Summary of Islamic Jurisprudence in Light of the Quran and Sunnah
مختصر الفقه الإسلامي في ضوء القرآن والسنة
Editorial
دار أصداء المجتمع
Número de edición
الحادية عشرة
Año de publicación
١٤٣١ هـ - ٢٠١٠ م
Ubicación del editor
المملكة العربية السعودية
Géneros
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة
إنَّ الحَمْدَ للهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِيْنُهُ، وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا، وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لا إلَهَ إلَّا اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.
﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (١٠٢)﴾ [آل عمران/ ١٠٢].
﴿... يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا (١)﴾ [النساء/١].
﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (٧٠) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا (٧١)﴾ [الأحزاب/٧٠ - ٧١].
أما بعد: فإن خيرَ الحديثِ كتابُ الله، وخيرُ الهُدَى هُدَى محمدٍ ﷺ، وشرُّ الأمورِ مُحْدثَاتُها، وكلُّ مُحْدَثة بِدْعةٌ، وكلُّ بِدْعَةٍ ضلالةٌ، وَكُلُّ ضَلالَةٍ في النَّارِ.
أخي المسلم الكريم:
لا ريب أن الفقه في الدين أفضل الأعمال وأزكاها وأشرفها وأعظمهاوأجلها، فهو معرفة الله بأسمائه وصفاته وأفعاله، ومعرفة دينه وشرعه، ومعرفة أنبيائه ورسله، والعمل بموجب ذلك إيمانًا واعتقادًا .. قولًا وعملًا ..
1 / 5
قال النبي ﷺ: «مَنْ يُرِدِ اللهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّيْنِ» متفق عليه (١).
وحيث أن المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضًا، ولتفشي الشرك والجهل، وانتشار البدع والمعاصي وغيرها مما عمَّ وطمَّ، وقيامًا بواجب الدعوة إلى الله، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وتذكرةً لنفسي وإخواني، طالبًا مرضاة ربي أولًا، وعسى أن يتفقه طالب، ويتعلم جاهل، ويتذكر ناس، ويتوب عاص، ويهتدي ضال، ويلين قاس، لذا رأيت من واجبي وشكرًا لنعمة الله عليَّ مشاركة إخواني في نشر هذا الدين، والدعوة إليه.
فيسَّر الله لي بمنِّه وفضله، وتوفيقه وعونه، وضع هذا الكتاب وإعداده، وجمعه وترتيبه من كتب متعددة، ومراجع متنوعة في التوحيد والإيمان، والأخلاق والآداب، والأذكار والأدعية، والأحكام ... الخ.
وقد جاء الكتابُ بفضل الله مزينًا ومتوجًا بالآيات القرآنية الكريمة، والأحاديث النبوية الصحيحة، وجعلته في الفروع على قول واحد، راجيًا من الله أن يكون هو الصواب، وذلك ليسهل على المستفيد - وخاصة المبتدئ - تحصيل مطلوبه بيسر.
وقد اختصرته وسهَّلت أسلوبه وعرضه لينتفع به العالمُ والمبتدئ، بقليل من الوقت، ويسير من الجهد.
فجاء الكتابُ بفضل الله وحده مملؤًا بالعلم، خفيفًا في الحمل، وسطًا في الحجم.
_________
(١) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (٧١)، ومسلم برقم (١٠٣٧).
1 / 6
يستفيد منه العابد في عبادته، والواعظ في وعظه، والمفتي في فتواه، والمعلم في تدريسه، والقاضي في حكمه، والتاجر في معاملاته، والداعي في دعوته، والمسلم في سائر أحواله .. فللَّه الحمد والمنَّة، وهو المحمود أولًا وآخرًا.
وقد اخترت عامة أصوله ومسائله في الفروع من كتب الفقهاء المطولة والمختصرة وغيرها، إلى جانب فتاوى كبار علماء السلف في الماضي والحاضر، واعتمدت الراجح من أقوال الأئمة الأربعة أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد ﵏ وغيرهم من علماء الإسلام إذا ظهرت قوة دليله.
وقد اجتهدت أن تكون مسائلُ الكتاب في أبواب التوحيد والإيمان والأحكام وغيرها مبنيةً على الأدلة الشرعية من الكتاب والسنة الصحيحة، أو من أحدهما.
وما لم يرد فيه نص صريح صحيح اعتمدت فيه أقوال واختيارات الأئمة المجتهدين من سلف الأمة في الماضي والحاضر.
