Caja del mundo
صندوق الدنيا
Géneros
بعد أربعة شهور، عدت من الجبل بعد غيبة طويلة فألفيت اللغز يمشي على قدميه مثلنا ويذهب حيث يشاء وحده، وينطق بما يشبه كلامنا فيقول «بابا، ماما، أومبو»، فهل علمته حواء؟ لا أدري، وقد نبتت له أسنان ولم ينبت الذيل. ولما كنت سأعود إلى الجبل غدا فسأشير على حواء بأن تكممه.
بعد خمسة شهور أخرى، في كل طوافي وتجوالي في الجبال والغابات والأدغال والأودية والسهول لا أعثر على ند لهذا اللغز، وحواء تجد في الكوخ - نعم في الكوخ ومن غير أن تنقل قدما - لغزا آخر شبيها بالأول من كل الوجوه، فهو من فصيلته ولا ريب، وقد سمته هابيل، وحسنا فعلت، فإن اللغزين شبيهان فما أحقهما بأن يكون اسماهما متقاربين. وقد سرني أنها وجدت للغزها الأول مؤنسا، فما أشك في أنه كان يألم هذه الوحدة ويحن إلى قومه.
اقترحت على حواء أن تدع لي اللغز الجديد أجري فيه تجاربي لعلي أهتدي إلى نوعه وأن تجتزي هي بالأول فأبت أن تصغي إلي، ولم تطق كلامي واحتملتها وخرجت، وتوعدتني بالنزوح عن هذه البقعة من الأرض إذا لم أكف عن التفكير في ذلك. ولست أفهم ذلك من حواء وما أراها إلا جنت تماما؛ لأنه إذا كان قد ثبت أن هناك ألغازا كثيرة، وكانت هي قد وجدت منها اثنين - وجدتهما وحدها وبلا معين - فماذا يضيرها أن تلقي إلي بأحدهما وهي لا محالة واجدة غيره في يوم من الأيام قياسا على ما حدث؟ الحق أن منطق المرأة غريب. ولم أكن أريد إلا أن أفحصه في أوقات الفراغ، فقد خطر لي من حسن تقليده لحواء ولي أيضا أنه ربما كان نوعا طريفا من القرود. ولكن حواء فقدت عقلها، فهي لا تعبأ بشيء من هذه الدنيا سواهما، ولا تأتمني عليهما لحظة.
بعد ثمانية شهور، قالت لي حواء اليوم وعينها تلمع إنها «ستضع» واحدا آخر، ولم أفهم منها قولها أنها «تضع» هذه الألغاز، وهذه الأكاذيب بعض ما يسخطني ويثيرني عليها، ولكني أحسب المرأة لا تكون امرأة إذا لم تكذب، فسألتها عمن أدراها أنها ستجد لغزا جديدا فقالت: بالتجربة. قلت: أية تجربة؟ فمضت بي إلى ركن مظلم في الكوخ وأسرت إلي بصوت خفيض جدا، كأنما كان هناك أحد يسمعنا: إن اللغز معي الآن. فنهضت مذعورا وقلت: معك كيف؟ ودرت حولها أنفضها بعيني فلم أجد معها شيئا. فقالت: إنه في جوفي. فارتعت وقلت: أتراك يا ... قد أكلت أحدهما؟ وتراجعت عنها فضحكت ... إن حواء تخيفني. فلن أنام في الكوخ معها بعد اليوم.
بعد بضع سنين، لقد حللنا اللغز وعرفنا أن هذه الخلائق الجديدة بنونا. وهم الآن أربعة: قابيل وهابيل وبنتان. ولنا العذر إذا كان الأمر قد خفي علينا في مبدئه، فما سبق لنا بمثل ذلك عهد. وهابيل صبي وديع رضي الخلق وهو أحب إلينا من أخيه قابيل الذي أوثر أن يبقى كما كان يوم جاءنا دبا أو قردا أو غير ذلك مما توهمته في صدر حداثته. وقد أدركت الآن أن حواء أصدق مني فراسة وأذكى غريزة وقد زاد حبي لها وعطفي عليها. هي التي تنسيني الجنة وماذا كانت الجنة قبل أن أعرفها.
عاطفة الأبوة
1
قلت مرة لزميل من المدرسين الإنجليز، رزق غلاما: أتحب غلامك هذا؟
فأدهشه سؤالي ولم يخف تعجبه له، وتوهم بادئ الأمر أني أتكلف التشكك، فلما بدا لي منه هذا الريب في صدق سريرتي سألته: أتظن أن فقد الأبناء في طفولتهم يكون كفقدهم بعد أن يرشدوا، ويدخلوا في مداخل الرجال من حيث وقع ذلك في النفس؟
قال: كلا. وإن كنت ولله الحمد لم أجرب هذا أو ذاك.
Página desconocida