Caja del mundo
صندوق الدنيا
Géneros
ابن البلد
البلد القاهرة أو مصر - كما كانت، وكما لا تزال تسمى هذه العاصمة - أو طائفة من الأحياء هي الواقعة بين العباسية والسيدة زينب، وابنها شخصية شاع فيها الفناء علوا وسفلا، وعفت عليها المدنية فلا يكاد المرء يلتقي بها في هذا العصر، وما أسرع ما تداعت الأسوار وطغى عباب الحياة! قبل عشرين سنة فقط كنت ترى ابن البلد هذا «مستفيضا» وتلقاه في حيثما تكون ولا تخطئه عينك وهي تدور بلحظها، فهو رجل دنياه مصر أو تلك الأحياء القديمة منها، لا يعرف غيرها ولا يكاد يدري أن فوق ظهر الأرض سواها، وهبه يدري فما أقل ما يعبأ بذلك أو يحفله، والزمن عنده اللحظة التي يكون فيها، وهو ذكي إلا أنه جاهل، وظريف سوى أنه مغرور، وحي ولكنه لا يحيا إلا بحراسة، تدور الدنيا حوله على محورها أو على قرن الثور الذي يحملها ويدور رأسه معها ولكنه لا يعرف ولا يرى شيئا ولا يسأل عن شيء ولا يكترث لشيء ويحتقر الريف لأنه يجهله، ويزدري المدنية لأنه لم يألفها، ويعتز بنفسه ويستضخم أمرها؛ لأنه سهر الليالي وأحياها بالغناء والشراب والعربدة، وهو مثال الرضا عن النفس والجود الذي يخلفه هذا الرضا، وإذا كان يرى كل شيء من قريب فما من شيء يدعوه إلى العجب أو يبتعث الرغبة في الاستطلاع، وكل إحساس له يصل إليه عن طريق الفكاهة، وأشد ما يبغض أن يضطر إلى الجلد والوقار، وليس في نفسه محل للاعتراف بالجميل، والأمر عنده مجاملة متبادلة أو حق له أن يجيبه وعليك أن تؤديه، هو المثل الأعلى لنفسه - أو لعله جار سابع أو ثامن - فليس لغير نفسه احترام ولا مطمح له إلا أن يظل قادرا على التحفظ بمظهره، فلا عناية له بالسياسة أو شئون الحكم، وبحسبه من العلم بالحكومة ومهماتها أن يرى مواكب رجالاتها، ومن التطلع إليها أن يتصور نفسه راكبا مركبة المحافظ أو أن يكون ممن يحظون بالدخول على «رياض باشا».
يفتح عينه على الدنيا كل يوم قبيل الظهر، فتنحى الستائر عن النوافذ ويؤذن لنور النهار أن يدخل، وبعد أن يقضي ما يشاء من الساعات التي تأبى إلا أن تكر في التمطي والتثاؤب وتناول الطعام والقهوة المرة مذابا فيها العنبر، يقوم إلى ثيابه فينتقي منها جبة وقفطانا منسجمين متجاوبين ثم يلف العمامة - ولفها مهمة شاقة قد يستغرق بقية النهار إلى العصر - ثم ينزل إلى المنظرة ويتلبث بها ريثما يشرب القهوة ويشد أعصابه، ثم يخرج إلى دكان بدال أو حلاق أو عطار أو غير هؤلاء، ويتوافى الرفاق وتروى أنباء السهرات. ويسأل السائلون عن «عبده» أو «عثمان» أين يغني الليلة؟ ويتفق الإخوان على مكان يجتمعون فيه وشراب يجلسون إليه. ثم يتحاملون بعد أن يقضوا وطرا من النهار إلى المغنى ولعلهم غير مدعوين فيظلون إلى طلوع الشمس في آهات صاخبة وضوضاء ترجع ما بقي من الرأس وتزلزل الكيان.
ومجالس أبناء البلد نكات خشنة وضحك مقرقع. وأعذب ما يكون طعم الحياة في أفواههم حين يركبون صاحبا لهم بدعاية عملية. أعرف واحدا من أظرف أبناء البلد وأكرمهم وأرقهم حاشية لا يرضى عن نفسه إلا إذا استطاع أن يوقع واحدا ممن يسهل التماجن عليهم في مأزق أو يزج به في ورطة. وكان يستثقل ظل واحد من حراس المقابر. وكان هذا لا يفتأ يغشى مجلسه وينغص عليه لذاته البريئة بتذكيره بالموت وإحضاره إلى ذهنه. فأراد أن ينفيه عن هذا المجلس فأوعز إلى خادم فاستأجر هذا مكاريا وبعثه برسالة إلى صاحبنا الحارس مكتوبة على لسان تاجر معروف، والدته مريضة يدعوه فيها إلى الحضور إليه بأسرع ما يستطيع للاتفاق على بناء مقبرة، فجاء المكاري إلى الحارس بالرسالة ففضها فتهلل وجهه وراح يحسب الربح المنتظر من وراء هذه «المقاولة»، فلم يصرف المكاري بل ركب الحمار ومضى إلى التاجر ودخل عليه وحياه ودار بينهما حديث:
الحارس :
إن شاء الله تكون الوالدة بخير.
التاجر :
بخير، بارك الله فيك.
الحارس :
هل هي مريضة جدا؟
Página desconocida