب الحاجات دي؟» وهو يشير للمناظر الخشبية، حاول «شعراني» إخباره بأننا نحمل جميع التصاريح، وتم تسليم نسخة منها للديوان الرئاسي، لكن يبدو أن قائد المجموعة يفقد القدرة على السمع بشكل متعمد، فلم يصغ له ولا للرائد «عمر» حتى صاح الأخير في قائد المجموعة، ويبدو أنه يعلوه رتبة: «الباشمهندس صاحبها، خير يا حضرة الظابط فيه إيه ؟» وأشار إلي.
تماسكت منتظرا رده لنعرف حدود جريمتنا، لكنه لم يجب بل أشار لجنوده، والتفت وأشار مباشرة نحوي، فهرعوا جميعهم في اتجاهي مزيحين «شعراني» والرائد «عمر» نفسه، وأحاطوني بصفين وقائدهم يتوسطهم ويقف أمامي، وأشار لهم مرة أخرى فألقوا ببنادقهم على الأرض.
صاح الرجل بشكل مسرحي: «قيادة سرية حراسة القصر الجمهوري تعلن استسلامها وتسلم سلاحها»، وختم عبارته بوقفة عسكرية منضبطة، وأدى التحية العسكرية، وأنا متحجر الملامح من الذهول والذعر، وتبدلت رغبتي العارمة في الضحك من تلك الحركة المسرحية التي أظنها بالفعل «حركة» قام بها «شعراني» إلى التجمد أمام صرامة ذلك الرجل، ويبدو أنني لم أكن المتجمد الوحيد، بل كانت سحابة من عدم الفهم ألقت ثقلها على المكان، ولا أعرف كم مضى من الوقت منذ تم ضغط زر إيقاف الصورة؛ فالجميع ثابتون بالفعل كما تتوقف صورة على شاشة العرض.
لمحت الحركة الوحيدة في المشهد عند الباب الداخلي للقصر، الذي خرج منه رجل متأنق وتحرك بعكس الجنود بخطوة منتظمة، غاية في الرسمية، تتناسب مع حلته السوداء وحذائه اللامع، وحين تعلقت عيني به تحولت كل الأنظار إليه، كما لو كان «شمبليون» الذي سيقوم بفك طلاسم الموقف لنا، مضى الوقت بطيئا جدا حتى وصل إلينا، تنحى الجنود قليلا في احترام لهذا السيد المبجل، والتفت له قائدهم، ومال عليه، لا أعرف ماذا قال له، لكن بدا على السيد المبجل علامات الفهم فتقدم نحوي ومد يده مصافحا: «محسن رضوان، رئيس ديوان رئيس الجمهورية.» فمددت يدي بتلقائية: «محمد عبد الفتاح، مهندس معماري.» ابتسم الرجل ابتسامة خبيثة، كما لو كان يريد إخباري بأنه يعرف أنني كاذب، فرفعت حاجبي وأومأت برأسي منصتا لما سوف يقوله، فشعر الرجل بالحرج. - أنا باستأذن من معاليك إن الريس يتحرك لبيته في عربية الرياسة لحين النظر في موضوع نقل السلطات ...
علت بعض الهمهمات من حولي، وكدت أفقد الوعي من شدة غبائي، فلم أفهم أي كلمة مما قال؛ من هو ذلك ال «معاليك» الذي يقصده؟ ولماذا يحتاج الرئيس إلى إذن؟ وماذا يقصد بنقل السلطات؟ أي سلطات ؟
Página desconocida
بدأت أشعر بالدوار، فتلفت حولي لأرى أنني أقف في مركز دائرة من جنود الحرس الجمهوري، تكبرها دائرة أخرى من قوات مكافحة الشغب، وبينهما يقف الرائد «عمر»، وبجواره «عصام» و«شعراني» و«حسام فوزي» و«عماد»، ثم دائرة أكبر من الكومبارس بملابس الجيش البريطاني، فدائرة أكبر من قوات مكافحة الشغب مرة أخرى، بينهما النقيب الذي لا أعرف اسمه، و«حسن» و«أحمد بيومي»، ثم جموع من العامة الذين كانوا يشاهدون التصوير، كانت إحدى اللوحات المرسوم عليها دبابة قد سقطت من تلك التحركات محدثة دويا بدا مريعا في ظل الصمت المطبق على المكان.