وبسطت ذكر الأدلة الشرعية في أبواب التوحيد والإيمان، والعلم، والفضائل، والأخلاق، والآداب، والأذكار، والأدعية؛ لحاجة كل مسلم إلى ذلك.
واكتفيت غالبًا بالحكم عن الدليل والتعليل في جميع أبواب فقه الأحكام؛ لئلا يطول الكتاب، وتتشعب مسائله، ويخرج عن الهدف الذي كُتب من أجله.
ومن أراد معرفة الأدلة الشرعية فليطلبها في كتب الفقه المطولة كالمغني، والفتاوى، والأم، والمبسوط، والمدونة وغيرها من كتب الفقه والحديث.
1 / 7
ومن أراد بسط مسائل أعمال القلوب بأدلتها من الكتاب والسنة فليرجع إلى كتابنا (موسوعة فقه القلوب) (٤) مجلدات، ومن أراد بسط مسائل التوحيد والإيمان والأحكام الشرعية بأدلتها من الكتاب والسنة فليرجع إلى كتابنا المبسوط (موسوعة الفقه الإسلامي) (٥) مجلدات.
وأحيانًا أذكر الدليل في مسائل الأحكام إما لأهمية المسألة، أو كثرة وقوعها، أو للترغيب بها، أو الترهيب منها.
والمادة العلمية للكتاب تستند إلى أصلين عظيمين هما: القرآن الكريم، والسنة النبوية الصحيحة بفهم سلف الأمة.
وقد وفقني الله فعزوت الآيات القرآنية الكريمة إلى مكانها بذكر اسم السورة ورقم الآية.
أما الأحاديث النبوية: فقد اجتهدت ألّا أُثبت في الكتاب إلا ما كان حديثًا صحيحًا، أو حسنًا، مع ذكر مصدره في كتب الحديث، والحكم عليه بالصحة أو الحسن كما يلي:
١ - تم نقل وضبط جميع الأحاديث الواردة في الكتاب من أصولها الصحيحة.
٢ - إذا كان الحديث في صحيحي (البخاري ومسلم) ذكرت رقمه في كل منهما، وإن كان في أحدهما ذكرته مع رقمه فيه، وأحيانًا أذكر مع أحدهما مَنْ أخرج الحديث في كتب السنة الأخرى لزيادة فائدة وأثبت لفظه.
٣ - إذا كان الحديث في غير الصحيحين كالمسند، والسنن الأربع، والدارمي
1 / 8
وغيرها من كتب السنة الأخرى ذكرت له مصدرين، وأحيانًا أقل، وأحيانًا أكثر، مع ذكر رقمه في الأصل.
٤ - اعتمدت في تخريج الأحاديث ذكر رقم الحديث من مصدره، وإذا لم يكن للمصدر ترقيم عام ذكرت رقم الجزء والصفحة.
٥ - إذا كان الحديث في غير الصحيحين، فعند التخريج اعتمدت كتابة (صحيح أو حسن) أمام كل حديث للحكم بصحة الحديث أو حسنه، مستندًا في ذلك إلى أئمة هذا الشأن من المتقدمين والمتأخرين.
٦ - إذا تكرر الحديث في موضع آخر كررت تخريجه معه غالبًا، وأحيانًا أُدرج الحديث الصحيح أو بعضه لبيان حكم، أو ترغيب، أو ترهيب.
والكتاب الذي بين أيدينا تعريف عام بدين الإسلام، عقيدة وأحكامًا، وأخلاقًا وآدابًا، جمعت فيه ما تفرق، وألّفت بين أبوابه ومسائله وأدلته.
وسميته «مختصر الفقه الإسلامي» أوله التوحيد والإيمان، وأوسطه السنن والأحكام، وآخره الدعوة إلى الله.
وقد جعلته في عشرة أبواب مرتبة على النحو التالي:
١ - الباب الأول: التوحيد والإيمان.
٢ - الباب الثاني: فقه القرآن والسنة في الفضائل، والأخلاق، والآداب، ... والأذكار، والأدعية.
٣ - الباب الثالث: العبادات.
1 / 9
٤ - الباب الرابع: المعاملات.
٥ - الباب الخامس: كتاب النكاح وتوابعه.
٦ - الباب السادس: كتاب الفرائض.
٧ - الباب السابع: كتاب القصاص والحدود.
