إن دعاة الاشتراكية الأولين كانوا على الأغلب دعاة أخلاق وكان أتباعهم أصحاب ضمائر وآداب، ولم يكن أحد يقاوم الاشتراكية غير أصحاب الأموال الذين رانت على نفوسهم الأثرة فلم يكترثوا لما يصيب الجماهير، وإذا كانت المشكلة الاجتماعية تدور على توفير الرزق للعديد الجم من بني آدم كان ذوو النظر والصلاح القائمين بالدعوة الاشتراكية أهلا للعطف والتأييد من الكثيرين، ثم راج المذهب فأخذت الأحزاب الاشتراكية في الظهور، واطرد نموها وانتظامها وسرت دعوتها إلى كل أمة.
غير أن الاشتراكيين الأوائل كانوا جميعا طوبيين يطمحون إلى بناء دنيا مثالية يظللها السلم والسعادة ولا تسمع فيها شكاية، ولم يصفوا للناس طريقة فعالة لمنع الشكاية والشقاء.
وهنا جاء ماركس فصرف عقله وذكاءه ومعارفه وتجاربه إلى تمحيص هذه الأمور ودراستها، وبنى آراءه الجديدة جميعا على القواعد الاقتصادية، وأنحى على الاشتراكيين السالفين لتعويلهم على ضمير الفرد وشعور الجماعة في حل مشاكل الاقتصاد التي لا تجدي الأخلاق ولا تجدي العواطف في حلها، وقال: إن المهم قبل كل شيء هو درس أطوار الاجتماع، وصدر في مبادئه عن رعاية مطلقة للوقائع دون النظريات والأمثلة العليا.
ثم تشعبت المذاهب الاشتراكية بعد ماركس إلى شعبتين: شعبة الطوبيين وشعبة العلميين، وهؤلاء ينادون باستخدام الأساليب العلمية لعلاج المشكلات الاجتماعية، فكل دراسة في هذا العصر الذي تتقدم فيه الحضارة المادية على عجل وتتعاظم فيه قوة العلم ينبغي أن تقام على القواعد العلمية كي تثمر وتفيد، ولا يحق لنا أن نترقب حلا لمشكلة من المشكلات قبل تناولها بالبحوث العلمية.
إن ماركس يؤكد الجانب المادي في دراسته لمسائل المجتمع، ومتى تناولت القوى المادية فأنت مواجه مسألة الإنتاج قبل كل شيء ... وحيث لا يوجد إفراط في الإنتاج لا توجد بالبداهة ثورة صناعية، وعلى هذا يحل الإنتاج المحل الأول من الأهمية في علم الاقتصاد الحديث، فإذا شئت أن تفهم أحوال الاقتصاد الحديثة فلا معدى لك عن فهم الوقائع التي تتعلق بالإنتاج.
وقد أصبح الإنتاج على نطاق واسع ميسورا في العصر الحديث بالعمل والمكنة، أو باشتراك رأس المال والمكنات واستخدام الأيدي العاملة، وتذهب أرباح هذا الإنتاج في نطاقه الواسع على الأكثر إلى أصحاب الأموال فلا يجني العمال منها غير قسط ضئيل.
ولهذا تصطدم مصالح أصحاب الأموال ومصالح العمال على الدوام، وتنفجر حرب الطبقات حين لا يوجد الحل المرضي بين الفريقين، ويعتقد ماركس أن حرب الطبقات لم تأت تبعا للثورة الصناعية، بل كان التاريخ الماضي كله قصة حرب بين الطبقات: أو بين السادة والعبيد، أو بين أصحاب الأرض والأكارين، أو بين النبلاء والعامة، أو بالإيجاز بين كل غاصب وكل مغصوب، ولن تكف هذه الحرب حتى تبلغ الثورة الصناعية مداها من النجاح.
وواضح من ذلك أن ماركس يعتبر حرب الطبقات ضرورة من ضرورات التقدم الاجتماعي، وأنها في الواقع هي القوة الدافعة لذلك التقدم، فحرب الطبقات هي السبب والتقدم الاجتماعي هو النتيجة.
على أن التوفيق بين معظم المصالح الاقتصادية في المجتمع إذا أمكن فمعظم الناس ينتفعون بهذا التوفيق والمجتمع يتقدم، ونحن لا نحاول التوفيق بينها إلا لعلاج هذه المشكلة: مشكلة المعيشة وتوفير المئونة.
ومن قديم الزمن بذل الإنسان جهده لحفظ كيانه، وكان صراع الإنسان لاستدامة وجوده باعثا للتطور الذي لا ينقطع في أحوال المجتمع، وذلك هو قانون التطور الاجتماعي، فليست حرب الطبقات باعث التقدم الاجتماعي، بل هي داء يتعرض له المجتمع أثناء التطور، وعلة الداء هي العجز عن توفير الرزق، والحرب هي نتيجة هذا الداء.
Página desconocida