التفتنا جميعا بلا استثناء إليها، فإذا «بأبو ميار» يقفز لينقذها، وتسارعت كافة الأحداث، السيد المبجل يقول: «أنا منتظر رد معاليك»، الرائد «عمر» يشير للنقيب، النقيب يشير لجنوده، يهجم الجميع على «أبو ميار» ويوسعوه ضربا مبرحا، وهو يصيح: «الحقني يا ريس، الحقني يا ريس!» وكأنه أطلق الكلمة السحرية.
الرائد «عمر» يقتحم المسافة بيني وبين السيد المبجل، بينما السيد المبجل ينسحب قائلا: «الرسالة وصلت.» يستوقفه الرائد «عمر» قائلا: «الريس (مشيرا إلي) هايديكم ساعتين تسلموا القصر، وممكن تتحركوا بعربيات الرياسة، وعربيتي هاتطلع معاكم، و...» لم أتمالك نفسي فسقطت مغشيا علي وأنا أسمع همهمة تحولت لصراخ: «الريس وقع، الريس وقع.» وشعرت بمن يحملني وفقدت الوعي.
رحيل الملك
كانت السماء صافية جدا، وصبغت الشمس بأشعتها كل شيء بهالة ذهبية، تمتد خيوطها لتستقبل الملك في رحلته الأخيرة، ما زال الكهنة في غرفة التحنيط بالمعبد الكبير يلفون الكتان المعطر والخيش الناعم، يضعون اللمسات الأخيرة بعد أربعين يوما من الانتظار، آلاف «الأوشباتية» تملأ بيت الأبدية حيث سيرقد جسد الملك، هذا سيعد الخبز، وهذا سينقي العسل، وهذا خادم النبيذ، تلك من ستقوم بالعزف، فالملك يرق قلبه كثيرا لعزفها، أما تلك فهي راقصته المفضلة.
الكاهنات ما زلن يلعبن بأوتار قيثاراتهن، وكبيرتهن ترثي ملكها برقصة وداع، تتضرع فيها لآمون أن يحفظ جسد ملكها، وألا تضل الروح طريقها، سترشدها بإيقاع خطواتها إلى حيث يرقد الملك، تسجد ل «أنوبيس» وتعده بأن تهبه نفسها، لو أنار قبر الملك وحماه من «ست»؛ ذلك الإله المظلم القلب الذي قتل «أوزوريس»، وفقأ عين ابنه «حورس»، تقدم ابتهالاتها لتاسوع هليوبوليس المقدسة، ثم تتمدد على الأرض بجسد مشدود، يغطيه الكتان الأبيض الناعم، ليدخل ثمانية من الكهنة يتقدمهم الكاهن الأعظم، يرتدون أقنعة ذهبية للتاسوع المقدس، ويسكبون على الكاهنة الممدة الماء، والعسل، والنبيذ، والدم، والحليب.
تأتي مجموعة أخرى من الكهنة بأقنعة أنوبيس، لتلعق جسدها، والمعازف تصدح أوتارها، والأبخرة المقدسة تملأ القاعة الأخيرة، أمام قدس الأقداس، وبجوار غرفة التحنيط، ويستمر الطقس ليتحول من الابتهال لصرخات الاستغاثة، وينتهي بقربان للإله «ست»؛ فتاة عذراء، لا تكاد تبلغ التسعة أعوام، يتم نحرها على مذبح صغير، ويتقدم الجميع ووجوههم مغطاة بالأقنعة، ليتذوقوا دماءها، طقس غريب، أثار هلعي، مما أثار بعض الشكوك، فلم أتحرك نحو المذبح مع الباقين، وتوجه بعض الأنظار من خلف الأقنعة نحوي، وبرغم كوني محتميا بقناع ذهبي أيضا، إلا أنني شعرت بالنظرات تنهشني، وفكرت في الهرب من القاعة، بالفعل بدأت في التحرك ببطء شديد للخلف، إلا أن دقة قوية من صولجان الكاهن الأعظم بالأرض قد سمرتني بمكاني.