٨ - الباب الثامن: كتاب القضاء.
٩ - الباب التاسع: كتاب الجهاد في سبيل الله.
١٠ - الباب العاشر: الدعوة إلى الله.
وهذا الكتاب المقصود منه معرفة الرب المعبود، وبيان أحكام الدين، وترغيب الناس في لزوم الصراط المستقيم.
وقد جاء هذا الوعاء الواسع للفقه بفضل الله وحده سهل المأخذ، داني القطوف، حسن الألفاظ، غزير المعاني، مختصر العبارة.
يسعف الغني والمحتاج بطلبته .. ويعينه على بلوغ غايته .. دون عناء أو سأم أو ملل.
محرك للقلوب إلى أجلِّ مطلوب. مشتمل على بدائع الفوائد .. ممتع للقارئ والسامع .. مثير ساكن العزمات إلى روضات الجنات.
يلامس القلوب المؤمنة .. ويداوي الجراح المنفجرة .. ويسكن الأوجاع الملتهبة .. ويطرد كل بدعة وجهالة .. ويقمع كل جبار ومنافق ومعاند.
1 / 10
جمعته وألفته ليكون جليسًا للمقيم، وزادًا للمسافر، وأنيسًا للمستوحش، وروضة للأسرة، ومأدبة للأمة.
وقد جاء هذا الغيث المنسجم بفضل الله جامعًا بين القرآن والسنة .. والمنقول والمعقول .. والترغيب والترهيب.
يَسْبح في فلك التوحيد والشريعة، ويقرر الحق والسنة والفضيلة، ويحطم الشرك والبدع والرذيلة.
أسأل الله ﷿ أن يجعله قرة لعيون الموحدين، ومصباحًا للمتعبدين، وزادًا للدعاة والمعلمين، ومنارًا للتائهين، ونورًا للسائرين.
وإليك أخي المسلم هذا الروض الذي تفتحت أزهاره، وطابت ثماره، وتفيأت ظلاله، وهو محض فضل الله عليّ ورحمته، ما كان فيه من صواب فمن الله وحده، وما كان فيه من خطأ فمن نفسي ومن الشيطان.
وأسأله سبحانه العفو عمّا زل به اللسان، أو وقع سهوًا في غير محله، فكل مؤلِّف ومصنِّف مع الحرص والتأني، وإمعان النظر، ومواصلة البحث والتأليف، وكثرة المسائل والأبواب، والبسط والاختصار قلما ينفك عن زلة، أو خطأ غير مقصود، خاصة في هذا الزمان الذي قلَّما يصفو للمؤلف فيه الذهن؛ لكثرة المشاغل والطوارق، وهجوم المنغصات والمزعجات، وتتابع البلايا والهموم.
وكل بني آدم خطّاء، وخير الخطائين التوابون، فنسأله المغفرة والرضوان.
1 / 11
والقلم كالمكلف يخطئ ويصيب، ويبدي ويعيد، وليس من زلة البنان والأذهان أمان.
فرحم الله مسلمًا شكر ما رآه فيه من صواب، وأرشدني إلى ما رأى فيه من خطأ، من ناصح أمين، وصادق حكيم، يعالج الجروح التي قلَّما يسلم منها أحد، ولا يكسر العظام، ويزرع الفتن بين الخاص والعام.
وهذا الدين العظيم بلا ريب لمن عمل به، ودعا إليه، وذب عنه، وصبر عليه.
وفي الختام أسأل الله الكريم أن ينفعني به والمسلمين، وأن يجعله خالصًا لوجهه الكريم، وأن يتقبله مني، وأن يغفر لي، ويتجاوز عني، وعن والديَّ، وأهل بيتي، وعن كل من قرأه، أو سمعه، أو انتفع به، أو علّمه، أو أعان على نشره، وعن المسلمين أجمعين، وهو حسبنا ونعم الوكيل، نعم المولى ونعم النصير، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
كتبه الفقير إلى عفو ربه
محمد بن إبراهيم بن عبد الله التويجري
المملكة العربية السعودية - بريدة
جوال: ٠٥٠٨٠١٣٢٢٢ - ٠٥٠٤٩٥٣٣٣٢
Mb_twj@hotmail.com
1 / 12
الباب الأول
التوحيد والإيمان
١ - التوحيد
٢ - أقسام التوحيد
٣ - العبادة
٤ - الشرك
٥ - أقسام الشرك
٦ - الإسلام
٧ - أركان الإسلام
٨ - الإيمان
٩ - من خصال الإيمان
١٠ - أركان الإيمان
١١ - الإحسان
١٢ - كتاب العلم
1 / 13
كتاب التوحيد والإيمان
١ - التوحيد
- التوحيد:
هو إفراد الله تعالى بما يختص به وما يجب له سبحانه.
