وجاوز الأمر عندها مقت الدستور إلى مقت كل مقترح يأتي من جانب حزب الإصلاح، فوضعت يدها على المال المجموع لإنشاء السفن الحربية التي ظهر من هزائم الصين المتوالية أنها في مسيس الحاجة إليها، فأنفقته كله على تشييد قصر في حديقة واسعة تقضي بها ليالي السمر واللهو ومن بعدها الطوفان!
لو كان لهذه الوصية على عرش الصين دور مرسوم، وكان دورها المرسوم أن تجهز عليه وتفض الأنصار من حوله، لما استطاعت أن تعمل للنجاح في هذا الدور غير ما كانت تعمله وهي تحسب أنها تدعم العرش وتقوي سلطانه وتشل أيدي المتآمرين عليه.
فلم يبق أحد من المفكرين يعتقد إمكان الإصلاح مع بقاء هذا النظام العتيق، وانقلب دعاة الإصلاح من طريق الحكومة القائمة إلى صفوف أعدائها الألداء، ولولا حماية السفارات لأولئك الدعاة حين لاذوا بها لمثلت بهم كما مثلت بغيرهم من أنصار الحياة النيابية وتجديد نظام الحكم ونشر التعليم الحديث.
واتفقت الآراء جميعا على حصر العلة كلها في الأسرة المتداعية، فلم يبق لها من نصير غير طائفة من غلاة المحافظين، تطوعوا للدفاع عنها سخطا على عدوان الأجانب لا جهلا بعيوبها وجرائمها، فكانت حركتهم المشئومة نكبة فوق النكبات المطبقة، وعجلت بسقوط الأسرة من حيث أرادوا لها التماسك والبقاء.
تطوعت بهذه الحركة جماعة «آي هو شوان» أي الملاكمين المستقيمين المتآلفين، هم الذين اشتهروا باسم «اليوكسرز» بين الأوروبيين.
وراحت هذه الطائفة تعرض ألعاب الملاكمة والمسابقة والطعن بالمدى والخناجر وتستهوي بها طلاب الفتوة من الشبان، ثم تتدرج في تلقينهم مقاصدها السرية وهي بعبارتها الدينية «طرد الشياطين المتطفلين»، ثم أخذت شيئا فشيئا تجهر بمقاصدها هذه وتهتف علانية بتأييد القصر ولعن الأجانب الشياطين. وادعى أحد زعمائهم أن إله الحرب «كوانج كونج» جاءه في الحلم وأنبأه بفناء الأجانب جميعا بعد أيام. وادعى زعيم آخر أن التنينات الخمسة الساهرة على مدخل نهر تاكو أنبأته أنه ما من أجنبية تجترئ على الدنو منه إلا غرقت بمن فيها.
وزينت السخافة للوصية الخرقاء أن هذه الحركة كفيلة بقطع دابر الأجانب وطرد بقيتهم من البلاد، ولم تخف ممالأتها لها، بل أرسلت (في العشرين من شهر يونيو سنة 1900) إلى السفارات تشهر الحرب على أجانب العالم أجمع، وتنذر السفراء وأتباعهم بمغادرة العاصمة خلال أربع وعشرين ساعة، وزحف الملاكمون بعمائمهم الحمر وسيوفهم المشهورة فاقتحموا معاهد الأجانب وقتلوا من فيها، وضربوا على السفارات حصارا دام نحو شهرين، ثم وصلت جيوش الدول - أمريكا واليابان وروسيا وإنجلترا وفرنسا وألمانيا والنمسا وإيطاليا - فارتفع الحصار وانقلبت الحرب إلى مذبحة وحشية لا تذكر إلى جانبها وحشية العصابات من الملاكمين وغوغاء الطريق.
أما تلك الخرقاء التي أغرقت عاصمتها في بحر من الدم فقد حملت العاهل الناشئ معها وهربت إلى الغرب مستخفية، ولم تنس صغائرها الأنثوية في تلك المحنة الدامية فلم تبرح العاصمة حتى أغرقت الجارية الأثيرة عند العاهل الصغير؛ لأنها همت باللحاق به خوفا عليه.
ثم أمليت شروط الصلح فإذا هي تقضي بتسليم زعماء الثورة فسلموا، وبهدم جميع المعاقل على طريق العاصمة فهدمت، وبفرض غرامة تبلغ خمسة وستين مليون جنيه، فدفع منها ما حضر وبقيت أقساطها عبئا على كواهل الأمة أربعين سنة بعد ذلك التاريخ.
هذا مثال من الفارق بين حركات الشمال وحركات الجنوب في البلاد الصينية، فالغالب على حركات الشمال حيث يضعف أثر الحضارة أنها عصبية جامحة تندفع ولا تدري عاقبة اندفاعها، والغالب على حركات الجنوب حيث طالت آماد الحضارة وتتابعت الصلة بالعالم الخارجي أنها تمهد بالثورة لنظام معلوم.
Página desconocida