اقترب مني قليلا وقرع بصولجانه الأرض مرة أخرى حتى أتبعه، فتحركت خلفه في الجهة المقابلة لغرفة التحنيط بشكل عمودي على المحور الرئيسي للمعبد، وما إن قطعنا بهوا صغيرا للأعمدة حتى دلفنا يسارا، وعبرنا أحد الأبواب السرية التي فتحها بعدة قرعات على الأرض بصولجانه، فانزلق الباب يمينا مفسحا لأحدور صغير تظهر في نهايته المشاعل، وسمعت صرير الباب وهو يغلق من خلفي، وصلنا لبهو صغير، تتوسطه مصطبة مرتفعة تشبه مصطبة التحنيط، وأشار لي أن أجلس في مقابلة المحراب الذي يقابل المحور الطولي للمصطبة، جلست على مصطبة حيث أشار، وأعطاني ظهره متوجها صوب المحراب.
ألقى ببعض عيدان الصندل على مبخرة ضخمة أسفل المحراب، وبدأ في تلاوة صلوات يبتهل فيها للعفو عن المخطئ، وبأنه سيعود لطاعة «آمون»، فما زال الصراع الأبدي بداخل المخطئ بين «الكا» و«البا» - أي القرين والروح الحرة بين العوالم - وعلت نبرته قليلا وهو يسأل «آمون» أن ينير ل «البا» طريق العودة، ثم التفت ليواجهني وأشار لي أن أرفع قناعي فرفعته دون تردد، أخبرني بأن الملك سيرحل اليوم ويجب أن أستعد للتتويج، أظهرت تعجبي؛ فوريث الملك وزوج ابنته هو من يجب أن يتوج على عرش البلاد، لكن الكاهن الأعظم كان له رأي مختلف، فابن الملك ووريثه يريد أن ينقل العاصمة من طيبة لمنف ويرحل معها الذهب، والجيش، وتهجر معابد «آمون» وتحل اللعنة بالبلاد كما حلت كلما ابتعد العرش عن طيبة.
لم أفهم لماذا اختارني أنا؛ فأنا لست أكثر من مهندس صغير بالبلاط، ولم أصمم سوى معبد صغير للملكة الأم، وضعت فيه كل ما تعلمته من فنون العمارة، والفلك، لكن لا أدعي بأني الأفضل؛ فهناك من هم أبرع مني بكثير، كما أنني لم أكن من المخلصين ل «آمون»، أو غيره من الآلهة، فكنت كثيرا ما أخالف المتون بيني وبين نفسي، ولم أشارك في أي من الطقوس الجنزية، أو صلوات تقديم القرابين كالتي كدت أهرب منها اليوم؛ بالطبع لم أكن الشخص المناسب لما يريده كبير الكهنة، ولا أعرف كيف سيتم الأمر في اعتقاده، لم يتركني كثيرا لصمتي بل أشار في الجهة المقابلة للمدخل، بأنني سأقيم هنا حتى تحل بي بركة «آمون» أو لعنته، وستكفلني بالرعاية كبيرة الكهنة وخادمة آمون، وأنني غير مسموح لي بالمغادرة قبل حلول «خنسو» - القمر - مرة أخرى؛ أي بعد ثمانية وعشرين يوما من الآن، أطلق كل أوامره كما لو كانت لعنات يلقيها إلي ثم انصرف.
Página desconocida