بأن يتيقن العبد أن الله واحد لا شريك له في ربوبيته، وألوهيته، وأسمائه وصفاته.
ومعناه: أن يتيقن العبد ويقر أن الله وحده رب كل شيء ومليكه، وأنه الخالق وحده، والمدبر للكون كله وحده، وأنه سبحانه هو المستحق للعبادة وحده لا شريك له، وأن كل معبود سواه فهو باطل، وأنه سبحانه متصف بصفات الكمال، منزه عن كل عيب ونقص، له الأسماء الحسنى والصفات العلا.
قال الله تعالى: ﴿اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى (٨)﴾ [طه/٨].
- فقه التوحيد:
الله ﷻ واحد لا شريك له، أحد لا مثيل له في ذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله، له الملك والخلق والأمر وحده لا شريك له.
هو الملك وكل ما سواه مملوك له .. وهو الرب وكل ما سواه عبد له .. وهو الخالق وكل ما سواه مخلوق: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا (٩٦) فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا﴾ [الإخلاص/١ - ٤].
وهو سبحانه القوي وكل ماسواه ضعيف .. وهو القادر وكل ما سواه عاجز .. وهو الكبير وكل ما سواه صغير .. وهو الغني وكل ما سواه فقير إليه .. وهو
1 / 15
العزيز، وكل ماسواه ذليل .. وهو الحق وكل معبود سواه باطل: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (٣٠)﴾ [لقمان/٣٠].
وهو سبحانه العظيم الذي لا أعظم منه .. العلي الذي لا اعلى منه .. الكبير الذي لا أكبرمنه .. الرحمن الذي لا أرحم منه.
وهو سبحانه القوي الذي خلق القوة في كل قوي .. القادر الذي خلق القدرة في كل قادر .. الرحمن الذي خلق الرحمة في كل راحم .. العليم الذي علّم كل مخلوق .. الرزاق الذي الذي خلق جميع الأرزاق والمرزوقين:
﴿ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (١٠٢)﴾ [الأنعام/١٠٢].
وهو سبحانه الإله الحق الذي يستحق العبادة وحده دون سواه، لذاته وجلاله وجماله وجميل إحسانه، وله وحده الأسماء الحسنى والصفات العلا: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (١١)﴾ [الشورى/ ١١].
وهو الحكيم العليم الذي يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد: ﴿أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (٥٤)﴾ [الأعراف/ ٥٤].
وهو سبحانه الأول قبل كل شيء .. الآخر بعد كل شيء .. الظاهر فوق كل شيء .. الباطن دون كل شيء .. العليم بكل شيء وحده لا شريك له: ﴿هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٣)﴾ [الحديد/ ٣].
1 / 16
٢ - أقسام التوحيد
- التوحيد الذي دعت إليه الرسل ونزلت به الكتب نوعان:
١ - الأول: توحيد في المعرفة والإثبات، ويسمى توحيد الربوبية والأسماء والصفات، وهو إثبات حقيقة ذات الرب تعالى، وتوحيد الله بأسمائه وصفاته وأفعاله.
ومعناه: أن يتيقن العبد ويقر أن الله وحده هو الرب الخالق المالك المتصرف المدبر لهذا الكون، الكامل في ذاته، وأسمائه وصفاته، وأفعاله، العليم بكل شيء، المحيط بكل شيء، بيده الملك وهو على كل شيء قدير.
له وحده الأسماء الحسنى، والصفات العلا: ﴿... لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (١١)﴾ [الشورى/ ١١].
٢ - الثاني: توحيد في القصد والطلب، ويسمى توحيد الألوهية والعبادة وهو إفراد الله بجميع أنواع العبادة كالدعاء والصلاة والخوف والرجاء ونحوها.
ومعناه: أن يتيقن العبد ويقر أن الله وحده ذو الألوهية على خلقه أجمعين، وأنه سبحانه المستحق للعبادة وحده دون سواه، فلا يجوز صرف شيء من أنواع العبادة كالدعاء والصلاة والاستعانة والتوكل والخوف والرجاء والذبح والنذر ونحوها إلا للهِ وحده دون سواه، ومن صرف منها شيئًا لغير الله فهو مشرك كافر كما قال سبحانه: ﴿وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ (١١٧)﴾ [المؤمنون/١١٧].
