فقال عبد المنعم، وقد ارتفع صوته حتى جعل الشاب الذي يجلس بينه وبين أخيه يردد رأسه بينهما كالمنزعج: عندي، وعند كل مؤمن .. ولكن دعني أسألك أولا كيف تعيش؟ - بإيماني الخاص، إيماني بالعلم والإنسانية وبالغد، وبما ألتزمه من واجبات ترمي في النهاية إلى تمهيد الأرض لبناء جديد. - هدمت كل ما الإنسان إنسان به .. - بل قل بقاء عقيدة أكثر من ألف سنة آية لا على قوتها، ولكن على خطة بعض بني الإنسان، ذلك ضد معنى الحياة المتجددة، ما يصلح لي وأنا طفل يجب أن أغيره وأنا رجل. طالما كان الإنسان عبدا للطبيعة .. والإنسان، وهو يقاوم عبودية الطبيعة بالعلم والاختراع كما يقاوم عبودية الإنسان بالمذاهب التقدمية، ما عدا ذلك فهو نوع من الفرامل الضاغطة على عجلة الإنسانية الحرة!
فقال عبد المنعم، وكان في تلك اللحظة يكره فكرة أخوة أحمد له: الإلحاد سهل، حل سهل هروبي؛ هروبي من الواجبات التي يلتزمها المؤمن حيال ربه ونفسه والناس، وليس من برهان على الإلحاد يمكن أن يعد أقوى من البرهان على الإيمان، فنحن لا نختار هذا أو ذاك بعقولنا بقدر ما نختاره بأخلاقنا ..
وتدخل رضوان قائلا: لا تستسلما لعنف المناقشة، كان من الأفضل لكما كأخوين أن تكونا من حزب واحد ..
وإذا بحلمي عزت يندفع قائلا، وكان أحيانا تعتريه نوبات ثائرة غامضة: إيمان .. إنسانية .. الغد ! كلام فارغ ، النظام القائم على العلم وحده ينبغي أن يكون كل شيء، يجب أن نؤمن بشيء واحد هو استئصال الضعف البشري بكافة أنواعه، ومهما بدا علمنا قاسيا، وذلك للوصول بالبشرية إلى مثال قوي نظيف! - أهذه مبادئ الوفد الجديدة بعد المعاهدة؟
فضحك حلمي عزت ضحكة عادت به إلى حالته الطبيعية، وقال عنه رضوان: إنه حقا وفدي، ولكن تطوف به أحيانا مذاهب طارئة غريبة فيدعو إلى القتل بالجملة، وربما دل ذلك على أنه لم ينم أمس نوما مريحا؟
وكان لشدة الخصام رد فعل فساد الصمت، فسر بذلك رضوان، وسرح بصره فيما حوله فراح يتابع بعض الحدأ المدومة في السماء، أو يرنو إلى أسراب النخيل، الكل يعلن رأيه حتى ما يتهجم به على الخالق، ولكنه لا يسعه إلا أن يكتم ما يضطرم في أعماق نفسه، وسيظل سرا مرعبا يتهدده، فهو كالمطارد، أو كالغريب، من الذي قسم البشر إلى طبيعي وشاذ؟ وكيف تكون الخصم والحكم في آن؟ ولم نهزأ كثيرا بالتعساء؟ قال رضوان مخاطبا عبد المنعم: لا تزعل، إن للدين ربا يحميه، أما أنت فبعد تسعة أشهر على الأكثر ستكون أبا!
حقا؟!
فقال أحمد مداعبا أخاه ليمسح عنه آثار الحدة: أهون علي أن أتعرض لغضب الله من أن أتعرض لغضبك!
ثم مضى أحمد يحدث نفسه: غضب أم لم يغضب فسيجد عند عودته إلى السكرية صدرا حانيا، أمن المستحيل أن أعود يوما فأجد علوية صبري في الدور الأول بالسكرية؟
وندت عنه ضحكة، ولكن أحدا لم يخمن السبب الحقيقي لضحكته ..
Página desconocida