- حكم الإقرار بالتوحيد:
١ - توحيد الألوهية والعبادة كَفَر به وجحده أكثر الخلق، ومن أجل ذلك أرسل الله الرسل إلى الناس، وأنزل عليهم الكتب، ليأمروهم بعبادة الله وحده، وتَرْك عبادة ما سواه.
١ - قال الله تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ (٢٥)﴾ [الأنبياء/٢٥].
1 / 17
٢ - وقال الله تعالى: ﴿وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ﴾ [النحل/٣٦].
٢ - توحيد الربوبية يقر به الإنسان بموجب فطرته ونظره في الكون، والإقرار به وحده لا يكفي للإيمان بالله والنجاة من العذاب، فقد أقر به إبليس، وأقر به المشركون فلم ينفعهم لأنهم لم يقروا بتوحيد العبادة للهِ وحده.
فمن أقر بتوحيد الربوبية فقط لم يكن موحدًا ولا مسلمًا، ولم يَحْرم دمه ولا ماله حتى يقر بتوحيد الألوهية، فيشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ويقر بأن الله وحده هو المستحق للعبادة دون سواه، ويلتزم بعبادة الله وحده لا شريك له.
- توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية متلازمان:
١ - توحيد الربوبية مستلزم لتوحيد الألوهية، فمن أقر بأن الله وحده هو الرب الخالق المالك الرازق لزمه أن يقر بأنه لا يستحق العبادة إلا الله وحده، فلا يدعو إلا الله، ولا يستغيث إلا به، ولا يتوكل إلا عليه، ولا يصرف شيئًا من أنواع العبادة إلا للهِ وحده دون سواه، وتوحيد الألوهية مستلزم لتوحيد الربوبية فكل من عبد الله وحده ولم يشرك به شيئًا لا بد أن يكون قد اعتقد أن الله ربه وخالقه ومالكه.
٢ - الربوبية والألوهية تارة يذكران معًا فيفترقان في المعنى فيكون معنى الرب المالك المتصرف ويكون معنى الإله المعبود بحق المستحق للعبادة وحده دون سواه كما قال سبحانه: ﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (١) مَلِكِ النَّاسِ (٢) إِلَهِ النَّاسِ (٣)﴾ [الناس/١ - ٣].
وتارة يذكر أحدهما مفردًا عن الآخر فيجتمعان في المعنى كقوله سبحانه: ﴿قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ﴾ [الأنعام/١٦٤].
- حقيقة التوحيد ولبابه:
أن يرى الإنسان الأمور كلها من الله تعالى رؤيةً تقطع الالتفات عن غيره من الأسباب والوسائط، فلا يرى الخير والشر، والنفع والضر ونحوهما إلا منه تعالى، وأن يعبده سبحانه عبادة يفرده بها ولا يعبد غيره معه.
1 / 18
- ثمرات حقيقة التوحيد:
التوكل على الله وحده، وترك شكاية الخلق، وترك لومهم، والرضا عن الله تعالى، ومحبته، والتسليم لحكمه، وحسن عبادته، ولزوم طاعته.
٣ - فضل التوحيد:
١ - قال الله تعالى: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ (٨٢)﴾ [الأنعام/٨٢].
٢ - وعن عبادة بن الصامت ﵁ أن النبي ﷺ قال: «مَنْ شَهِدَ أَنْ لا إلَهَ إلَّا اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَأَنَّ عِيْسَى عَبْدُاللهِ وَرَسُولُه وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ، وَالجَنَّةُ حَقٌّ، وَالنَّارُ حَقٌّ، أَدْخَلَهُ اللهُ الجَنَّةَ عَلَى مَا كَانَ مِنَ العَمَلِ». متفق عليه (١).
- جزاء أهل التوحيد:
١ - قال اللهُ تعالى: ﴿... وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (٢٥)﴾ [البقرة/٢٥].
٢ - وعن جابر ﵁ قال: أتى النبي ﷺ رجل فقال: يا رسول الله ما الموجبتان؟ فقال: «مَنْ مَاتَ لا يُشْرِكُ بِاللهِ شَيْئًا دَخَلَ الجَنَّةَ، وَمَنْ مَاتَ يُشْرِكُ بِاللهِ شَيْئًا دَخَلَ النَّار». أخرجه مسلم (٢).
- عظمة كلمة التوحيد:
عن عبد الله بن عمرو بن العاص ﵄ ... أن رسول الله ﷺ قال: «إنَّ نَبِيَّ اللهِ نُوحًا ﷺ لما حَضَرَتْهُ الوَفَاةُ قَالَ لابنهِ: «إنِّي قَاصٌّ عَلَيْكَ الوَصِيَّةَ: آمُرُكَ بِاثْنَتَيْنِ، وَأَنْهَاكَ عَنِ اثْنَتَيْنِ، آمُرُكَ بـ (لا إلَهَ إلَّا الله) فَإنَّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعَ،
_________
(١) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (٣٤٣٥)، واللفظ له، ومسلم برقم (٢٨).
(٢) أخرجه مسلم برقم (٩٣).
1 / 19
وَالأَرْضِينَ السَّبْعَ لَوْ وُضِعَتْ فِي كِفَّةٍ، وَوُضِعَتْ لا إلَهَ إلَّا اللهُ فِي كِفَّةٍ، رَجحَتْ بِهِنَّ لا إلَهَ إلا اللهُ، وَلَو أَنَّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعَ، وَالأرْضِينَ السَّبْعَ، كُنَّ حَلْقَةً مُبْهَمَةً قَصَمَتْهُنَّ لا إلَهَ إلا اللهُ، وَسُبْحَانَ اللهِ وَبِحَمْدِهِ، فَإنَّهَا صَلاةُ كُلِّ شَيْءٍ، وَبِهَا يُرْزَقُ الخَلْقُ، وَأَنْهَاكَ عَنِ الشِّرْكِ وَالكِبْرِ ...». أخرجه أحمد والبخاري في الأدب المفرد (١).
- كمال التوحيد:
التوحيد لا يتم إلا بعبادة الله وحده لا شريك له، واجتناب الطاغوت كما قال سبحانه: ﴿وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ﴾ [النحل/٣٦].
- صفة الطاغوت:
الطاغوت: كل ما تجاوز به العبد حده من معبود كالأصنام، أو متبوع كالكهان وعلماء السوء، أو مطاع كالأمراء والرؤساء الخارجين عن طاعة الله.
والطواغيت كثيرون ورؤوسهم خمسة:
إبليس أعاذنا الله منه، ومن عُبد وهو راض، ومن دعا الناس إلى عبادة نفسه، ومن ادعى شيئًا من علم الغيب، ومن حَكَم بغير ما أنزل الله.
قال الله تعالى: ﴿اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (٢٥٧)﴾ [البقرة/٢٥٧].
_________
(١) صحيح/ أخرجه أحمد برقم (٦٥٨٣)، وأخرجه البخاري في الأدب المفرد برقم (٥٥٨)، انظر السلسلة الصحيحة للألباني رقم (١٣٤).
1 / 20
٣ - العبادة
- معنى العبادة:
الذي يستحق العبادة هو الله وحده، والعبادة تطلق على شيئين:
١ - الأول: التعبد: وهو التذلل للهِ ﷿ بفعل أوامره، واجتناب نواهيه محبة له وتعظيمًا.
٢ - الثاني: المتعبد به: ويشمل كل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة كالدعاء، والذكر، والصلاة، والمحبة ونحوها، فالصلاة مثلًا عبادة، وفعلها تعبد للهِ، فنعبد الله وحده بالتذلل له، محبة له وتعظيمًا له، ولا نعبده إلا بما شرع.
- حكمة خلق الجن والإنس:
لم يخلق الله الثقلين -الجن والإنس- عبثًا أو سدى، لم يخلقهم ليأكلوا ويشربوا، ويلهوا ويلعبوا ويضحكوا.
إنما خلقهم ربهم لأمر عظيم ليعبدوا الله ﷿، ويوحدوه، ويعظموه، ويكبروه ويطيعوه: بفعل أوامره، واجتناب نواهيه، والوقوف عند حدوده، وترك عبادة ما سواه، كما قال سبحانه: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (٥٦)﴾ [الذاريات/٥٦].
فإذا فعلوا ذلك سعدوا في الدنيا، وفازوا بالجنة والقرب من ربهم كما قال ﷾: ﴿إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (٥٤) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ (٥٥)﴾ [القمر/٥٤ - ٥٥].
- حكمة العبادة:
امتثال أوامر الله واجتناب نواهيه مبنيّ على الإيمان بالله ﷿، وإدامة تصور عظمة الخالق ومالك الملك في القلوب، وذلك بكثرة ذكره، ولإدامة هذا التصور ورسوخه في القلب شرع الله لعباده مُذكِّرًا مكرَّرًا، وعملًا متجددًا، وهو
1 / 21
العبادة، وإذا زاد الإيمان وقوي زادت الأعمال وقويت، ثم صلحت الأحوال بالفوز بسعادة الدارين، والعكس بالعكس.
١ - قال الله تعالى: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا (٤١) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (٤٢)﴾ ... [الأحزاب/٤١ - ٤٢].
٢ - وقال الله تعالى: ﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (٩٦)﴾ [الأعراف/٩٦].
- طريق العبودية:
عبادة الله ﷿ مبنية على أصلين عظيمين:
حب كامل للهِ ﷿ وذل تام له.
وهذان الأصلان مبنيان على أصلين عظيمين وهما: مشاهدة منة الله وفضله وإحسانه ورحمته التي توجب المحبة، ومطالعة عيب النفس والعمل الذي يورث الذل التام للهِ ﷿.
وأقرب باب يدخل منه العبد إلى ربه باب الافتقار إلى ربه، فلا يرى نفسه إلا مفلسًا ولا يرى لنفسه حالًا ولا مقامًا ولا سببًا يتعلق به، ولا وسيلة يمن بها، بل يشهد ضرورته كاملة إلى ربه ﷿، وأنه إن تخلى عنه خسر وهلك.
١ - قال الله تعالى: ﴿وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ (٥٣)﴾ [النحل/٥٣].
٢ - وقال الله تعالى: ﴿يَاأَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (١٥)﴾ [فاطر/١٥].
- أكمل الناس عبادة:
أكمل الناس عبادة الأنبياء والرسل؛ لأنهم أكملهم معرفة بالله، وعلمًا به، وتعظيمًا له من غيرهم، ثم زادهم الله فضلًا بإرسالهم إلى الناس، فصار لهم فضل الرسالة، وفضل العبودية الخاصة.
1 / 22
ثم يليهم الصديقون الذين كمل تصديقهم للهِ ولرسوله واستقاموا على أمره، ثم الشهداء، ثم الصالحون، كما قال سبحانه: ﴿وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا (٦٩)﴾ [النساء/٦٩].
- حق الله على العباد:
حق الله على أهل السماوات وأهل الأرض أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئًا، بأن يطاع فلا يعصى، ويُذكر فلا يُنسى، ويُشكر فلا يُكفر، ومن الذي لم يصدر منه خلاف ما خُلق له إما عجزًا وإما جهلًا، وإما تفريطًا وإما تقصيرًا.
لذا فلو أن الله عذب أهل سماواته وأهل أرضه لعذبهم وهو غير ظالم لهم، ولو رحمهم كانت رحمته خيرًا لهم من أعمالهم.
عن معاذ بن جبل ﵁ قال: كنت ردف النبي ﷺ على حمار يقال له عفير قال: فقال: «يَا مُعَاذُ تَدْرِي مَا حَقُّ اللهِ عَلَى العِبَادِ، وَمَا حَقُّ العِبَادِ عَلَى اللهِ؟» قال: قلت: اللهُ ورسولُهُ أعلمُ، قال: «فَإنَّ حَقَّ اللهِ عَلَى العِبَادِ أَنْ يَعْبُدُوا اللهَ وَلا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَحَقُّ العِبَادِ عَلَى اللهِ ﷿ أَنْ لا يُعَذِّبَ مَنْ لا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا» قال: قلتُ يَا رَسُولَ اللهِ أَفَلا أبشرُ النَّاسَ؟ قال: «لا تُبَشِّرْهُمْ فَيَتَّكِلُوْا». متفق عليه (١).
- كمال العبودية:
١ - كل عبد يتقلب بين ثلاث: نعم من الله تترادف عليه، فواجبه فيها الحمد والشكر، وذنوب اقترفها، فواجبه الاستغفار منها، ومصائب يبتليه الله بها، فواجبه فيها الصبر، ومن قام بواجب هذه الثلاث سعد في الدنيا والآخرة.
٢ - الله ﷿ يبتلي عباده ليمتحن صبرهم وعبوديتهم لا ليهلكهم ويعذبهم، فلله على عبده عبودية في الضراء كما له عبودية في السراء، وله عبودية فيما يكره
_________
(١) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (٢٨٥٦)، ومسلم برقم (٣٠)، واللفظ له.
1 / 23
كما له عبودية فيما يحب، وأكثر الناس يعطون العبودية فيما يحبون، والشأن إعطاء العبودية في المكاره، وهم متفاوتون في ذلك، فالوضوء بالماء البارد في شدة الحر عبودية، ونكاح زوجته الحسناء عبودية، والوضوء بالماء البارد في شدة البرد عبودية، وترك المعاصي التي ترغبها النفس من غير خوف الناس عبودية، والصبر على الجوع والأذى عبودية، ولكن فرق بين العبوديتين.
فمن كان قائمًا للهِ بالعبوديتين في حال السراء والضراء، وحال المكروه والمحبوب، فهو من عباد الله الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، وليس لعدوه سلطان عليه فالله يحفظه، ولكن قد يغتاله الشيطان أحيانًا، فإن العبد قد بلي بالغفلة والشهوة والغضب، ودخول الشيطان على العبد من هذه الأبواب الثلاثة. وقد سلط الله على كل عبد نفسه وهواه وشيطانه وابتلاه هل يطيعها أم يطيع ربه.
والله ﷿ له على الإنسان أوامر، والنفس لها أوامر، والله يريد من الإنسان تكميل الإيمان والأعمال الصالحة، والنفس تريد تكميل الأموال والشهوات، والله ﷿ يريد منا العمل للآخرة، والنفس تريد العمل للدنيا، والإيمان هو سبيل النجاة والمصباح الذي يبصر به الحق من غيره وهذا محل الابتلاء.
١ - قال الله تعالى: ﴿أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (٢) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ (٣)﴾ [العنكبوت ٢ - ٣].
٢ - وقال الله تعالى: ﴿وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (٥٣)﴾ [يوسف/٥٣].
- فقه العبودية:
الأرض قابلة لما يُغرس فيها من حلو ومر، وأرض الفطرة رحبة قابلة لما يُغرس فيها
فمن غرس شجرة الإيمان والتقوى جني حلاوة الأبد.
ومن غرس شجرة الكفر والجهل والمعاصي جنى شقاوة الأبد.
وأعظم المعارف أن تعرف ربك، وما يجب له.
1 / 24
فتقر له بالجهل في العلم .. والتقصير في العمل .. والعيب في النفس .. والتفريط في حق الله .. والظلم في معاملته.
فهذا العارف حقًا:
إن عمل حسنة رآها منة من الله عليه، فإنْ قَبِلها فمنَّة ثانية، فإن ضاعفها فمنَّة ثالثة، وإن ردها فلكون مثلها لا يصلح أن يواجه به.
وإن عمل سيئة رآها من تخلِّي ربه عنه، وإمساك عصمته عنه.
إنْ أَخَذه بذنوبه رأى عدله، وإن لم يؤاخذه بها رأى فضله، وإن غفرها له فبمحض إحسانه وكرمه.
وجميع ما في السماوات والأرض عبيد لله.
وكل إنسان يجب أن يقر أنه عبدًا لله كونًا وشرعًا:
فأنت عبده كونًا؛ لأنه الخالق لك، والمالك لك، المدبر لأمرك، وأنت عبده إن شاء أعطاك، وإن شاء منعك، وإن شاء أغناك، وإن شاء أفقرك، وإن شاء هداك، وإن شاء أضلك.
يفعل بك ما يشاء حسب ما تقتضيه حكمته ورحمته.
وأنت عبده شرعًا ً، يجب أن تعبده بما شرع، تفعل الأوامر، وتجتنب النواهي، وتؤمن بالله؛ لتسعد في الدنيا والآخرة.
وجميع الخلق فقراء إلى الله، وفقرهم قسمان:
١ - فقر اضطراري، وهو فقر جميع المخلوقات إلى ربها في وجودها وحركتها وما يلزمها.
٢ - وفقر اختياري، وهو ثمرة معرفتين: معرفة العبد ربه، ومعرفة العبد نفسه. فمن عرف ربه بالغنى المطلق، عرف نفسه بالفقر المطلق، ولزم باب العبودية إلى أن يلقى ربه: ﴿يَاأَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ﴾ [فاطر/١٥].
1 / 25